عناصر الخطبة

1/دور العلماء في صيانة الشريعة

2/مكانة الإمام البخاري ومصنفاته

3/صحيح البخاري ومنزلته من كتب السنة

4/أهداف حملات الطعن على علماء الإسلام ومصنفاتهم

5/دورنا في نصرة السنة النبوية.

الْخُطبَةُ الْأُولَى:

 

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق تقاته؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

عباد الله: فإن الله ميز هذه الأمة بالحفظ والضبط والاتقان؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9], وقام العدول الثقات من علماء الإسلام بحمل هذا الدين وتبليغه للناس, وقاموا  بحراسة الشريعة؛ فحفظت معاقد الدين ومعاقله، وحميت من التغيير والتكدير موارده ومناهلُه، وفي الحديث الذي رواه ابن عبد البر يقول رسول -صلى الله عليه وسلم-: “يحمل هذا الدين من كلّ خلفٍ عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين“(أخرجه ابن حبان في الثقات، وأبو نعيم في معرفة الصحابة).

 

ومن ذلكم حملة القرآن ورواة الحديث والسنن والمسانيد, ومن أجلِّهم الإمام الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري، المولود في مدينة بخارى سنة 194هـ، ويوصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، قال ابن كثير: “هو إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه”.

 

وكان البخاري عالما عاملا، حافظا متبعا، في غاية الحياء والشجاعة والسخاء، والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء, وصنف البخاري نحو عشرين مصنفاً، منها: “الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه”, المعروف اختصاراً بـ”صحيح البخاري”, وكتاب الأدب المفرد، والتاريخ الكبير، وهو كتاب في التراجم، والتاريخ الصغير، وهو تاريخ مختصر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومن جاء بعدهم من الرواة.

 

و”صحيح البخاري” أشهر كتب الحديث قاطبةً، وبذل فيه مؤلفه جهداً كبيراً، فقضى في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عاماً, واشترط شروطا خاصة بل وقاسية في الراوي، فاشترط الرؤية والسماع معاً، إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.

 

وكان البخاري لا يضع حديثاً في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين، وابتدأ تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، وتعهده بالمراجعة والتنقيح، وصنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن, وتوفي الإمام البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ, رحمه الله ورضي عنه وجزاه خيراً.

 

البخاري أمير المؤمنين في الحديث، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة -رحمه الله-: “ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري”، وقال عنه الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: “جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث”، البخاري الذي شهدت له الدنيا بأسرها بالإمامة المطلقة في الحديث رواية ودراية، وأجمعت على قبول مصنفه الصحيح؛ لما جمع فيه من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع إمامةٍ في الحفظ والإتقان، وفقه تام لما يروي، وأطلقوا عليه أنه أصح كتاب بعد كتاب الله -تعالى-.

 

هذا الكتاب الذي حظي بالعناية الفائقة من علماء الإسلام منذ تأليفه في بداية القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا، فكم من مختصر وشارح له!، ومستخرج على رواياته، ومتتبع لمروياته!، ومستدرك عليه، ومدافع عنه؛ عدد لا يحصى!، وكما قال المثل المشهور: “الموردُ العذب شديدُ الزحام”, فما وسع الناس إلا أن يقروا بفضله وعظيم قدره، وكما قيل:

 

والناسُ أكيسُ من أن يحمدوا رجلاً ***حتى يروا عنده آثار إحسانِ

 

والقصد من هذه الخطبة بيان منزلة هذا الكتاب المبارك “صحيح البخاري”, وأثره في حياة المسلمين، في وقت بدأت فيه أنياب الإلحاد، ومعاول الفساد، تنهش في أصول الإسلام وتلمز عظمائه؛ بقصد تشكيك المسلمين في ثوابتهم، ومصادر تلقيهم، ظناً من أولئك أنهم سينالون نيلاً، يصرفون به وجه الحق الذي عليه أمة الهدى والهداية، وما علموا أن معاولهم الواهية ستتكسر في صخرة صماء لا تقبل النهش ولا الهدم، وكان حسبها أن تتعظ بقول الأول:

 

يا ناطح الجبل العالي ليوهنه *** أشفقْ على الرأس لا تُشفق على الجبل

 

أو قول الآخر:

 

كناطحٍ صخرةً يوماً ليُوهنها *** فلم يُضرْها وأوهى قرنه الوعلُ

 

نعم؛ لقد تكسرت المعاول وتهشمت تلك الأنياب، وسمجت تلك الأقوال التي أرادت أن تنال من القرآن وكتب الإسلام العظيمة؛ لأنها هرفت بما لا تعرف، ومن جهل شيئاً عاداه، وسرعان ما كانت تلك المحاولات البائسة اليائسة، قديمها وحديثها، تتهاوى أمام صدق إيمان المسلمين, وتذوب أمام شعاع دفاع العلماء الربانيين!.

 

إن كتاب الجامع الصحيح سيبقى شامة بين كتب الإسلام عموماً، وكتب السنة خصوصاً؛ لما فيه من نور الهداية النبوية, الذي يضيء للأمة معالم دينها وسماحة شرعها، وصدق الله إذ يقول: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[الرعد: 17].

 

حملات التطاول والطعن على “صحيح البخاري” وغيره من كتب السُنة النبوية، هي حملات مقصودة ومدبرة لإحداث بلبلة وفتنة وارباك في صفوف المسلمين؛ لأن الكثير من الأحاديث النبوية الواردة في هذه الكتب تحدد وتحكم العديد من القضايا التي تمس حياة المسلم.

 

حملات التطاول على صحيح البخاري وغيره من كتب السنة لا تستند على منهج علمي مقبول، ومن يقف وراءها لا علم له ولا ثقافة، وجهل بأبسط قواعد النقد العلمي، ألفاظ وعبارات رنانة؛ لجذب العامة ولفت الأنظار، بضاعة مزجاة تورد عددا من النصوص بلا استيعاب؛ فكان حكمهم نابعا من الهوى, لا على العدل والانصاف!.

 

التشكيك والطعن مرفوض رفضاً تاماً، بينما النقد العلمي مقبول ومتاح، إذا كان من مختص وعالم، هدفه الوصول للحق؛ فالعلماء بشر غير معصومين، والكمال لله -عز وجل-، وحسبنا أن نثني على دورهم في خدمة السنة، ونكمل مسيرتهم.

 

إن ما يتفوه به بعض هؤلاء المخدوعين نابع عن جهل وعدم معرفة, فلا هم من العلماء الأثبات حتى يعتد بقولهم, أو يلتفت لنقدهم, فضلا عن تغريدة طائشة, ومقال مسموم, وقلم مكسور.

 

وحملات التشكيك في دواوين الإسلام هي دعاوى خبيثة ومدبرة، يهدف مروجوها من ورائها الطعن في السُنة النبوية نفسها؛ ومن هنا -عباد الله- كان من الضروري التصدي لهذه الحملات بالحجة والبرهان، وتوعية المسلمين بأهمية الكتب التي وضعها كبار الأئمة في السُنة النبوية والسيرة العطرة، وبيان أمانتهم ودقتهم, وما بذلوه من جهد وإنتاج علمي في جمع النصوص من مصادرها، وتوثيقها وتيسيرها للناس.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى, وسمع الله لكل من دعا.

 

عباد الله: لنكن إيجابيين في ردود أفعالنا وذلك بالمبادرات العملية والعلمية النافعة, ومن ذلك قراءة كتب السنة وتيسيرها للعامة والناشئة, مثل: مختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي أو الشيخ الألباني, وكتاب اللؤلؤ والمرجان وغيرها؛ لتعيش الأسرة والنشء والطلاب مع كلام نبيها وشفيعها محمد -عليه الصلاة والسلام-.

 

وعلى الآباء والمربين والدعاة والخطباء كفل كبير في زرع القيم والمحافظة على الفطرة, ولنقل للنشء وللناس: إن الطعن في البخاري هو طعن في السنة, وإن القرآن والسنة والسيرة العطرة خط أحمر, وإنهما من ثوابتنا ومقدساتنا العظيمة التي لا تمس, وهذه الأمور تدفعنا للاقتداء بالسلف الصالحين في خلقهم وتعاملهم, وهذا باب رحب للمربين والمعلمين.