عملُ أهل الصفَّة وتكسُّبهم رضي الله عنهم

 

قال الفرَّاء: الفقراء أهل الصُّفَّة لم يكن لهم عشائر ولا مال، كانوا يلتمسون الفضل ثمَّ يؤوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].

 

أورد الماوري في تفسير قوله تعالى: ﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [2] قولين، أحدهما: أنَّها نزلت في أهل الصُّفَّة، وكانوا قومًا من المهاجرين فقراء، ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، فنزلوا صُفَّة المسجد، وكانوا نحو أربعمائة رجل يتلمَّسون الرزق بالنهار ويؤوون إلى الصُّفَّة في الليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مما يصيب الرجال بالكسوة والطعام، فهمَّ أهل الصُّفَّة أن يتزوجوهن؛ ليؤووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت فيهن هذه الآية.[3]

 

والشاهد قوله: (وكانوا نحو أربعمائة رجل يتلمَّسون الرزق بالنهار ويؤوون إلى الصُّفَّة في الليل).

 

قال ابن تيمية، رحمه الله: «وكان فقراء المسلمين من أهل الصُّفَّة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الَّذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله.. فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق.. ولم يكن في الصحابة لا أهل الصُّفَّة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس ولا الإلحاف في المسألة بالكدية والشحاذة، لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك»[4].

 

وذكر الشاطبي في الاعتصام أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنزل صُفَّة المسجد من لم يجد وجهًا يتكسَّب به لقوت ولا لسكنى، وحضَّ أصحابه على إعانتهم، والإحسان إليهم؛ لأنهم أضياف الإسلام، وحق على الضيف إكرامه والإنفاق عليه حتَّى يجد السعة والرزق، ثمَّ قال: ومع ذلك كانوا بين طالب للقرآن والسنة كأبي هريرة، فإنه قصر نفسه على ذلك، وكان منهم من يتفرغ إلى ذكر الله وعبادته، وقراءة القرآن، فإذا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا معه، وإذا أقام أقام معه، حتَّى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين، فصاروا إلى ما صار الناس إليه غيرهم ممن كان ذا أهل ومال، وطلب للمعاش واتخاذ المسكن؛ لأن العذر الَّذي حبسهم في الصُّفَّة قد زال، فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض، فالذي تحصَّل أن القعود في الصُّفَّة لم يكن مقصودًا لنفسه، ولا بناء الصُّفَّة للفقراء مقصودًا بحيث يقال: إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه، ولا هي شرعية تطلب بحيث يقال: إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصُّفَّة، والدليل من العمل أن المقصود بالصُّفَّة لم يدُم، ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها، ولا عمرت بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة، لكانوا هم أحق بفهمها أولًا، ثمَّ بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل ا.هـ.[5]

 

وروى أنس بن مالك أن رجلًا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل، أو أطلقه وأتوكل؟ قال: (أعقله وتوكل). قلت: ولا حُجَّة لهم في أهل الصُّفَّة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتَّجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنَّما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسوقون الماء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرأون القرآن بالليل ويصلُّون. هكذا وصفهم البخاري وغيره، فكانوا يتسبَّبون. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصَّهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمَّروا – كأبي هريرة وغيره – وما قعدوا.[6]

 

ويتضح أن أهل الصُّفَّة كما ورد من آثار يعملون إذا وجدوا فرصة لذلك، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

1- عمل بلال بن رباح مؤذنًا في مسجد الرسول الكريم.

2- جاء في ترجمة الصحابي الجليل أبي الأصقع الليثي (أسلم قبل تبوك وشهدها، وكان من أهل الصُّفَّة، خدم النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ومات سنة 83 هـ وعمره مائة وخمس سنين)[7].


[1] تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور،: دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ- 2002 م (5/ 57).

[2] النور: 3.

[3] تفسير الماوردي (النكت والعيون)، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)، تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية- بيروت/ لبنان 3 (4/ 73)، وانظر تفسير القرطبي (12 /168).

[4] الصُّفة، دراسة تاريخية توثيقية، مرجع سابق، (ص: 49).

[5] الصُّفة، دراسة تاريخية توثيقية، مرجع سابق، (ص:50).

[6] تفسير القرطبي، (8/ 108).

[7] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 181)، عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل (المتوفى: 544هـ)، دار الفيحاء- عمان، الطبعة: الثانية- 1407 هـ، (ص: 181).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/spotlight/0/95123/#ixzz6FHn9ZXDR