عقدة البقرة

 

إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

 

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

• أيها الناس:

تعنَّت العقل البشري أمام الوحي، وخاصم الإنسان الفاجرُ ربَّه، واعترض على خالقه، واستكبر عن عبادة سيده ومولاه.

 

ومعنا اليوم صورة من صور اعتراض البشر الضعفاء على الله القويّ، صورة من صور الاستكبار والطغيان، صورة من صور تعنُّتِ بني إسرائيل على أنبياء الله ورسله.

 

نتحدث اليوم عن ((عقدة البقرة)) وهي العقدة التي تعقَّد بها بنو إسرائيل، واضطرب حَالهم فيها، وسألوا، وناقشوا، وجادلوا، وشددوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم.

 

الله عز وجل تكلم في القرآن عن عالم النبات؛ لأنه خالق النبات، وتكلم عن عالم الطيور، وعن عالم الحيوان، وعن عالم الحشرات؛ لأنه خالقها ورازقها ومدبر أمورها.

 

وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ السور التي فيها هذه الكائنات، فسورة النمل، وسورة النحل، وسورة العنكبوت، وسورة البقرة، وسورة الفيل، وغير ذلك من السور التي فيها مخلوقات الله تعالى، فكبُر ذلك الأمر على المشركين، فقال كفار قريش: إن محمداً يستهزئ بكم، يأتينا بكلام يزعم أنه وحيٌ، يتكلم فيه عن عالم الحيوانات والعجماوات والطيورِ والحشراتِ، فما دَخْل الذباب والعنكبوت والكلاب والحمير بهذا الوحي، وما بالها تذكر في القرآن، فرد الله عليهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26].

 

فالذي خلق البعوضة هو الله، والذي خلق الذباب هو الله، والذي جعل الفيل على هيئته هو الله، والذي صور البقرة هو الله، والذي ركّب الطير هو الله، لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه.

 

وقد أشار ابن القيم رحمه الله أن من الناس من هم على ضروب الحيوانات وصفاتها وأخلاقها.

 

ففي الناس مَنْ طبيعتُه كطبيعة الخنزير تماماً، لا يقع إلا على القاذورات، ليس عنده غيرة على محارمه، لا يسمع إلا الفحش من القول، وإذا سمع الجميل فكأنه لم يسمع: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [فصلت: 5].

 

ومن الناس من هو على صفة الذباب لا يقع إلا على الجرح، يذهب إلى نقاط الضعف ويتصيد أخطاء الآخرين، أما المحاسن فلا يذكرها ولا يلتفت إليها.

 

ومن الناس من هو على هيئة الجمل في حلمه، وصبره، وقوة تحمله في الشدائد، وقطع المفاوز والقفار.

 

والمقصود: أن الله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ﴾ [البقرة: 26] وَمَنْ يمنعه تبارك وتعالى أن يتكلم بما شاء، من يمنعه أن يضرب الأمثال، من يمنعه: ﴿ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26]. ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [البقرة: 26] وهم حزب الله من أهل التوحيد، ومن حملة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] أهل الوضوء والصلاة والصيام، أما هؤلاء فيعلمون أن كل ما عند الله عز وجل هو صدقٌ وحقٌّ وعدلٌ، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 26]، ولذلك تراهم يقولون: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، ثم يقصُّ الله علينا قصة البقرة، وسميت أكبر سورة في القرآن باسم البقرة، فتُعْرَفُ بين الناس بهذا الاسم من أجل آيات خمس، فلا يعرف المسلمون هذه السورة إلا بسورة البقرة.

 

وهذه السورة فيها نسف وإبادة لبني إسرائيل، وفيها أحكام شرعية كثيرة، وقواعد عقلية، وآداب وتوجيهات، يصلح بها الفرد والمجتمع وتهتدي بنورها الأمم والشعوب.

 

أما قصة البقرة فذلك ما قال الله عز وجل فيها: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 67 – 71].

 

عباد الله:

هذه هي قصة البقرة كما حكاها القرآن العظيم مصوراً تعنت بني إسرائيل وجدالهم البغيض لأوامر الله عز وجل واستكبارهم عن طاعة نبي الله موسى عليه السلام، وهذا شأن هذه الفئة الضالة في كل زمان وموضع.

 

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67].

 

لماذا يأمرهم الله عز وجل بذلك؟ وما الحكمة في ذبح هذه البقرة؟ وما وجه التكليف في هذا الأمر؟

قال العلماء: قدم الله قصة البقرة ثم ذكر بعد ذلك سبب الأمر بذبحها، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72].

 

قال أهل التفسير: كان رجل من بني إسرائيل غنيّاً ثريّاً فعدا عليه ابن أخيه في الليل فذبحه!! اغتيال رهيب، وقتل للنفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وبعد هذه الجريمة الشنعاء ذهب هذا القاتل المجرم إلى موسى عليه السلام؛ ليخفي جريمته، ويبعد التهمة عن نفسه فبكى بين يدي موسى عليه السلام، قال: ما لك؟ قال: قتل عمي البارحة، ولا أعرف مَنْ قتله!! وأنت نبي الله فسل ربك مَنْ قتله؟

 

فجمع موسى بني إسرائيل وقال: من قتل عمَّ هذا الرجل؟ فقالوا: لا ندري عن ذلك يا موسى، وإن كنت نبيّاً فسل ربك يخبرك.

 

فقام مبتهلاً إلى الله عز وجل وأخذ يدعو الله ويبكي قائلاً: اللهم أخبرنا خبر هذا الرجل. فأوحى الله إليه يا موسى مُرْ بني إسرائيل أن يأخذوا بقرة فيذبحوها، ثم يؤخذ عضو منها فيضرب به الميت، فسوف يَحيا بإذني ويتكلم ويخبر عن قاتله.

 

فقال موسى: اذبحوا بقرة.. أمر يسير، لا تعقيد فيه ولا مشقة.. اذبحوا بقرة. قال ابن عباس -: ((لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم))[1] ولكنهم تعنتوا وتنطعوا وجادلوا في ذلك، قالوا: ما هي البقرة، ما لونها؟ ما صفتها؟ ما سنها؟

 

الله عز وجل يأمرهم بأمر يسير من كلمتين اثنتين: ﴿ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67] فجادلوا في ذلك، وأظلمت عقولهم عن إدراك هذا الأمر، وهذه عادة بني إسرائيل.

 

أنزلهم الله وادٍ فيه منٌّ وسلوى – حمام مشوي وعسل مصفى – وقال: كلوا من هذه الطيبات، فماذا قالوا؟ قالوا: لا، ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ [البقرة: 61].

 

أخرجهم من البحر، [وأقدامهم مبتلة بالماء] فلما خرجوا وذهب موسى يكلِّم ربه عبدوا العجل من دون الله!!

 

قالوا: ظمئنا، أين الماء؟ فضربَ الحجر بالعصا؛ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.

 

قالوا: أين ربك؟ قال: أكلمه. قالوا: اذهب فكلِّمه، فذهب فعبدوا العجل، فلما رجع وجدهم يركعون له ويسجدون، فبكى موسى منهم، وقال: يا ربِّ ما توبة بني إسرائيل؟ قال: خذ من خيارهم سبعين رجلاً، واذهب بهم إلى طور سيناء، وادعوني لأتوب عليكم، قال ابن عباس: وكان فيما دعوا قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، فقال موسى: ﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ﴾ [2] [الأعراف: 155].

 

وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً من خيارهم، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم، أي: من عبادة العجل، سلوا الله التوبة على ما تركتم من الأموال والأولاد، وصوموا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقال السبعون رجلاً لموسى عليه السلام: اطلب لنا أن نسمع كلام الله؟! فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى تغشى الجبل كله؛ ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنا القوم حتى إذا دخلوا وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يُكلَّم، يأمره وينهاه، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا: يا موسى ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: ﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ﴾ [الأعراف: 155]. ربِّ قد سفهوا، أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل بسببهم[3]؟

 

هؤلاء هم خيار بني إسرائيل فما بالك بعامتهم، وما ظنك بشرارهم؟

أيها الناس:

نعود إلى ((عقدة البقرة)) والتي تبدأ من قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ [البقرة: 67]، وهذه كلمة أبي جهل، وكلمة الخونة العملاء أمام الدعاة والعلماء، تتكرر هذه الكلمة في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ [البقرة: 67] أتضحك علينا؟ أتُضَلِّلنا؟ نسألك عن القتيل فتقول: اذبحوا بقرة!! ﴿ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67].

 

قال العلماء: مَنْ سخر من الوحي فقد جهل، ومن عبث في التعليم فقد جهل، ومن أتى بالهزل في موطن الجد فقد جهل، ونبي الله موسى عليه السلام، مبرَّأ مِنْ هذا كلّه.

 

قال بنوا إسرائيل: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾ [البقرة: 68] ألا يعلمون ما هي؟ أم هو الجدال بالباطل والغي والضلال!!

 

﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 68]، أي: ليست بالكبيرة المسنة ولا بالبكر الصغيرة، وإنما هي بين البكر والهرمة، ﴿ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ [البقرة: 68]، على وجه المسارعة والفور.

 

ولكنهم أتوا بتعنتٍ آخر فقالوا: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ﴾ [البقرة: 69]، وهذا من التشدد والتنطع؛ لأن الله عز وجل لم يحدد لوناً معيناً، ولم يلزمهم بالبحث عن ذلك، ولكن العقول الخربة والقلوب الميتة هي التي تشتغل بما لم تؤمر به، وتعرض عما أمرت به.

 

﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69] فهي بقرة صفراء صافٍ لونها، ليس فيها سواد ولا بياض، تعجب الناظرين إذا رأوها. ولكنَّ بني إسرائيل لا يعجبهم أن تنتهي القضية عند هذا الحدّ، فرجعوا إلى موسى وقالوا: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70].

 

قال أبو العالية: لو أن القوم حيث أُمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: ﴿ وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 70] لما هُدوا إليها أبداً[4].

 

﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 71]. أي: إنها بقرة لم يذللها العمل، فهي ليست بذلول تثير الأرض، وكذلك فهي لا تسقي الحرث، أي: لا تعمل في الحرث، إنما ﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ [البقرة: 71] أي: سالمة من العيوب ﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 71] أي: لا بياض فيها، أو أي بقعة تخالف اللون الأصفر.

 

﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ [البقرة: 71]، وانظر إلى تعدي بني إسرائيل على نبي الله موسى عليه السلام، وكأنه قبل ذلك لم يأتهم بالحق، كأنه قبل ذلك كان يلعب معهم، أو يضحك عليهم، أو يستهزئ بهم كما ظنوا في بادئ الأمر. ﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 71]، ومما ورد في ذلك أنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند عجوز تقوم على يتامى وهي القيِّمةُ عليهم، فلما علمت أنه لن تُجْزِئهم غير هذه البقرة ضاعفت عليهم الثمن، فقال موسى: إن الله قد خفَّف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها ما تريد، ففعلوا واشتروها بملء جلدها ذهباً!!

فَقُلْ للعيونِ الرُّمْدِ للشَّمْسِ أعينٌ 
تراها بحقٍّ في مغيبٍ ومطلعِ 
وسامحْ عيوناً أطفأ الله نورها 
بأبصارها لا تستفيقُ ولا تعِ 

 

قال بعض العلماء: مَثَلُ بني إسرائيل الذين تشددوا في معرفة أوصاف هذه البقرة فشدَّد الله عليهم حتى غرِموا وزنها ذهباً، مثلهم كمثل بعض هذه الأمة من الذين ثقُلت عليهم التكاليف الشرعية الميسرة والعبادات التي فرضها الله عز وجل فكان جزاؤهم جهنم وبئس المصير، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً توضؤوا على عَجَلٍ فلم يمس الماء أعقابهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))[5].

 

قال أهل العلم: فمن لم يتحمل مشقة الماء البارد في إسباغ الوضوء حمَّله الله نار جهنم في عقبيه؛ لأنه تهاون في تنفيذ أوامر الله عز وجل وضيعها فضيعه الله يوم القيامة.

 

﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 71]. فلما ذبحوها أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل فلما فعلوا رجعت إليه روحه بإذن الله وقام ينتفض، فسأله موسى: مَنْ قتلك؟ قال: ابن أخي هذا، ثم خرَّ ميتاً كما كان. فجاء موسى بالقاتل المجرم فقتله على جريمته قصاصاً.

 

• أيها الناس:

هذه قصة البقرة كما ذكرها أهل التفسير، والبقر في الرؤيا بشرى خير، فإذا رئيت ربما كان ذلك دليلاً على شهادة في سبيل الله، أو على الخير والصلاح والإيمان، ولا يؤخذ من الرؤى أحكام شرعية؛ وإنما ذلك للاستئناس فقط.

 

• وقد ورد في “الصحيح” عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض به نخل، فذهب وَهْلي[6] إلى أنها اليمامة أو هَجَرُ[7]، فإذا هي المدينة يثرب[8]، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سَيْفاً، فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثم هززتُه أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتحِ واجتماعِ المؤمنين. ورأيت فيها أيضاً بقراً[9]، والله خيرٌ، فإذا هم النفر المؤمنين يومَ أحد..)) الحديث[10].

 

ويستفاد من هذا أن بني إسرائيل لما أمروا بذبح البقرة اعترضوا وجادلوا وناقشوا، أما أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، سمعوا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ [التوبة: 111]. فقالوا: ربح البيع.. ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل.

 

يأتي عمير بن الحمام فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول – وقد دنا المشركون من بدر: ((قوموا على جنة عرضها السماوات والأرض)) فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)) قال: بخٍ بخٍ[11]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات مِن قَرَنه، فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن أنا حَييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة!! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل[12].

 

هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الجنة والنار رأي العين في حديثه عليه الصلاة والسلام، هذا هو الصنف الخالد الذي قدمه عليه الصلاة والسلام للبشرية، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33].

 

قال بعض المفسرين: ﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ ﴾ [الزمر: 33] رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾ [الزمر: 33] أبو بكر رضي الله عنه[13].

 

لقد صدّق أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وآواه حين طارده قومه، وواساه بنفسه وماله حين تخلَّى عنه أهله وعشيرته.

 

إن هناك مدرسة اسمها: ((مدرسة أبي بكر الصديق)) هذه المدرسة تسمع كلام الله، وتلتزم أحكامه، وتصدق بالوحي فلا تفعل إلا ما يرضي الله – تبارك وتعالى.

 

وهناك مدرسة أخرى هي مدرسة: ((أبي جهل)) وهذه المدرسة أسسها المارقون وأهل النفاق والعلمنة، وأصحاب عقدة البقرة من الذين طمس الله بصائرهم.

 

والقائمون على هذه المدرسة يعملون على التكذيب بالوحي، فلا يريدون للوحي أن يتدخَّل في حياة الناس؛ لينير لهم الطريق، فهم يحولون دون سماع صوت الوحي أو نشره، أو فهمه، أو تدريسه، أو تربية الأجيال عليه، أو كتابته، أو التأليف فيه.

 

إن هذه الفئة فئة أبي جهل، والمغيرة بن شعبة، وأهل الضلال من أصحاب عقدة البقرة، ليقفون حجر عثرة في وجه أتباع موسى ومحمد عليهما السلام، وجميع الأنبياء المرسلين: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾ [الفرقان: 31].

 

• عباد الله:

ويستفاد من قصة بني إسرائيل أمورٌ ثلاثة:

الأول: لا يحقُّ للعقل أن يعترض على الوحي، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة تنصبُّ من السماء، فإما أن يرجع عن غَيّه وضلاله، وإما الهلاك المحتوم والمصير المظلم.

 

الثاني: على المسلم أن يتلقَّى هذه الرسالة، وأن يتوجَّه إلى الله بالانقياد والرضا، وأن يسلم قياده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسجد لله عز وجل وأن يعلن انكساره وفقره أمام خالق السماوات والأرض.

 

الثالث: فضل الأمة المحمدية التي سارت على منهج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم قالت لرسولها صلى الله عليه وسلم: لو استعرضت بنا عرض البحر لخضناه معك، اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، وليس كما قالت بنو إسرائيل: ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وليُّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

وبعد: ففي العالم اليوم أطروحة تسمى: أطروحة التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وهذه الأطروحة تدعو إلى نبذ الأديان التي تعمل على التفرقة بين البشر بسبب اختلاف الدين. قالوا: إن سبب النزاع والصراع بين الناس هو الدين، فيجب نبذه والتخلص منه؛ ليعيش الناس في محبة وسلام تحت مظلة الإنسانية التي تجمع الناس جميعاً بزعمهم.

 

وهذه هي مبادئ الماسونية، وهي في صورتها تعمل على نبذ جميع الأديان لتنتشر المحبة بين الناس، ولكن في حقيقتها دعوة خاصة ليتخلى المسلم عن عقيدته، ويتبرَّأ من انتمائه للإسلام، فبينما صدَّق كثير من المنتسبين للإسلام هذه الدعوى، نجد أن الأمر على النقيض من ذلك بين أصحاب الديانات الأخرى، فاليهود يحاولون الرجوع إلى أصولهم المحرَّفة، والنصارى في عودة مستمرة إلى دينهم الباطل، والمسلمون ينتظرون حلول مشاكلهم بتطبيق النظام العالمي الجديد!! ويستسلمون لقوى البغي والعدوان بدعوى التعايش السلمي المزعوم.

 

والله عزَّ وجلَّ يحذِّرنا بعد قصة البقرة من هذا الخداع، ويقطع علينا خطَّ الرجعة حتى لا نطمع في بني إسرائيل، فاليهود هم اليهود في كل عصر ومصر.

إِنَّ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ ♦♦♦ لا تَلِدُ  الحَيَّةُ  إِلاَّ  حَيَّهْ

 

ولو نسيت الكلاب نباحها، والخيول صهيلها، والغنم غثاءها، والحمام هديره، ما نسي اليهودي عداءَه للرسول صلى الله عليه وسلم، فالخيانة مكنونة في دمائهم، والحقد والحسد أصل من أصولهم، وعداؤهم لـ: لا إله إلا الله طبع من طباعهم، يتشربونه في طفولتهم، وفي مدارسهم وجامعاتهم ومنتدياتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75] ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 75] أتظنون أنهم سوف يسالمونكم، ويؤمنون لمبادئكم ويكونون إخوةً لكم ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 75]؟ لا، لا تطمعوا في ذلك، فهي قلوب قست، وأفئدة أظلمت، وأبصار عميت، وآذان أصابها الوقر، وعقولٌ خراب: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]. والقلب الذي هو كالحجارة، أو أشد قسوة لا يُطمع في إخباته، ولا يرجى إيمانه!!

 

إن الله عز وجل قد أنعم على بني إسرائيل بنعم لا تحصى، أطعمهم المنَّ والسلوى، وأنقذهم من فرعون الطاغية، وأراهم الآيات، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فماذا قالوا: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].

 

وقالوا: ﴿ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ﴾ [آل عمران: 181].

 

فقابلوا النعمة بالجحود والكفران، فضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا، وأصابتهم اللعنة أينما حَلّوا: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78 – 79].

 

• أيها الناس: وفي قصة البقرة لطائف أذكرها للاستملاح كما ذكرها أهل العلم، وكما نبَّه عليها المفسرون:

الأولى: قالوا لإمام أهل السُّنَّة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن حنبل: أتذبح البقرة أم تُنحر ما السنة في ذلك؟ فقال الإمام أحمد: بل تذبح: قالوا وما الدليل؟ قال: قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]، وقد بوَّب الإمام البخاري في “الصحيح” في كتاب الحج، قال: باب ذبح الرجل البقر[14].

 

والمقصود من ذلك هو بيان فقه أئمتنا وعلمائنا، وهذه العقول المدركة، والآذان الواعية والقلوب النَّيرة التي رفعت مستوى الثقافة والإدراك والفهم عند المسلمين، حتى صار المسلمون أمة مرهوبة الجانب، قوية الأركان، صلبة المراس، فشرفُنا أحمد بن حنبل، وتاريخُنا ابن تيمية، ومجدُنا مالك، وفخرُنا الشافعي، وسؤددنا أبو حنيفة، هذا ميراثنا، علمٌ نافعٌ موصولٌ بمشكاة النبوة: ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ ﴾ [النور: 35].

 

أما ميراثُ العملاء، أما تاريخ الخونة، أما مجد المنافقين والعلمانين، إما وَتَرٌ، أو بلوت، أو موسيقى حالمة، أو ضياع، أو مجون، ﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾ [النور: 40].

 

الثانية: جواز بيع السَّلَم: وانظر إلى عقل الإمام مالك كيف حلّق به في سماء الاستنباط، فاستنتج من قصة البقرة أن من باع غرضاً بصفة كصفة بقرة بني إسرائيل جاز بيعه بصفة معلومة؛ لأن هذه البقرة وصفت لهم من الله عز وجل فبحثوا عنها فوجدوها.

 

الثالثة: أنه لا ينبغي للمسلم أن يتشدد، أو يتعنت أمام المسائل الشرعية، ولا ينبغي أيضاً أن يسأل العلماء على وجه التعنت والإفحام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغَلوطات[15]. بل ينبغي على طالب العلم أن يكون سؤاله للعلم لا للترف الذهني، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101 – 102].

 

الرابعة: ويؤخذ من هذه القصة أيضاً أن الدين يسر، وأن الله إذا أمر بمر فينبغي أن يؤخذ على ظاهره حتى يثبت خلاف ذلك، فعلى المسلم أن يسارع إلى تنفيذ هذا الأمر دون جدال أو تنطع.

 

الخامسة: ويستفاد من هذه القصة أيضاً أن مَنْ سارع في تنفيذ الأمر في أول وقته هو المأجور، فمن صلى الصلاة في أول وقتها كان أجره أعظم من الذي أخَّرها عن وقتها، قال ابن مسعود: يا رسول الله أي العمل خير؟ قال: ((الصلاةُ على وقتها))، هذه عند البخاري[16]، وعند مسلم[17]: ((الصلاة لوقتها))، وعند الترمذي[18]: ((الصلاة على مواقيتها)).

 

وكذلك من حج في أول عمره، ومن تاب في أول عمره، أفضل ممن ترك الحج أو التوبة حتى بلغ الستين، أو السبعين.

تَفِرُّ مِنَ الْهَجِيرُ وتَتَّقِيهِ 
فَهَلاَّ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا 
وَتُشْفِقُ للمُصِرِّ على الخَطَايَا 
وتَرْحَمُهُ ونَفَسُكَ مَا رَحِمْتَا 
وَيَقْبُحُ بالفتى فِعْلُ التَّصَابِي 
وأَقْبَحُ مِنْهُ شيخٌ قَدْ تَفَتَّا 

 

ولذلك فإن من أخَّر التوبة، وسوَّف بها، وفعل الأفعال الشنيعة، فإنه قد أساء إساءتين؛ إساءة المعصية، وإساءة عدم الإعذار من الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) وذكر منهم: ((الشيخ الزاني))[19].

 

فإن مثل هذا يأتي يوم القيامة ولا حجة له. قال عليه الصلاة والسلام: ((أعذر الله إلى امرئ بلَّغه ستين سنة))[20]. ومعنى الحديث أن الله عز وجل قد قطع عليه الحجة والعذر فلا حجة له ولا عذر عنده، قال تعالى:

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [فاطر: 37].

 

قال ابن عباس: النذير الشيب والمقصود: البدار البدار، لا نصبح كبني إسرائيل نسمع الموعظة فلا نتأثَّر، ولا نُلقي لها بالاً، وإن تأثَّر البعض فتأثر وقتي سرعان ما يزول.

 

إن المطلوب هو الإسراع في صعود سفينة النجاة، ومخالفة أصحاب الجحيم من اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، وقد أمرنا الله عز وجل أن نتبرأ منهم ونستعيذ من طريقتهم في كل ركعة من أي صلاة فنقول: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6 – 7].

 

والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى.

 

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبَّادنا ففيه شبه من النصارى، والأمة اليوم فيها مدرسة تشابه مدرسة اليهود والنصارى؛ في أفكارها، والتوائها، ومحاربتها لدين الله عز وجل يظهر ذلك في أطروحاتها المقدمة، وفي أقلامها العملية التي تهدم الأخلاق وتحارب الفضيلة وتعمل على تنحية الهوية الإسلامية لهذه الأمة واستبدالها بغيرها من آراء وأفكار اليهود والنصارى.

 

نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعاً صراط المغضوب عليهم والضالين.

 

• عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))[21].

 


[1] ((تفسير الطبري)) (1/ 389).

[2] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 239).

[3] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 239).

[4] ((تفسير الطبري)) (1/ 390).

[5] أخرجه البخاري (1/ 49) ومسلم (1/ 214) رقم (26).

[6] وهلي: ظني واعتقادي.

[7] هجر: مدينة معروفة، وهي قاعدة البحرين.

[8] يثرب: هو اسمها في الجاهلية فسماها الله تعالى: المدينة، وسمَّاها الرسول صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة.

[9] قال النووي: قد جاء في غير مسلم زيادة في هذا الحديث: ((ورأيت بقراً تنحر))، وبهذه الزيادة يتم تأويل الرؤيا بما ذكر، فنحر البقرة هو قتل الصحابة – رضي الله عنهم – الذين قتلوا بأحد.

[10] أخرجه البخاري (4/ 183) كتاب المناقب، ومسلم (4/ 1779) كتاب الرؤيا، رقم (2272).

[11] كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير.

[12] أخرجه مسلم (3/ 1510) كتاب الإمارة، رقم (1091).

[13] ذكره السيوطي في ((الدر المنثور)) (5/ 615)، وعزاه لابن جرير، والبارودي في ((معرفة الصحابة)) وابن عساكر.

[14] انظر: (صحيح البخاري) (4/ 184) كتاب الحج، باب (115).

[15] أخرجه أبو داود (3/ 321) كتاب العلم رقم (3656)، وأحمد (5/ 435) والغلوطات: بفتح الغين المعجمة وضم اللام، وهي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا بها فيحصل بذلك شرٌّ وفتنة. وقال الأوزاعي: هي شداد المسائل وصعابها.

[16] (صحيح البخاري)) (1/ 134) كتاب المواقيت، باب (5).

[17] ((صحيح مسلم)) (1/ 88) كتاب الإيمان رقم (135).

[18] ((سنن الترمذي)) (1/ 326) رقم (173)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[19] أخرجه مسلم (1/ 103) كتاب الإيمان رقم (172).

[20] أخرجه البخاري (7/ 171) كتاب الرقاق.

[21] أخرجه مسلم (1/ 288)