صور راقية من بر الوالدين

 

الحمدُ للهِ فاطِرِ الأكوانِ وباريها، ومسيِّر الأفلاكِ ومُجرِيها، ومُقسِّمِ الأرزاقِ ومُعطِيها، وواهبِ الأخلاقِ ومزكِّيها.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريك لهُ، منهُ الـمُبتدأُ، وعليهِ الـمُعتمدُ، وإليهِ الـمُنتَهى، ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8]. وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، النبيُّ المصطفى، والقدوةُ الـمُجتبى:

واللهِ ما ذرأَ الإلهُ وما بَرَى 
خَلْقًا ولا خُلُقًا كأحمدَ في الورى 
فعليه صلَّى اللهُ ما قلمٌ جَرَى 
أو لاحَ برقٌ في الأباطِحِ أو سَرى 

 

والآلِ والصحبِ الكرامِ أوليِ النُّهَى، والتابعينِ وتابعيهم، وكلُّ من اقتفَى، وسلّم تسليمًا كثيرًا أنورا.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أنكم غدًا بين يدي ربكم موقفون، وعلى مثاقيلِ الذَّرِ محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

 

معاشر المؤمنين الكرام: إليكم هذه القصةَ وبدونِ مُقدمات.. فقد ذُكرَ أنَّ أميةَ الكِنانى رضي الله عنه كان عندهُ ولدٌ اسمهُ كِلابُ وكان شابًا صالحًا بارًا، سمعَ أنَّ الجهاد هو أفضلُ الأعمال في الإسلام.. فذهب إلى عمر بن الخطاب وقال له: أرسلني إلى الجهاد.. قال عمر: أحيٌ والداك؟ قال: نعـم. قال: فاستأذنهما. فاستأذنهما وبعد إلحاحٍ شديدٍ، وافقا على مضض، فقد كان وحيدهما، وكان شديد البرِّ بهما.. ذهب كلابٌ إلى الجهاد، ومرت الأيام على الأبوين بطيئة ثقيلة، وما لبِث أن اشتدَّ الشوقُ بالوالد، وذاتَ يومٍ رأى أميةُ حمامةً تُطعمُ فِراخها فجعلَ ينظرُ ويُنشدُ:

لمن شيخانِ قد نشدا كِلابا 
كتابَ اللهِ لو عقلَ الكتابا 
تركتَ أباكَ مُرعَشةٌ يداهُ 
وأُمك لا تُسيغُ لها شرابا 
طويلًا شوقهُ يبكيك فردا 
على حُزنٍ ولا يرجوا الإياب 
إذا هتفت حمامةُ بطنِ وجٍ 
على أفراخها ذكرا كلابا 

ثم اشتدَّ حُزنهُ على ولده، وطالَ بُكائهُ حتى أصابهُ ما أصابَ يعقوبَ عليه السلام، فابيضت عيناهُ من الحزنِ، وفقدَ بصرهُ، ومن شِدَّةِ ما بهِ اخذَ يقول:

أعاذِلُ قد عذلتَ بغير عِلمٍ 
وما تدرى أعاذِلُ ما أُلاقي 
إن الفاروق لم يَردُد كِلابا 
على شيخين سامهما فراق 
سأستعدي على الفاروق ربًّا 
له دفعَ الحجيجُ إلى بُساق 

 

فما كان من أحد أصحابهِ إلا أخذَ بيده يقودهُ حتى أجلسهُ في مجلس عمر بن الخطاب وهو لا يدرى، ثم قال لهُ صاحبه: يا أبا كلاب. قال: نعـم. قال: أنشدنا من بعض أشعارك.. فكان من ضمن ما قال:

إن الفاروقُ لم يَردُد كلابا 
على شيخين سامهما فراق 
سأستعدى على الفاروق ربًا 
له دفعَ الحجيجُ إلى بُساقِ 

فقال عمر: من هذا؟ قالوا: هذا أميــةُ الكناني.. قال عمر: فما خبره؟ قالوا: أرسلتَ ولدهُ إلى الثغور.. قال: ألم يأذن؟ قالوا: أذن على مَضضٍ، فوجَّه عمرُ من فوره أن ابعثوا إلى كِلاب ابن أمية الكنانى على وجه السرعة، فلما مثُل كِلابٌ بين يدي عمر، قال له عمر: ما بلغَ من برك بابيك يا كلاب؟ قال: والله يا أمير المؤمنين: ما أعلم شيئًا يُحبهُ أبى إلا فعلتهُ قبلَ أن يطلبهُ منى، ولا أعلم شيئًا يُبغضهُ أبى إلا تركتهُ قبل أن ينهاني عنه.. قال عمر: زدنـي.. قال: يا أمير المؤمنين: والله إني لا آلوه جَهدي بِرًّا و إحسانًا.. قال عمر: زدنـي.. قال كِلاب: كنت إذا أردت أن احلبَ له، آتى من الليل إلى أغزرِ ناقةٍ في الإبل ثم أُنيخها وأعقلها حتى لا تتحرك طوال الليل، ثم استيقظُ قبيلَ الفجرِ فاستخرجَ من البئر ماءً باردًا، فاغسلُ ضرع الناقة حتى يبرد اللبنُ، ثم احلبه وأعطيه أبى ليشرب.. قال عمر: عجبًا لك، كل هذا لأجل شربة لبن.. فافعل لي كما كنت تفعل لأبيك.. قال كلاب: ولكني أودُ الذهابَ إلى أهلي يا أمير المؤمنين.. قال عمر: عزمت عليك يا كلاب.. فمضى كلابٌ إلى الناقة فحلبَ وفعل كما كانَ يفعلُ لأبيه، ثم أعطى الإناءَ لعمر.. قال عمر لمن حوله: خذوا كلاب فادخلوه في هذه الغرفة وأغلقوا عليه الباب، ثم أرسل عمر إلى الشيخ ليحضر.. فاقبل يُقادُ لا يعلم ما يُرادُ به، يَجرُّ خُطاهُ جرًّا، قد عظم همهٌ، وطالَ شوقهُ.. حتى وقف على أمير المؤمنين، فسأله الفاروق يا أمية: ماذا بقى من لذاتك في الدنيا؟.. قال: ما بقى لي من لـذةٍ يا أمير المؤمنين.. قال عمر: فما تشتهى؟.. قال أمية: اشتهي الموت.. قال عمر: أقسمت عليك يا أميةُ إلا أخبرتني بأعظم ما تتمناهُ الآن، قال أميةُ: أما وقد أقسمت علي، فإني أتمنى لو أن ولدى كلابًا بين يدي الآن أضمهُ واشمهُ وأقبلهُ قبل أن أموت.. قال عمر: فخذ هذا اللبن لتتقوى به.. قال أميةُ: لا حاجة لي به يا أمير المؤمنين.. قال عمر: أقسمتُ عليك يا أميةُ إلا شربت من هذا اللبن.. فلما أخذَ الإناءَ وقربهُ من فمهِ، بكى بُكاءً شديدًا.. وقال: والله إني لأشمُّ رائحةَ ولدى كلاب في هذا اللبن، فبكى عمر حتى جعل ينتفضُ، ثم قال: افتحوا الباب، فاقبل الولد إلى أبيه فضمهُ أبوه ضمةً شديدةً طويلة، وجعل يقبلهُ تارةً، ويشمه تارة.. وجعل عمر رضي الله عنه يبكي.. ثم قال: إن كنت يا كلاب تريد الجنَّة.. فتحت قدمي هذا…

 

القصة الثانية: حدثت في عصرنا الحاضر، وليس في عصر الصحابة ولا التابعين، قصةٌ حقيقةٌ، حدثت في محافظة الاسياح في منطقة القصيم.. بل وفي محكمة الاسياح.. إنها محاكمةٌ غريبةٌ من نوعها.. يجزم كل من شهدها وسمع بها أنها أغربُ خُصومةٍ تشهدها المحاكم الشرعيةُ في تاريخها، وبطلُ هذه القصةِ رجلٌ كبيرٌ في السن اسمه: حيزان، ويسكن وحيدًا، بلا زوجة ولا أولاد، وليس معه أحدٌ إلا عجوزٌ طاعنةٌ في السن إلى حد الوهن.. تلك هي والدته، والتي كان حيزان يتفانى في خدمتها ورعايتها، وتلبية احتياجاتها، وفي مدينة أخرى، يسكنُ شقيقٌ لحيزان اسمهُ غالب، وله زوجةٌ وأبناءٌ وسكنٌ مناسب.. وبين الفينةِ والأخرى يُسافر غالب لزيارة أُمة وأخيهِ حيزان.. وفي أحد تلك الزيارات قال غالب لشقيقه حيزان.. ياحيزان:لقد كبِرَت وتقدمَت بك السن، ووالدتنا بحاجةِ إلى من يرعاها ويقومُ علىخدمتها، فاسمح لي بأخذ أمي معي إلى منزلي حيث نقوم على رعايتها وراحتها، قال حيزان: أنا لازلت قادرًا على خدمتها ورعايتها، ولم اقصر في حقها بشيء، ولن تذهب معك، ولن تعيش مع احدٍ غيري، طالما أني لازلت على قيد الحياة.. أصرَّ غالبٌ على أخذ والدته، وكرَّر مُطالبته لشقيقه بالسماح له بأخذها معه، وأشتدَّ الخلافُ بينهما، حتى وصل إلى طريقٍ مُسدودٍ، ورغمَ تدخلِ أهل الخير بينهما، وتُوسُطِهم لحلِّ النزاعِ، إلا أنَّ كلٌ منهما قد أصرَّ علىأخذِ والدتهِ لخدمتها.. وفي خِضمِّ النزاعِ قال حيزان: يا غالب لا تُتعب نفسك، فلن تأخذ الوالدة مهما كان، وبينيوبينك القضاء.. فما كان من غالب إلا أن توجه لمحكمة الاسياح يشتكي أخاه حيزان.. لتتوالى بينهما الجلسات.. وتتحول القضية إلى رأيٍّ عام على مستوى المحافظة (أيهما يفوز برعاية العجوز)، وعندما عجز القاضي أن يصلَ إلى حلٍ يُقربُ وجهاتِ النظرِ ويُرضي الطرفين، طلبَ إحضارَ العجوزِ للمحكمة، وفي الجلسة المحددة جاء الأخوان بها محمولةً فهي لا تستطيع المشي.. فلما سألها القاضي: يا أم حيزان من تختارين؟.. ورغم تقدمها في السن، إلا أنها كانت تُدرك كل أبعاد السؤال، فقالت: يا فضيلة الشيخ، هذا وأشارت إلى حيزان (عيني هذه)، وهذا، وأشارت إلى غالب عيني الثانية، وحين أصرَّ القاضي على أن تختارَ أحدهما قالت في ثبات، ليس عندي غير هذا يا صاحب الفضيلة، فما كانَ من القاضي إلا أن حكمَ بما تُمليه مصلحتها.. مما يعني أن تُؤخذَ العجوزُ من حيزان وتُعطى لشقيقهِ غالب.. فانفجرَ حيزان باكيًا بكاءً الثكلى، حتى أبكى كل من كان في المحكمة، وخرجَ الأخوينِ يتناوبان حملَ العجوز إلى السيارة التي ستقلها إلى مسكنها الجديد.

 

أما القصة الأخيرة: فتحكيها أحدى الطبيبات فتقول: كنت في عيادتي حين دخلت علي عجوزٌ في الستينات من عمرها، بصحبة ابنها الشاب.. وقد لاحظتُ حِرصهُ الزائدَ عليها.. فهو يُمسك يدها، ويُصلحُ لها عباءتها، ويُناولها الأكلَ والماء.. وبعد سؤالي عن المشكلةِ الصحية، وطلبِ الفحوصات، سألتهُ عن حالتها العقلية، لأني لاحظتُ أن تُصرفاتها لم تكن طبيعيةً، وأن رُدودها غيرُ متزنة، فقال الشاب إنها مُتخلفةٌ عقليًّا، منذ أن ولدت.. تقول الطبيبة فتملكني الفضول فسألته، ومن يرعاها؟ قال أنا.. تقول الطبيبةُ، ومن يهتم بنظافةِ ملابسها وبدنها، قال أنا.. تقول الطبيبةُ فقلت: ولم لا تُحضرُ لها خادمة! فقال الشاب: لأن أُمي مسكينةٌ لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الخادمة ثم لا تخبرني.. سألته: وأين زوجتك؟ ألا ترعى أمك؟.. قال زوجتي لا تقصر مع أمي، فهي تطهو الطعام وترعى الأطفال، وعندنا خادمةً، ولكني أحرصُ على أن آكل مع أمي وأرعاها، لكي أطمئنَ عليها وأراقبَ لها السكر! تقول الطبيبة: فجأة تكلمت الأم وقالت لولدها متى تشتري لي بطاطس؟؟ فقال: أبشري الآن نذهب للبقالة! فظهرت عليها علامات الفرح، وأخذت تقفز بكل براءة وتردد الآن.. الآن.. فالتفت الابن إلي وقال: والله إني لأفرح لفرحتها أكثر من فرحةِ أولادي الصغار.. تقول الطبيبة، تصنعت أني أكتب في ملف المريضة حتى لا يبدو تأثري بالموقف! وسألته: أليسَ لها أولادٌ غيرك؟ فقال الشابُ: أنا وحِيدها.. لأن الوالدَ طلقها بعد شهرٍ من زواجِهما.. تقولُ الطبيبةُ فسألته فمن رباك.. قال جدتي رحمها الله، وتوفيت وعمري عشرُ سنين.. فسألته: ومنذ ذلك الوقت وأنت الذي ترعى أمك، قال نعم، تقول الطبيبة: كتبت لها الوصفة وشرحتُ له الدواء.. فأمسك بيد أمه وقال هيا، الآن نذهب للبقالة، فقالت الأم: لا نذهب إلى مكة.. تقول الطبيبة فسألتها لماذا تريدين الذهاب إلى مكة؟ قالت ببراءة لكي أركب الطائرة! تقول الطبيبة فقلت له: أظن أنها ليست مُكلفة، وليس عليها حرجٌ إن لم تحج أو تعتمر، وستشغلك كثيرًا إن ذهبت بها.. قال الشاب: يا دكتورة، لعل الفرحة التي تفرحها إن أنا ذهبت بها أكثرُ أجرًا عند رب العالمين.. تقول الطبيبة: لم أعد أقوى على الكلام.. وحين خرجوا من العيادة أقفلت الباب وقلت للممرضة: أحتاج للراحة بعض الوقت.. تقول الطبيبة بكيت من كل قلبي، وقلت في نفسي: هذا وهي لم تكن له أمًا.. فقط حملت وولدت، لم تربي.. ولم تسهر الليالي.. ولم تمرٍّض.. ولم تُدرٍّس.. ولم تتألم لألمه.. ولم تبكي لبكائه.. ولم يجافيها النوم خوفًا عليه… ولم ولم ولم… ومع كل ذلك يُقدم لها كُل هذا البر!!.. تواصل الطبيبة كلامها فتقول: تذكرت أمي وقارنت حالي بحاله، وتذكرت أبنائي وتساءلت.. ترى هل سأجد ربعَ هذا البر؟؟ مسحت دموعي وأكملت عيادتي وفي القلب غصة… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم…

 

الخطبة الثاية

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه….

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].

 

معاشر المؤمنين الكرام: لو سأل أحدَنا سائلٌ: منْ مِن الناسِ أكثر مِن والديك يخافُ عليك رقّةَ النسيم، وطنينَ الذباب؟

منْ مِن الناسِ يُؤثرُك على نفسهِ سِواهُما؟

منْ مِن الناسِ يعتقدُ أنَّ صورتك هي أبهى الصور عنده غيرهُما؟

منْ مِن البشرِ يظن أن صوتك هو أشجى الأصوات لديه سِواهُما؟

منْ مِن الناسِ يرى أن رائحتك هي أطيبُ الراوئح عنده غيرهُما؟

منْ مِن الناسِ يتمنى سعادتك ولو بالدنيا كلها؟

 

ليس هناك سوى والديك.

 

ومع كل صورِ الحبِّ الفياضِ والعاطفةِ الرؤوم، والحنانِ المتدفقِ.. فلا يزالُ هناك الكثيرُ من صورِ العقوقِ، ونُكرانِ الجميلِ، وإساءةِ الأدبِ، وسُوءِ المعاملة، مما لا يُصدقُ ولا يُعقل..

 

فيا أيها الأبنـاء: أخاطِبُ فيكم الإيمان، وأناشِدُ فيكم الأخلاق، استيقظوا قبل فوات الأوان.. فالعقوق لا ينفع معه عمل، العاقُّ لا صـلاةَ لهُ، ولا زكاةَ له، ولا حجَّ ولا صيامَ له.. تأمَّل هذا الحديث الصحيح جيدًا.. فعن أبى أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عـدلًا: العاق لوالديه والمنان والمكذب بالقدر”.. وبين النبي صلى الله عليه وسلم بكُلِّ وضوحٍ أنَّ دعوة الوالدين مُستجابة فقال: “ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٍ، لا شكَّ فيهن: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدين على ولدهما”.

 

فيا معاشر الأبناء: اعلموا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، بل إنَّ عاقَّ الوالدين ملعونٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح: “لعن اللهُ من عقَّ والديه”، بل إنَّ عاقَّ الوالدين حرامٌ عليه الجنَّة، كيف وقد دعا عليه أفضلُ أهل السماء جبريل، وأمّنَ على الدعاء أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد صعد صلى الله عليه وسلم درجاتِ منبره ذات مرةٍ فقال: آمين، ثم رقى الثانية فقال: آمين، ثم رقى الثالثة فقال: آمين، فلما سأله الصحابة عن ذلك، قال: “لما كنت في الدرجة الأولى عرض علي جبريل وقال: يا محمد رغم أنف من أدرك أحد أبويه أو كليهما فلم يُدخلاه الجنة قل: آمين، فقلت: آمين” وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه”..

 

فيا أيها الأبناء اتقوا الله في آباءكم، اتقوا الله في أمهاتكم، إياكم والعقوق، اجتهدوا في إكرام والديكم، اجتهدوا في إدخال السرور عليهما، اجتهدوا في طلب رضاهما.. فإن لم يكونوا موجودين فأكثروا من الدُّعاءِ لهما، وتصدقوا عنهما، وصِلوا من الناس من كانوا يصلونهُ فإن ذلك من برهما.. وأنتم يا معاشر الآباء الكرام: أعينوا أبناءكم على بركم، وادعوا لهم بالهداية والتوفيق، وإياكم ثم إياكم أن تدعوا عليهم ولو في حال الغضب.. بل ادعوا لهم، ولا تملوا ولا تفتروا وقدموا بين يدي دعواتكم صدقة تتوسلون بها قبول دُعاكم..

 

تقبل الله منا ومنكم، وأعاننا وإياكم على ما يحب ويرضى..

 

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..