شهر شعبان

اد. محمد عمارة أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر
اد. محمد عمارة أستاذ الفقه بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتد، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، صَلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن والاه، أما بعد،

فسوف نتناول الحديث عن شهر شعبان، من خلال هذه العناصر الثلاث:-

العنصر الأول: فضائل شهر شعبان.

العنصر الثاني: حكمة إكثار النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم منَ الصيام في شهر شعبان.

العنصر الثالث: خطوات نَتَواصى بها، ونحن على عتبات الشهر الكريم.

العنصر الأول: فضائل شهر شعبان

لما رأى النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم انتباه الناس إلى شهر رجب في الجاهليَّة، وتعظيمه وتفضيله على بقيَّة أشهر السَّنَة، ورَأَى تعظيم المسلمين لشهر القرآن، أرادَ أن يُبَيّنَ لهم فضيلة بقية الأشهر والأيام.

عن أسامة بن زيد رضيَ الله عنهما أنَّه سأل النَّبيَّ صَلَّى الله عليه وسَلَّم فقال: يا رسول الله، لم أركَ تصوم شهرًا منَ الشهور ما تصوم في شعبان، فقال صَلَّى الله عليه وسَلَّم:((ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى فأحب أن يُرْفعَ عملي وأنا صائم))[1].

وسؤال أسامة رضي الله عنه يَدُلُّ على مدى اهتمام الصَّحابة الكرام، وتمسكهم بسنة النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم.

وبالفعل كان النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم يصوم شعبان إلاَّ قليلاً؛ كما أخبرت عنه عائشة رضي الله عنها في الحديث المُتَّفق على صحته: ((كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم يصوم حتى نقولَ لا يُفْطر، ويُفْطر حتى نقول لا يصوم))[2].

ولا بدَّ من وجود أمر هام، وراء هذا التَّخصيص منَ الصيام في مثل هذا الشهر، وهذا ما نبَّه عليه النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم بقوله: ((إنَّه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى)).

إذًا؛ فأعمال العباد تُرْفع في هذا الشهر من كل عام، وتُعْرض الأعمال يومَ الاثنين والخميس من كل أسبوع.

ورَفْعُ الأعمال إلى رب العالمينَ على ثلاثة أنواع:

• يُرفع إليه عملُ الليل قبل عمل النَّهار، وعمل النهار قبل عمل الليل.

• ويُرفع إليه العملُ يوم “الاثنين” و”الخميس”.

• ويرفع إليه هذا العمل في شهر “شعبان” خاصَّةً.

فذكر النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّ الأعمال تُرفع إلى الله – تعالى – رفعًا عامًّا كلَّ يوم: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ – وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ – كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ))[3].

فماذا تريد أن يُرفع إلى الله منك؟

إنَّ الأعمال تُرفع، فيُحِبُّ أن ترفعَ وهو صائم، ويحب أن تُرفع الأعمال على أحسن أحوالها.

المعنى إذًا هنا: ماذا تريد أيها المسكين أن يرفعَ لك إلى الله؟

• أن تَرْفعَ الملائكةُ صحائف النَّاس إلى الله، فلا تُوجَدَ في صحيفتك أعمال – هذه الأُولى؟
• أن تَرْفَع الملائكة الصحائف إلى الله تعالى وفيها أعمالُك؛ ولكنها أعمال خسيسة وقليلة، لا تساوي شيئًا؟

يعني: لمَّا رُفِعَت الأعمال وعُرِضَت على الله – تعالى – فماذا تختار لنفسك أن يُعْرَضَ عليه؟ ما يُبَيِّضُ وجهك أو يُسَوِّدُ وجهك؟ ما يُقْبَل أو ما يُرَدُّ؟ ما يكون سببًا لجزيل الثواب أو لقلة الثواب؟

لا شكَّ أنَّ النَّبِي صَلَّى الله عليه وسَلَّم يختار الدرجة العالية، الدرجة الرفيعة التي يؤدي بها، التي تكون سببًا يُعلِّم بها، ويُنبِّه بها المؤمنين على أن يكونوا على هذا الحال، الذي يحبه النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم.

وَرَفْعُ الأعمال إلى الله تعالى مع كونه صائمًا أَدْعَى إلى القبول عند الله تعالى وأحبُّ إلى الله جل وعلا وأن يَتَقَبَّل صالح عمله كله سبحانه وتعالى وأن يُثِيبَه عليه أعظم الإثابة، وأن يُكَافِئَه عليه أعظم مُكَافَأة، وهو ما يسعى إليه المؤمنونَ تَأَسِّيًا واقتداءً بالنبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم.

في هذا الشهر ليلة عظيمة أيضًا، هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم شأنها في قوله: ((يَطَّلِع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلةَ النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن))[4].

فمَن دعا غير الله تعالى فقد أشرك، ومَن سَأَل غير الله فقد أشرَكَ، ومن زارَ قبر النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم وسأله قضاء الحاجات فقد أشركَ، ومن ذبَح لغير الله فقد أشرك.

والمشرك لا يطّلع الله عليه، ولا يغفر له الذُّنوب، وكذلك مَن كانت بينهما شحناء وعَدَاوة لا يغفر الله لهما حتى يَصْطَلِحا.

سبحان الله! يستصغر الناس مثل هذه الأمور؛ لذلك ترى اليوم في مجتمعنا ظهورَ هذه الصفات الذَّميمة بين أفراده، وخصوصًا الذين يَعْمُرُونَ المساجد يُبْغِضُ بعضهم بعضًا؛ لمُجَرَّد أمر حقير لا يستحق أن يُذْكَرَ، وإني لأُذَكِّرُهم بحديث النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم هذا، والمطلوب منهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا.

ولْيَكن الذين هم على شحناء وعَدَاوة على علم ودراية بخطورة هذا الأمر، وأنَّ الشحناء والبغضاء بين إخوة الإيمان سببٌ في عدم قَبول صلاتهم، وعدم قبول أعمالهم، وعدم تطلع ربّ العِزَّة والجلال إليهم في ليلة النصف من شعبان، وأنَّ الله تعالى لا تنفع عنده الأعمال، إلا التي خرجت منَ القلب المُخْلِص لله، الموقن بلقائه: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88 – 89]، قلب لا يحمل حقدًا، ولا حسدًا، ولا غشًّا على أحد من المسلمينَ.

وروى الإمام أحمد في “مسنده”، والنسائي في “سُنَنِه”، بسند حسن، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّميَسْرُدُ حتى نقول لا يفطر، ويُفطر حتى لا يكاد يصوم، إلاَّ يومينِ منَ الجمعة إن كانا في صيامه، وإلاَّ صامهما، ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّكَ تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلاَّ يومين إن دخلا في صيامكَ، وإلا صمتهما: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم: ((أيُّ يومين؟))، قال: الاثنين والخميس، قال صَلَّى الله عليه وسَلَّم: ((ذلك يومان تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأُحب أن يُعرض عملي وأنا صائم))[5].

في هذا الحديث يصف الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما صيام رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم على مدار العام، فكان من هَدْيِه أن يصوم، ويطيل الصوم، حتى يُخَيَّل لأصحابه أنه لا يفطر، وكان يفطر أيامًا متتالية، حتى يُظَنَّ أنه لا يصوم.

اشتهر عن النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم صيامه في شهر شعبان، وأن صيامه في شعبان أكثر من صيامه في غيره، فعن أم المؤمنين عائشة رضيَ الله عنها قالت: “ما رأيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم استكمل صيام شهر قطُّ إلاَّ رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان”[6].

فإلى الذين يسْتَنُّونَ بسنَّة النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم ويقتدون به، ويعلنون للدنيا أن الرسول قدوتهم نقول: قد أقبل عليكم شهر حبيب إلى حبيبكم صَلَّى الله عليه وسَلَّم وقد بان لكم خصوصيَّة هذا الشهر ومكانته، وعَلِمْتُم فضائله ومنزلته، وكيف كان حال النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم فيه، فلقد شاع الخبر أنه كان يُكثر الصيام فيه، فماذا أنتم فاعلونَ؟

إن الباقَة الكريمة منَ الأحاديث الشريفة، التي نوَّرت السطور السابقة، وعطرت مسامعنا تنادي فينا: هلمُّوا، يا أتباع محمد صَلَّى الله عليه وسَلَّم إلى خيرٍ، كان يحرص عليه حتى وفاته.

العنصر الثاني: حِكْمة إكثار النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّممنَ الصِّيام في شعبان

لم يختلفِ الصَّحابة الكِرَام في حال النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم في شهر شعبان، وكيف كان يُكثر الصيام فيه، فما الحكمة في ذلك؟

ذَكَر الإمام الشَّوكاني رحمَه الله تعالى حِكْمَة الإكثار منَ الصيام في شعبان، فقال: “ولعَلَّ الحكمة في صوم شهر شعبان: أنه يعقُبه رمضان، وصومه مفروض، وكان النَّبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم يُكثر منَ الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره؛ لما يفوته منَ التَّطَوُّع، الذي يعتادُه بسبب صوم رمضان”.

وقد ذَكَر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمَه الله تعالى في بيان حكمة إكثار النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم منَ الصِّيام في شعبان: “أنَّ شهر شعبان يغفُل عنه الناس بين رجب ورمضان، حيث يكتنفه شهران عظيمان، الشَّهر الحرام رجب، وشهر الصِّيام رمضان، فقد اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير منَ الناس يظنُّ أنَّ صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأن رجب شهر حرام، وليس الأمر كذلك.

وفي قوله: يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان”، دليل على استحباب عمارة الأوقات التي يغفل عنها الناس ولا يفطنون لها، كما كان في بعض السلف، يستحبون إحياء ما بين العشائين – المغرب والعشاء – ويقولون هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط الليل، حيث يغفل أكثر الناس عن الذِّكر؛ لانشغالهم بالنوم في هذه الساعة؛ وقد قال النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم: ((إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن))[7].

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد؛ منها:

• أن يكون أخفى للعمل، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام؛ فإنه سرّ بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وكان بعض السلف يصوم سنين عددًا، لا يعلم به أحد، فكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكان السلف يستحبون لمن صامَ أن يُظهر ما يخفي به صيامه؛

رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “إذا أصبحتم صيامًا، فأصبِحوا مدَّهنين”، وقال قتادة: “يُسْتحب للصائم أن يدَّهِن؛ حتى تذهب عنه غبرة الصيام.

• وكذلك فإنَّ العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين؛ وعند مسلم من حديث معقل بن يسار، عن النبي الأكرم صَلَّى الله عليه وسَلَّم قوله: ((العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ))[8].

وخرجه الإمام أحمد في مسنده، ولفظه: ((العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ))، وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يَتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يَتَمَسَّك بدينه، ويعبد ربه، ويتَّبع ما يرضيه، ويجتنب ما يغضبه – كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه.

والمعنى الآخر للحكمة: ما عبَّر عنه النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم))[9]، فأحبَّ النبي صَلَّى الله عليه وسَلَّم أن تُرفع أعماله، وتُختَم أعمال السَّنَةِ، وهو على أفضل حال منَ العبادة والطاعة؛ ولذلك قال: ((وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).

وذكر في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتَّمرين على صيام رمضان؛ لئلاَّ يدخل في رمضان على مشقة وكلفة؛ بل يكون قد تَمَرَّن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولَذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.

ولمَّا كان شعبان كالمُقَدِّمة لرمضان، شُرِع فيه ما يُشْرَعُ في رمضان منَ الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهُّب لصيام رمضان، وتَرْتاض النفوس على طاعة الرحمن.

العنصر الثالث: خطوات نتواصى بها، ونحن على عتبات الشهر الكريم:

أولاً: تجديد التَّوبة قبل فوات أوانها، وحذر الغفلة عن أسباب سعادة النفس وشقائها، وقبل إغلاق الكتاب الذي يحوي أعمالك في هذا العام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “إذا كان هلال شعبان، دُفِع إلى ملك الموت صحيفةٌ، يَقْبض من فيها إلى شعبان من قابل، فإن الرجل ليغرس الغرس، ويبني البنيان، وينكح، ويولد له، ويظلم ويفجر، وما له في السماء اسم، وما اسمه إلا في صحيفة الموتى، إلى أن يأتي يومه الذي يُقْبض فيه”.

هل أنت من أهل الغفلة؟

أخي المسلمَ، الغفلةَ! ذلك الدَّاء الأكبر، والخطر الأحمر، كم أهلكت من خلائق؟! وكم أفسدت من قلوب، وصدت عن حقائق؟!

وصف الله تعالى بها أعداءه الكافرين، والعصاة الظالمين، وأهل ناره الخاسرين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 97]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، الغفلة: سلطان إبليس على القلوب، وفرحته التي يجدها منَ الخلق.

أخي المسلم:

لقد عمَّت الغفلة، حتى أصبح أكثرهم يعيش عيش الأنعام، يعيشون لشهواتهم وملذاتهم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ [محمد: 12]، قليلٌ أولئك الذين عرفوا الغاية التي خُلقوا من أجلها، فسعوا إلى تحقيقها، فسلموا من شرور الغفلة، فيا مَن أردتَ السعادة في الدنيا والآخرة، هذه وقفة أخرى من دروس المحاسبة، كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم يصوم في شعبان؛ لغفلة الناس عن فضله، فأين أنت؟!

هل أنت من أهل الغفلة؟

لقد استفحل داء الغفلة، وكثُر أصحابه في كل مجمع، وفي كل مكان، فترى الأكثرين سكارى، لا يدرون إلى أين يسيرون، حيارى، تائهين! فترى هذا مشغولاً بتجارته، وتكثير أمواله من حلال أو حرام، وهذا مشغول بزراعته في ليله ونهاره، وهذا مشغول بحساب رصيده الفاني، فهو في ليله ونهاره يحسب في أمواله، وإذا نام، كانت أحلامه مواصلة لذلك الحساب!!

وآخرُ عكف على الشهوات، فهو مشغول بتلبية شهواته البهيميَّة، وآخر غارق في أنواع من المعاصي، يفتتح يومه بمعصية، ويختمه بمعصية، وآخر لا يدري: لِمَ خُلِق؟ ولا ماذا يجب عليه؟! حتى قال بعضهم:

جِئْتُ لا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ ولكنّي أَتَيْتُ
وَلَقَدْ أَبْصَرْتُ قُدَّامِي طَرِيقًا فَمَشَيْتُ
وَسَأَبْقَى مَاشِيًا إِنْ شِئْتُ هَذَا أَمْ أَبَيْتُ
كَيْفَ جِئْتُ؟ كَيْفَ أَبْصَرْتُ طَرِيقِي؟
لَسْتُ أَدْرِي!

 

وآخرُ يقول: لا أُسَلِّم بالمكتوب، ولا أرضى أبات مغلوب، وغير ذلك كثير، خَلْقٌ سَيْطَرَتْ عليهم الغفلة، وكَسَتْهم من ثيابها ألوانًا، قال نصر بن محمد السمرقندي: ويقال: “الناس يصبحون على ثلاثة أصناف:

صنفٍ في طلب المال، وصنفٍ في طلب الإثم، وصنف في الطريق، فأما من أصبح في طلب المال، فإنه لا يأكل فوق ما رزقه الله تعالى وإن أَكْثَرَ المالَ، ومن أصبح في طلب الإثم، لحقه الهوان والإثم، ومن أصبح في طلب الطريق، أتاه الله – تعالى – الرزق والطريق”.

فانظر أخي المسلم من أي الأصناف أنت؟

وإيَّاك أن تَتَّكل على عمل صالح قليل عملتَه، فتظن نفسك أنَّكَ بعيد عن أهل الغفلة؛ بل الواجب عليك أن تتهم نفسك دائمًا، وتنظر إليها بعين التقصير؛ فإن ذلك من علامات النجاة، فهاهم الصالحون يحاسبون أنفسهم، ويتهمونها بالغفلة.

كان عون بن عبدالله رحمه الله يقول: “وَيْحِي! كيف أغفل عن نفسي، وملك الموت ليس بغافل عني؟! وَيْحِي! كيف أَتَّكِلُ على طول الأمل، والأجل يطلبني؟!”

وكان محمد بن النضر الحارثي رحمه الله يقول: “تذَكَّرْ أنَّكَ لن يُغْفَلَ عنك، فبادِرْ إلى العمل الصالح، قبل أن يُحَال بينك وبينه”.

فيا أيها الغافل، ويا أيها اللاهي الساهي، تذكر أنَّكَ لن يُغْفلَ عنك، فبادر إلى العمل الصالح، قبل أن يُحَال بينك وبينه.

جَهُولٌ لَيْسَ تَنْهَاهُ النَّواهِي
وَلاَ تَلْقَاهُ إِلاَّ وَهْوَ سَاهِي
يَسِيرُ بِيَوْمِهِ لَعِبًا وَلَهْوًا
وَلاَ يَدْرِي وَفِي غَدِهِ الدَّوَاهِي

 

قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: “ثلاث أعْجَبَتني حتى أَضْحَكَتْني: مُؤَمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل يَغْفَل ليس يُغْفَل عنه، وضاحك مَلْءَ فِيهِ ولا يدري:أساخطٌ رب العالمين عليه أم راضٍ؟!”

أخي المسلمَ:

أسوأ ما في الغفلة أنها تُبْعِدُ صاحبَها عن الله تعالى فالغافلون بعيدونَ عن الله.

أخي المسلمَ:

الغفلة طريق ذو شرور، إذا سَلَكَه سالكٌ حتى نهايته، أوصله إلى النار، وإليك علاماتِ هذا الطريق حتى تَتَّقيه، وحتى تحاسب نفسكَ: هل أنت من سالكيه؟!

أولاً: حب الدنيا

حبُّ الدُّنيا، ذلك الدَّاء الخطير، الذي أهلك الكثيرينَ، وما زال يهلك الكثيرين، ممن انشغلوا بالدنيا.

ثانيًا: طول الأمل

طول الأمل، شَغَل الكثيرينَ عن تذكُّر الموت والقبر والحساب، فترى صاحب الأمل يُمَنِّي نفسه بالأماني العريضة، كأنَّه سيُخَلَّد في الدُّنيا.

 

قال الحسن البصري رحمه الله: “ما أطال عبدٌ الأملَ إلاَّ أساءَ العمل”

وقال بعض الحكماء: “الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين”.

 

طول الأمل أكبر داعٍ إلى الغفلة؛ إذ يَتَوَلَّد عنه الكسل عنِ الطاعات، والوقوع في المعاصي، وتسويف التَّوبة، والانشغال بالدُّنيا، وقسوة القلب.

ثالثًا: المعاصي

المعاصي تَصُدُّ عنِ الطاعات، وخاصة إذا كثرت مع الإصرار وعدم الاستغفار؛ فإنَّ ذلكَ من أسباب الغفلة.

قال ابن القيم: “فمِمَّا ينبغي أن يُعْلمَ: أنَّ الذُّنوب والمعاصي تضرُّ ولا بدَّ، وإن ضَرَرها في القلب كَضَرَر السموم في الأبدان، على اختلافِ درجاتها في الضَّرر، وهل في الدُّنيا والآخرة شر وداء إلاَّ سببُه الذنوبُ والمعاصي؟!”

أخي المسلمَ:

تلك هي أهم العلامات في طريق الغفلة، وتحت تلك العلامات تندرج أشياء كثيرة، فضعْ نفسَك في ميزان المُحَاسَبة، فتأمَّل في حالكَ: هل أنت منَ الواقعينَ في شيء من تلك العلامات؟

 

فاعمل – أيها العاقل – قبل نزول الآجال، وانقطاع الآمال.

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِدًا
فَإِنَّمَا الرِّبحُ وَالخُسْرَانُ فِي العَمَلِ

 

فيا ملتمسًا لسبيل فلاحه، حاسب نفسك اليوم، وعالج أدواءها، قبل أن تهلكَ، وإن أردتَ العلاج القاتل لجرثوم الغفلة، فإليكَ هذه الوصفةَ، وهي خيرُ علاجٍ لهذا الدَّاء:

الإكثار منَ الطاعات:

لأنَّ الطَّاعة تُقَرِّب منَ الله تعالى كما أنَّ المعصية تُبْعِد عنِ الله تعالى فكُلما كَثُرتِ الطَّاعات، ازْدَاد العبد قربًا منَ الله تعالى لذلكَ؛ قالَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أو لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ))[10].

الإكثار من ذكر الله تعالى:

ذكر الله تعالى حياةٌ للقلوب، وغيثٌ للنفوس، فكثرةُ ذِكْرِك لله تعالى جلاءٌ لقلبكَ مِن أدرانِ الغفلة؛ قال أبو محمد بن علي الزاهد: “خرجنا في جنازة بالكوفة، وخرج فيها داود الطائي، فانتبذ، فقعد ناحيةً وهي تدفن، فجئت فقعدتُ قريبًا منه، فَتَكَلَّمَ، فقال: مَن خاف الوعيدَ، قَصُرَ عليه البعيد، ومَن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آتٍ قريبٌ!”.

تَذَكُّر القبر:

القبر مَنْزلة الوَحشة، وبيت الوحدة، أهواله فظيعة، ولحظاتُه شديدة، ماذا أعددت له؟ تَذَكَّر تلك الحفرة، والتي لا ينجيكَ مِن أهوالها إلاَّ العمل الصالح.

هذا الربيع بن خثيم رحمه الله حفر في داره قبرًا، فكان إذا وجد في قلبه قساوة، دخل فيه، فاضطجع فيه، ومكث ساعة، ثم قال: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99 – 100].

ثم يقول: يا ربيع قد أُرْجِعْتَ، فاعمل الآن قبل أن لا تَرْجِعَ.

اللهمَّ باركْ لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان.


[1] أخرجه النسائي في السنن، كتاب الصيام برقم 2317.

[2] متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه، “كتاب الصوم”، برقم 1833، ومسلم في صحيحه، “كتاب الصيام” برقم 1956.

[3] متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، برقم 522، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 1001.

[4] أخرجه ابن ماجَهْ في السنن، كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها برقم 1380.

[5] أخرجه أحمد في مسنده، كتاب مسند الأنصار برقم 20758.

[6] متفق عليه، أخرجه البخاري، في كتاب الصيام، برقم 1833، ومسلم في كتاب الصيام، برقم 1958.

[7] أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، برقم 3503.

[8] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، برقم 5242.

[9] سبق تخريجه.

[10] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، برقم 1432.