سماحة الشيخ الوالد/ محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله)

شرح حديث ابن عباس: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده

عَنْ ابنِ عبَّاسِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى خاتمًا مِنْ ذهبٍ في يدِ رَجلٍ، فنزعهُ فطرحهُ وقال: «يعمدُ أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يدهِ» فقيل للرجل بعد ما ذهب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم: خذ خاتمك؛ انتفع به، قال: لا والله لا آخذهُ أبدًا وقد طرحه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. رواه مسلم.

قَالَ سَماحةُ العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -:

أتى المؤلف – رحمه الله – بهذا الحديث في باب: ” الأمر المعروف والنهي عن المنكر”؛ لأن فيه تغيير المنكر باليد، فإن لباس الرجل الذهب محرم ومنكر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير، أنهما أُحلا لنساء أمتي وحُرِّما على ذكروها.

فلا يجوز للرجل أن يلبس خاتمًا من ذهب، ولا أن يلبس قلادة من ذهب، ولا أن يلبس ثيابًا فيها أزرّةٌ من ذهب، ولا غير ذلك، يجب أن يتجنب الذهب كله، وذلك أن الذهب إنما يلبسه من يحتاج إلى الزينة والتجمل، كالمرأة تتجمل لزوجها حتى يرغب فيها. قال الله – عزّ وجلّ -: ﴿ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ [الزخرف: 18]، يعني النساء. فالنساء ينشأن في الحلية ويرُبين عليها ﴿ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ أي عييّة لا تفُصح.

على كل حال: الذهب يحتاج إليه الناس للتجمل للأزواج، والرجل ليس بحاجة إلى ذلك، الرجل يتجملُ له ولا يتجملُ لغيره، اللهم إلا الرجل فيما بينه وبين زوجه، كل يتجمل للآخر، لما في ذلك من الألفة، ولكن مهما كان، فإن الرجل لا يجوز له أن يلبس الذهب بأي حال من الأحوال.

وأما لباس الفضة فلا بأس به، فيجوز أن يلبس الرجل خاتمًا من فضة، ولكن بشرط أن لا يكون هناك عقيدة في ذلك، كما يفعله بعض الناس الذين اعتادوا عادات النصارى في مسألة “الدّبلة”، التي يلبسها البعض عند الزواج.

يقولون عن الدبلة: إن النصارى إذا أراد الرجل منهم أن يتزوج، جاء إليه القسيس وأخذ الخاتم ووضعه في أصابعه: أصبع بعد أصبع، حتى ينتهي إلى ما يريد ثم يقول: هذا الرباط بينك وبين زوجتك، فإذا لبس الرجل هذه الدبلة معتقدًا ذلك فهو تشبه بالنصارى، مصحوب بعقيدة باطلة، فلا يجوز حينئذ للرجل أن يلبس هذه الدبلة.

أما لو لبس خاتمًا عاديًّا بغير عقيدة، فإن هذا لا بأس به.

وليس التختم من الأمور المستحبة؛ بل هو من الأمور التي إذا دعت الحاجة إليها فعلت وإلا فلا تفعل، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يلبس الخاتم لكنه لما قيل له: إن الملوك والرؤساء لا يقبلون الكتاب إلا بختم، اتخذ خاتمًا نقش في فصِّه: ” محمد رسول الله ” حتى إذا انتهى من الكتاب ختمه بهذا الخاتم.

وفي هذا الحديث دليلٌ على استعمال الشدة في تغيير المنكر إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له: إن الذهب حرام فلا تلبسه، أو فاخلعه؛ بل هو بنفسه خلعه وطرحه في الأرض.

ومعلوم أن هناك فرقًا بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين تغيير المنكر؛ لأن تغيير المنكر يكون من ذي سلطة قادر، مثل الأمير من جعل له تغييره، ومثل الرجل في أهل بيته، والمرأة في بيتها وما شابه ذلك. فهذا له السلطة أن يغير بيده، فإذا لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.

أما الأمر فهو واجب بكلّ حال، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب بكل حال؛ لأنه ليس فيه تغيير، بل فيه أمر بالخير ونهي عن الشر، وفيه أيضًا دعوة إلى الخير والمعروف وإلى ترك المنكر، فهذه ثلاث مراتب: دعوة، وأمر ونهي، وتغيير.

أما الدعوة: فمثل أن يقوم الرجل خطيبًا في الناس، يعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الهدى.

وأما الأمر: فأن يأمر أمرًا موجهًا إلى شخص معين، أو إلى طائفة معينة. يا فلان احرص على الصلاة، واترك الكذب، اترك الغيبة، وما أشبه ذلك.

أما التغيير: فأن يغير هذا الشيء، يزيله من المنكر إلى المعروف، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزع الخاتم من صاحبه نزعًا، وطرحه على الأرض طرحًا.

وفيه أيضًا دليلٌ على جواز إتلاف ما يكون به المنكر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام طرحه لما نزعه من يده ولم يقل له: خذه وأعطه أهلك مثلًا، ولهذا كان من فقه هذا الرجل أنه لما قيل له: خذ خاتمك، قال: لا آخذ خاتمًا طرحه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فهم أن هذا من باب التعزير وإتلافه عليه؛ لأنه حصلت به المعصية، والشيء الذي تحصل به المعصية أو ترك الواجب، لا حرج على الإنسان أن يتلفه انتقامًا من نفسه بنفسه، كما فعل نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام، حين عُرضت عليه الخيل الجياد، ولهى بها حتى غربت الشمس فاشتغل بها عن صلاة العصر ففاتته، ثم دعا بها عليه الصلاة والسلام وجعل يضربها، يعقرها ويقطع أعناقها، كما قال تعالى: ﴿ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 33]، أتلفها انتقامًا من نفسه، لرضا الله عزَّ وجلَّ.

فإذا رأى الإنسان أن شيئًا من ماله ألهاه عن طاعة الله، وأراد أن يتلفه انتقامًا من نفسه وتعزيزًا لها، فإن ذلك لا بأس به.

وفي هذا الحديث دليلٌ على أن لبس الذهب موجب للعذاب بالنار والعياذ بالله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «يعمد أحدكم على جمرة من نار فيضعها في يده» فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا جمرة من نار، يعني يعذب بها يوم القيامة، وهو عذاب جزئي أي على بعض البدن، على الجزء الذي حصلت به المخالفة. ونظير قوله صلى الله عليه وسلم فيمن جرّ ثوبه أسفل من الكعبين قال: «ما أسفل من الكعبين ففي النار» ونظيره أيضًا حين قصر الصحابة في غسل أرجلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للأعقاب من النار».

فهذه ثلاثة نصوص من السنة كلها فيه إثبات أن العذاب بالنار قد يكون على جزء معين من البدن.

وفي القرآن أيضًا من ذلك كقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾ [التوبة: 35]، ومواضع معينة، فالعذاب كما يكون عامًا على جميع البدن، قد يكون خاصًا ببعض أجزائه وهو ما حصلت به المخالفة.

ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: بيان كمال صدق الصحابة رضي الله عنهم في إيمانهم، فإن هذا الرجل لما قيل له: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا آخذ خاتمًا طرحه النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك من كمال إيمانه رضي الله عنه. ولو كان ضعيف الإيمان، لأخذه وانتفع به؛ ببيعٍ أو بإعطائه أهله أو ما أشبه ذلك.

ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: أن الإنسان يستعمل الحكمة في تغيير المنكر، فهذا الرجل استعمل معه النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام شيئًا من الشدة. لكن الأعرابي الذي بال في المسجد لم يستعلم معه النبي عليه الصلاة والسلام الشدة، ولعل ذلك لأن هذا الذي لبس خاتم الذهب علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان عالمًا بالحكم ولكنه متساهل، بخلاف الأعرابي، فإنه كان جاهلًا لا يعرف، جاء ووجد هذه الفسحة في المسجد، فجعل يبول، يحسب نفسه أنه في البر!! ولما قام إليه الناس يزجرونه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه وسلم اللين مع معاوية بن الحكم السلمي- رضي الله عنه – حين تكلم في الصلاة، وكذلك مع الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان، فلكلّ مقام مقال.

فعليك- يا أخي المسلم – أن تستعمل الحكمة في كل ما تفعل وكل ما تقول، فإن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]، نسأل الله أن يجعلنا ممن أوتي الحكمة ونال بها خيرًا كثيرًا.

المصدر: «شرح رياض الصالحين» (2 /444 – 449)