شبهات حول القرآن والرد عليها

قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 4 – 6].

المناسبة بين المقطع والافتتاحية:

بعد الثناء على الله بما هو أهله من التقديس والتمجيد، وإنزال الخيرات المتنامية على عباده، التي كان من جملتها إنزال الفرقان على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغ الثقلين رسالات ربهم وينذرهم سوء المصير في الدنيا إن لم يسمعوا لهذا القرآن، وسوء العاقبة في الآخرة، إن استمروا على شركهم وكفرهم وتعطيلهم وسائل المعرفة التي وهبهم الله إياها. بعد ذلك جاء ذكر موقف المشركين من القرآن العظيم، فبدل الاستماع إليه وتدبر معانيه واتباع هداياته، وشدة الاهتمام بشؤونه، لأنه منزل ممن له ملك السماوات والأرض – ويتناسب الاهتمام بالكلام مع الاهتمام بالمتكلم الذي يخاطب – اتخذ القوم موقفاً مخالفاً تماماً. لم يكن تصرف القوم تصرفاً يليق بالعقلاء، فإن العاقل إذا خوطب ألقى لما يسمع بالاً وقلب الأمر على وجهه، وتدبر في مضمون الكلام الموجه إليه، ليكون جوابه مطابقاً لمقتضى الحال ملائماً لمكانة العقلاء متوافقاً مع مضامين الخطاب.

المعنى الإجمالي للمقطع:

لقد دفع القوم كفرهم النابع من ظلمة قلوبهم وتغطية عقولهم إلى أن ينسبوا القرآن إلى غير منزله، وأن يظلموا الرسول الذي أنزل عليه القرآن ويفتروا عليه الكذب والبهتان، فجمعوا بين الجور والميل عن الحق.

كان هذا الاتهام يتكرر من القوم لأنهم لا يجدون ما يغطون به عجزهم تجاه تحدي القرآن الكريم لهم، فهم يريدون إقناع أنفسهم وحمل غيرهم على القول معهم أن مصدر القرآن بشري، ولكن موضع الضعف في شبهتهم هذه أمران:

الأول: أن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالقرآن لا يدعيه أنه منه وإنما ينسبه إلى ربه جل وعلا. وهم لم يجربوا عليه كذباً قط.

الثاني: أن محمداً صلى الله عليه وسلم واحد منهم ومداركه العلمية التي تلقاها من بيئته لا تزيد على ما كان عند جملة القوم، بل لعل بعض القوم كانت لديه من المزايا كقول الشعر والاطلاع على أخبار الماضين، ومعرفة أنساب العرب وأيامهم، وكان لبعضهم أسفار إلى دول وشعوب وأقوام آخرين مما أكسبهم ثقافة واطلاعاً على أحوال الأمم مثل النضر بن الحارث الذي كان يقول: إن لديه من قصص رستم واسفنديار وأساطير[1] الفرس ما يضاهي به قصص القرآن وأساطيره، مما لم يكن متوفراً عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل قد عرف محمد صلى الله عليه وسلم بأميته عندهم[2].

لقد حاول القوم تغطية هذه الفجوة في ادعائهم بأن قالوا: إنه افتراه، اختلقه من عند نفسه، بالتعاون مع مجموعة من أتباعه حيث زودوه بالمعلومات ومادة القصص، وصاغها محمد صلى الله عليه وسلم بأسلوبه البياني البليغ.

لقد كشف القرآن الكريم فريتهم هذه في أكثر من موضع، وفي أكثر من مناسبة ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [هود: 13 – 14].

إن الكلام المفترى لا يكلف صاحبه شيئاً سوى السرد بعد تزويقه وإضفاء المسحة الجمالية عليه، فلو كان القرآن مختلقاً مفترى من عند أحد من البشر لكان القوم أقدر الناس على الإتيان بمثله، لأن جبلتهم وطبائعهم تلائم الاختلاق والكذب، بخلاف نفس محمد صلى الله عليه وسلم المطبوعة على الصدق والأمانة والاستقامة. فهلا جاء القوم بالكلام المفترى، وأكثروا منه، ولتكن عشر سور من الذي يفترونه على شرط أن يكون في المستوى البياني للقرآن.

أما الذين نسبوا إليهم مساعدة محمد صلى الله عليه وسلم والتعاون معه في الخفاء فهم: يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر.

ولكن ما الحكمة في اختيارهم جميعاً من الموالي الغرباء عن قريش؟!

لقد اختاروهم من المغمورين المجهولين لعل الفرية تجد قبولاً لدى العامة من الناس، ولدى الغرباء من قريش فيتوهموا أن هؤلاء الموالي على علم لا تعلمه قرش فاستعان بهم محمد صلى الله عليه وسلم.

ولكن الذي غفلوا عنه أو تغافلوا، أن يوجهوا لأنفسهم سؤالاً وهو: لو كان الموالي يملكون علوم الأولين الآخرين وعلوم الكون وعلوم الأديان والأمم… أما كانوا أحق أن يدعوا لأنفسهم دون محمد صلى الله عليه وسلم؟!.

ثم إن القرآن لم يكن كله قصصاً وأخباراً بل جاء برسم الحياة في كل شؤونها وآفاقها وميادينها بأسلوب معجز وأفانين من القول وتصاريف في مناحي البلاغة أعجزت فصحاء الضاد فكيف ينسجم مع زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يتلقاه من البشر ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 103 – 105].

إن ما ورد في آيات الذكر الحكيم من قضايا كونية وحقائق فلكية تتعلق بسنن الله فيها، وما يتعلق بالحياة على الأرض وسنن الله فيها، وما يتعلق بالأمم والشعوب التي اندثرت وبقي آثارها وذكرها، وما يتعلق بمستقبل ما يجري في الأيام القادمة… وغير ذلك دليل على أن القرآن منزل من الذي أحاط علماً بكل شيء بأسرار الكون والمخلوقات في السماوات والأرض، فلم يستطع أحد أن يبطل حقيقة ذكرها القرآن الكريم، ولن يستطيع أحد أن يكذب خبراً أورده القرآن الكريم عن الأمم السابقة أو ذكر نبأه عن مستقبل الأيام.

قام الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) بدراسة الكتب المقدسة الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة…) فوصل إلى نتيجة أنه لا يوجد في القرآن الكريم نص يمكن امتحانه علمياً إلا وهو سابق للعلم، وأنه لا يتناقض مع أي معطيات علمية قطعية، على عكس التوراة والإنجيل فيما وصلنا منهما، وتحدث عن قضايا كونية وعن قضايا في القصص القرآني وساق أمثلة كثيرة، وكانت النتيجة القطعية الواحدة لا تناقض بين القرآن وما أثبته العلم، ولم يستطع العلم أن يبطل حقيقة قرآنية واحدة[3]، وهذا مظهر من مظاهر قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 6].

وإن الذين يكذبون هذه الحقائق يستحقون غضب الله وعقوبته.

إن الذين يكفرون بالقرآن المنزل من العليم الحكيم يعرضون أنفسهم لعذاب الله الأليم، ولولا سعة مغفرة الله ورحمته بعباده لأنزل بهم ذلك، ولكن الله رحم أمة الدعوة بتأجيل حسابهم إلى يوم القيامة لعل بعضهم يعود إلى الصواب والحق. فيستغفر الله ويتوب إليه عما كان عليه من الضلال. ووجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم رحمة لهم وأمان من العذاب ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]. بالرغم من استحقاقهم العذاب.

المناسبة بين المقطع الأول ومحور السورة:

إن آيات المقطع الأول في صلب المحور وصميمه حيث تحدّث المقطع عن شبهتهم حول القرآن، ودفع هذه الشبهة ببيان: أن القرآن منزل من عالِمِ غيب السماوات والأرض. فلا يحتاج الأمر إلى ربط ومناسبة.

[1] أساطير: جمع أسطورة: وهي الأباطيل والأحاديث لا نظام لها. أنظر لسان العرب: 4/ 363.

[2] قال بعض العلماء: الأمية صفة نقص في جميع البشر إلا في محمد صلى الله عليه وسلم فإنها صفة كمال: لأنها تبرز جانب المعجزة العظمى للقرآن الكريم. وكانت أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورة عندهم ومسلماً بها، لذا لم يدعوا إنه كتبها وإنما قالوا في فريتهم: (اكتتبها)، ومعنى اكتتبها طلب من غيره أن يكتبها له. ولم يقولوا يقرؤها وإنما قالوا: (فهي تملى عليه): أي تقرأ عليه. وكفار قريش كانوا أحرص الناس على إبطال دعوته باتهامه بأي شيء يجدون فيه قبولاً عند عامتهم. ولم يستطيعوا اتهامه بالقراءة والكتابة ودراسة علوم الأولين والاطلاع على الأديان من بطون كتب أصحابها، لأن هذه الفرية لن تجد آذاناً صاغية بين أتباعهم وعامة الناس في مكة. ولكن المستشرقين المعاصرين وأذنابهم لا يرعوون عن الافتراء المفضوح لكل مطلع على السيرة النبوية، لم يرعووا أن يقولوا: إن محمداً كان قارئاً كاتباً مطلعاً على علوم اليهود والنصارى؟!.

[3] انظر كتابه (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة). من منشورات دار المعارف – القاهرة.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/118139/#ixzz61WqWMtzV