قال الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]

أ. د . ناصر بن سليمان العمر
أ. د . ناصر بن سليمان العمر

وهذه قاعدةٌ أخرى، تتضمّنها هذه الآية الكريمة، فهلا تأمَّلناها، وتأمّلنا تأثيرها على استقرار الحياة الزوجية! وهي وإن كانت قد جاءت في سياق موضوع المنافقين، ومعناها المناسب للسياق: ولو أنهم فعلوا ما تركوه من أمر النبي صلى الله ليه وسلم ، إلاّ أن دلالتها تتجاوز ذلك.

يقول الله تعالى: ﴿وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا یُوعَظُونَ بِهِۦ﴾ أي: في كل شأنٍ من شؤون الحياة عمومًا، وتتناول دلالتها الحياة الأسريَّة والزَّوجيَّة، ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾ والتثبيت في التزام الأوامر المتعلقة بالأسرة يعود إلى تحقيق السَّكن والاستقرار والسعادة في الحياة الأسريّة.

 إنَّ الله تعالى قد وعظنا وبيَّن لنا سبل الهداية، ورسولنا صلى الله ليه وسلم ، قد تركنا على البيضاء، كما قال صلى الله ليه وسلم: (وَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ) ، فلم يبقَ إلا أن نتَّبع ما أُمرنا به، وأن نفعل ما وُعظنا به؛ حتى نؤسِّس حياتنا على أسس ثابتة راسخة، إذا هبَّت عليها ريح الفُرقة والتّنازع؛ لم تؤثِّر فيها شيئًا!

وفي هذه القاعدة، التي يتضمَّنها قوله تعالى: ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾، إشارة أخرى: وهي أن التثبيت يشتد ويزيد بحسب الاستقامة، وعليه فلا حد من الطمأنينة والاستقرار، ينعم بها الملتزم بأمر الله، بل هو في حال ارتقاء متواصل؛ ما دام متَّبعًا لما أنزل الله، مخالفًا لدواعي الطبع ونوازع الهوى اتعاظًا بمواعظ الله. فمهما كان الخير الذي أنت فيه؛ فإنه يزيدُ ويتضاعف، ومهما كانت المودة والرحمة التي بينك وبين أهلك، وبينك وبين زوجك؛ فإنها ترتقي كلما ارتقيت في التزام أمر الله، كما قال تعالى: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُور یَهدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُ ﴾

تأمَّلوا حال الخيمةَ التي توضع وتُنصب في البَرِّ، إذا لم تُثبَّت أعمدتُها وأطنابها، كيف تسقط وتتهاوى إذا هبَّت عليها أيُّة ريحٍ، أما إذا كانت أعمدتها وأطنابها ثابتةً مستقرَّةً؛ فإنَّ الرياح تأتيها عن يمين وشمال، دون أن تؤثر فيها، واسألوا أهل البادية الَّذين يعيشون حياتهم في البرِّيَّة، كم هبَّت عليهم من الرياح والعواصف، ومع ذلك بقيت بيوتهم البسيطة ثابتة! قد وجدوا من خلال الواقع والتجارب، أنَّ تقوية الأسس والأعمدة والأطناب هو القاعدة القويّة لبيوتهم، التي تكفل بقاءها ثابتةً بإذن الله تعالى.

إنَّ الحياة الأسريَّة كذلك لا تسلم من العواصف، ومن محاولاتِ الآخرين زعزعةَ استقرارها، وهؤلاء الآخَرون قد يكونون من أقاربنا، بل من أنفسنا، ومن أولادنا، فالعلاقة الزوجيّة، تتناوشها كثيرٌ من السِّهام الطائشة! أو التي تهدف إلى إحداث الشقاق بين طرفيها؛ الزَّوج وزوجه، وذلك قد يكون من أقرب الأقارب، كما قد تُستخدم فيه مختلف الوسائل والأساليب، المنافية للشَّريعة، من اللجوء إلى السَّحرة، وإلى غير ذلك من الوسائل التي تهدف إلى زعزعة استقرار الأسرة، فإذا كانت العلاقةُ بين الزوج وزوجه ثابتة وقوية وعميقة، قائمة على الالتزام بما ورد إليهم من المواعظ والأحكام الشَّرعيَّة التي جاء بها القرآن، كما قال تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]

والمواعظ والأحكام الشّرعية التي جاءت بها السُّنَّة المطهّرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُم عَنهُ فَٱنتَهُوا﴾ [الحشر:7]؛ فإذا كانت العلاقة بين الزوجين، قائمةً على هذا الأصل الرَّاسخ؛ فعندئذٍ تثبت هذه الأسرة في وجه العواصف، وتتكسر النصال الخائبة على النصال!

إنّ الحياة العامة مؤثرةٌ في الحياة الخاصَّة، كما أنَّ الحياة الخاصَّة مؤثرةٌ في الحياة العامَّة؛ فإذا كان الرّجل مستقيمًا صالحًا في حياته الخاصّة، في عبادته، في صلاته، في أخلاقه، والمرأة كذلك، فإنَّ هذا يؤثر إيجابًا على حياتهما الزّوجيّة، أيضًا فإنَّ قوة العلاقة بين الزوجين، تؤثر في الحياة العامة لكلٍّ منهما، من حيث قدرة الرجل، وقيامه بالواجبات الشرعية العامة للأمة، وكذلك من حيث قدرة المرأة على مهامِّ الدَّعوة والعمل الخيريِّ وسط النساء، والفصل بين كلٍّ من الحياة الخاصَّة والحياة العامَّة، ليس معقولًا، بل هو فصام نكد، إذ كيف لرجلٍ عاجزٍ عن حلِّ مشكلاته الأسريّة، أن يعالج ببعض الجهد مشكلات أمَّته؟ فالحياة الخاصَّة والحياة العامَّة كلاهما صنوان وهذه من تلك، وهذا يجعل قول الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]، بما يكتنفه من عموم، مؤثرًا في حياة الأسرة! وإذا أسَّسنا حياة الأسر أسرة أسرة على أسس قويَّة راسخة، حمينا بإذن الله المجتمع كلَّه من تلك العواصف والقلاقل التي تؤثّر على استقراره.