هل كذب إبراهيمُ u ثلاث كذبات!

قال أحدُهم : أليس الكذب من المحرماتِ التي حرمها اللهُ ؟
فكان الجواب: بلى.

فقال المعترضُ : الأحاديثُ تبين أن إبراهيمَ النبيَّ كذب ثلاث كذبات ، أليس هذا تناقضًا مع عصمةِ الأنبياءِ التي يعتقد بها المسلمون…..؟!

استشهد على ذلك بحديثين :

الأول : في الصحيحين واللفظ لمسلم كتاب ( الفضائل) باب ( مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِr ). برقم 4371 عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ u قَطُّ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ :(إِنِّي سَقِيمٌ) . وَقَوْلُهُ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لاَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لَكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِىَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ uإِلَى الصَّلاَةِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً فَقَالَ لَهَا ادْعِى اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلاَ أَضُرُّكِ. فَفَعَلَتْ فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فَقَالَ ادْعِى اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لاَ أَضُرَّكِ. فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ وَدَعَا الذي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِى وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِى فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ uانْصَرَفَ فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ قَالَتْ :خَيْرًا كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِى مَاءِ السَّمَاءِ.
معنى كلمة : (مهيم) : ما شأنك وما خبرك ؟

الثاني : حديث الشفاعة الثابتِ في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلمٍ كتاب (الإيمان) باب ( أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فِيهَا). يقول r : “… فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى …”.

الرد على الشبهة

أولاً : إن الردَ على سؤالِهم الأول الذي يقول : هل الإسلامُ يأمر بالكذبِ ؟ ردًا بسيطًا ؛ لأنهم يجهلون أن الإسلامَ العظيم يأمر أتباعَه بحسنِ الخلقِ ، ومن حُسنِ الخلق أن يكون المسلمُ صادقًا وليس كاذبًا……. تدلل على ذلك أدلة منها:

1- إن اللهَ I أمر المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ….. وذلك من قوله : I ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [ ( التوبة 119).
2- إن اللهَ I ذكر أن من صفاتِ المؤمنين الصدق… وذلك في الاتي :
أ- قولِه I : ]الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ[ ( آل عمران17).
ب- قوله I: ]إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [ (الأحزاب35 ).

3- إن اللهَ Iذم الكذبَ في كتابِه ، وبيّن أنه من الكبائر، وأن فاعله معاقب من ربِّه… وذلك من قولِه I ]:َلعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[( آل عمران61) .
وقولِه I : ] إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [ (غافر28).

4- إن النبيَّ r قد بيّن أن الصدقَ يهدي إلي كلِ معاني الخير ، وأن الكذبَ يهدي إلى كلِّ شرٍ … وذلك في الصحيحين : في صحيح البخاري برقم 5629 كِتَاب ( الْأَدَبِ ) بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ ، وفي صحيح مسلم كِتَاب ( الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ ) بَاب ( قُبْحِ الْكَذِبِ وَحُسْنِ الصِّدْقِ وَفَضْلِهِ ) برقم 4719 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :”إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا”.

5- أن النبيَّ بيّن rأن الصمتَ فيه النجاة عن إطلاق اللسان إلا في الخير… وذلك في الآتي :

أ- مسند أحمدَ برقم 6193 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:” مَنْ صَمَتَ نَجَا “.
قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم 6367 في صحيح الجامع.

ب- صحيح البخاري برقم5559 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :”مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ “.

1- إن النبيَّ r بيّن أن الكذبَ من علاماتِ المنافقين …. وذلك في الصحيحين ، واللفظ للبخاري برقم 32 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ :” آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ “.

وغير ذلك من الأدلةِ في هذا الشأن…

وعليه : فإن الإسلامَ ذم الكذبَ ونهى عنه وبيّن أنه من الكبائر، وأمر أهلَه بالصدقِ ، وأن يكون مع الصادقين….. فما سبق كان ردًا على السؤال الذي يقول : أليس الكذبُ من المحرماتِ التي حرمها اللهُ ؟
ثانيًا : إن السؤالَ الذي يطرح نفسه هو حقًا محل الاعتراض هل كذب إبراهيمَ uثلاث كذبات فيه مطعن لعصمتِه ، والعصمة تكون من الكبائر ؟!

الجواب : لا ؛ لعدة أوجه منها :

أولاً : إن الحديثَ لا يخدم صاحب الاعتراض بحالٍ من الأحوالٍ بل فيه دليلٌ على عصمةِ إبراهيمَ u، فهذه الكذبات الثلاثة سيعدها الخليل ذنوباً أرتكبها حين يُسئل الشفاعةَ يومَ القيامة كما هو الحال في الحديث الثاني (حديث الشفاعة )، و هذا الحصر ينفى عنه أي خطيئة أخرى عنه…

وأتساءل : أي إنسانٍ هذا الذي لم يكذب في حياتِه كلها سوى ثلاث كذبات ، كلهن من قبيلِ التعريض واثنتان منهم في ذاتِ اللهِI ، وهذا ملاحظ من قولِه r:” لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النبيُّ u قَطُّ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ: ]إِنِّي سَقِيمٌ[ . وَقَوْلُهُ ]بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا[ وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ…؟!

ثانيًا : إن الكذباتِ الثلاث المذكورات في الحديث ليست كذب على الحقيقةِ؛ وإنما هي من المعاريض التي هي مندوحةٌ عن الكذب ، والتي دعت إليها الضرورة كما هو واضحٌ من الحديث الذي معنا ؛ ومن المعلوم أن الضرورةَ تقدر بقدرها ؛ فَقَوْله u: ]إِنِّي سَقِيمٌ [ يُحْتَمَل أَنْ يَكُون أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ : سَأُسْقَمُ وَاسْم الْفَاعِل يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَل كَثِيرًا ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت أَوْ سَقِيم الْحُجَّة عَلَى الْخُرُوج مَعَكُمْ . أهـ . قاله ابنُ حجر في الفتح.

قلتُ : إن هذا حسن ويحتمل أنه كان متعبًا مرهقًا في نفسِه من شركِهم وكِفرهم بربِّهم وظلمِهم لنفسهم ، وهذا ما يظهر لي من الآياتِ الكريماتِ.

وَأَمَّا قَوْلهu : ] بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [ فَقَالَ اِبْنُ قُتَيْبَة وَطَائِفَةُ : جُعْل النُّطْق شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرهمْ ، أَيْ: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . أهـ . راجع شرحِ النووي لصحيح لمسلمٍ .

قلتُ : إن هذا حسن، ولعله أشار إلى إصبعِه (الإبهام) المسمى بباني الحضارات وهو يشير إلى الأصنام وعرّض في كلامه بمعني أسئلوا أصابعي التي أمسكت بالفأس إن كانوا ينطقون وهو يشير بها إلى الأصنام ….

وَأَمَّا قَوْله : فَقَالَ فِي سَارَة : أُخْتِي فِي الْإِسْلَام ، هو صَحِيح فِي بَاطِن الْأَمر ، فالزوجة أخت للإنسانِ في الإنسانيةِ أو في الدين قبل أن تكون زوجة له. وقد ذكر سفر التكوين أن سارة أخت إبراهيم – عليه السلام- من أبيه فهي أخته بالفعل ، وكان ذلك الزواج في شرع من كان قبلنا…

وعليه فإن الملاحظ مما سبق أنها ليست كذبات على الحقيقة بل هي تورية من المعاريض المندوحة عن الكذبِ لدفعِ الظلمِ عن صاحبِها، ونجاتِه من الهلاك ؛ فالدافع لها الضرورة القصوى .

والمعاريض : جمع معراض من التعريض وهو خلاف التصريح من القول ، وقد بوب البخاري بابًا بعنوان باب( الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ ). وَقَالَ إِسْحَاقُ :سَمِعْتُ أَنَسًا مَاتَ ابْنٌ لأَبِى طَلْحَةَ فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلاَمُ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : هَدَأَ نَفَسُهُ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ . وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ . أهـ
ومعنى المندوحة : الفسحة والمتسع.

نلاحظ من قولِ أم سليم : أنها قالت الحقيقة وليست الحقيقة الصريحة .

ثالثًا : إن فعل إبراهيم uإن حملناه على أنه كذب حقيقة ، وليس ذلك من قبيل المعاريض – وهذا جدلاً – أقول: لعل ذلك رخصة له في شرعِه كما رخص لنا نبيّناr بذلك عند الضرورةِ ، ففي سننِ الترمذي كتاب (البر والصلة ) باب (مَا جَاءَ في إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ). برقم 1862 عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :” لاَ يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ في ثَلاَثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا ،وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ ،و َالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ “. وَقَالَ مَحْمُودٌ في حَدِيثِهِ : ” لاَ يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلاَّ في ثَلاَثٍ “.
تحقيق الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 7723 في صحيح الجامع .

نلاحظ : من تبويب الترمذي – رحمه اللهُ- باب (مَا جَاءَ في إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ).

ونلاحظ من قولِه r :” لا يَحِلُّ الْكَذِبُ ” أي: أن الكذبَ حرام عمومًا ، ولكن أجازه النبيُّ r فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ .

ونلاحظ من الحديث : أن الكذب في الأمور الثلاثة ليس على إطلاقه بل عند الضرورة ،
والضرورة تقدر بقدرها ، والأولى عدم الكذب ؛ لقوله r في أول الحديث:” لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ….”.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو : لماذا أباح النبيُّ r الكذب في هذه المواضع الثلاث ؟ الجواب في ما جاء في المنتقى – شرح الموطأ الجزء الرابع صفحة 455في شرح حديث رقم 1570 : كَذِبُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا وَرَجُلٌ كَذَبَ لِيُصْلِحَ وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ فِي الْمُزْنِيَةِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي كُلِّ مَا يَسْتَجِيزُ بِهِ هَوَاهَا وَطَوَاعِيَتَهَا إِذَا لَمْ يُذْهِبْ بِكَذِبِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا مِثْلَ أَنْ يُزَيِّنَ لَهَا مَا يُعْطِيهَا وَنَحْوُ هَذَا ، وَإِنْ كَذَبَ وَقَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَنْ رَأَى رَجُلًا مُسْلِمًا يُقْتَلُ ظُلْمًا وَيَعْرِفُ أَنَّهُ يُنْجِيهِ بِالْكَذِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ فَيَقُولُ : لَيْسَ هُوَ فِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ لَهُ وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّوْرِيَةِ وَالْأَلْغَازِ لَا عَلَى مَعْنَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَقَصْدِهِ ، وَقَدْ تَأَوَّلُوا مَا حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ u مِنْ ذَلِكَ عَلَى وُجُوهِ الْأَلْغَازِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ r يَقُولُ لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يَمْشِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيُنَمِّي خَيْرًا أَوْ يَقُولُهُ . أهـ بتصريف .

والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل أمر النبيُّ r بالكذب في غير هذه الثلاثة ؟

الجواب : لا ؛ إذًا : أباحها النبيُّ r للضرورةِ ،و لدفع الضرر الأكبر بضرر أقل منه كما بينتُ سابقا وليس الأمر على إطلاقه …

وبالتالي أقول : إن هذه الكذبات الثلاث رخصة لإبراهيم من ربِّه I وذلك لوجود ضرورة دعت إلى ذلك ، وليس في الحديث أي شبهةٍ حول عصمة إبراهيم u بل دليل واضح على عصمته كما بيُّنت سابقًا –بفضل الله تعالى -.

ثالثًا : أن المتأملَ في الأناجيلِ يجدها نسب ليسوعَ المسيح الكذب، وذلك حينما طلب أخوتُه منه الصعود للعيد فقال :” أني لست بصاعد” ثم صعد بعدها في الخفاء !

جاء ذلك في انجيل يوحنا إصحاح 7 عدد 8اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ». 9قَالَ لَهُمْ هذَا وَمَكَثَ فِي الْجَلِيلِ. 10وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الْعِيدِ، لاَ ظَاهِرًا بَلْ كَأَنَّهُ فِي الْخَفَاءِ.

نلاحظ : أن هذا الفعل مثل فعل إبراهيم uلما قال : ] إِنِّي سَقِيمٌ[ ولم يذهب معهم للاحتفالِ بالعيدِ ، وبعدها ذهب وكسر أصنَامهم … ويبقى السؤال للمعترض صاحب الاعتراض هل كذب يسوعُ المسيح u بحسب هذه النصوصِ مع العلم أنه يعتقد أن الجميع (الأنبياء ) زاغوا وفسدوا إلا المسيح هو وحده بلا خطيئة ؟!

ثم أن المتأمل في الأناجيل يجد أن بطرس الرسول كذب ثلاث كذبات على المسيحِ وأنكره كما اخبره يسوع المسيح أنه سيخاف على نفسه من أن يؤذى ،أو يقتل فكذب ثلاث كذباتٍ…
جاء ذلك في إنجيلِ مرقس إصحاح 14 عدد29فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ:«وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» 30فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ، قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». 31فَقَالَ بِأَكْثَرِ تَشْدِيدٍ:«وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!». وَهكَذَا قَالَ أَيْضًا الْجَمِيعُ.

ثم ذكر كاتبُ إنجيل مرقس قائلاً في نفسِ الإصحاحِ 14 عدد65فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ:«تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ. 66وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي الدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. 67فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» 68فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلاَ أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجًا إِلَى الدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ الدِّيكُ. 69فَرَأَتْهُ الْجَارِيَةُ أَيْضًا وَابْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ:«إِنَّ هذَا مِنْهُمْ!» 70فَأَنْكَرَ أَيْضًا. وَبَعْدَ قَلِيل أَيْضًا قَالَ الْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ:«حَقًّا أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضًا وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ!». 71فَابْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» 72وَصَاحَ الدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ:«إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى.

نلاحظ مما سبق الآتي :

1- أن بطرس الرسول الحواري كان إنسانًا صادقًا يحب يسوع المسيح u لكن دعته الضرورةُ الشديدة أن يكذب ثلاث مرات حتى إنه أخذ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ : «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ هذَا الرَّجُلَ الَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» ، ولكنه بالغ في الكذبِ لدرجة أنه لعن وحلف على الكذبِ!

وأتساءل : أليس هذا من قبيل الكذب على الأعداءِ الجائز لحفظ النفسِ من الإيذاء أو القتلِ الذي قد يفتِن الإنسان عن دينِه ؟!

الجواب : بلى ؛ حينما تكون النفس ضعيفة لا تقوى على احتمال الابتلاء…

1- أن يسوع المسيح لم يوبخه ، وذلك حينما أخبره بأنه ينكرة ثلاث مرات ولم يوبخه أحدٌ من بقيةِ التلاميذ والرسل…

قلتُ : يستفاد من ذلك أن المسيحَ بحسب تلك النصوص أجاز الكذب عند الضرورة ، و كذلك إقرار التلاميذ على ذلك ؛ لأن المسيح لم يوبخه أبدًا …

ثم إن المتأمل أيضًا في الأناجيلِ يجدها تنسب لبولس الرسول الكذب ،ولم نجد معترضًا على ذلك ؛ جاء في رسالتِه إلى أهلِ رومية إصحاح 3 عدد7فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟ .

قلتُ : إنني لم أجد ضرورة للكذب هنا …… لا تعليق!

رابعًا : إن العهدَ القديم ذكر قصةَ إبراهيمَ كما أخبر بها نبيُّنا r وهذا دليل على صدقِ نبوةِ نبيِّنا r فمحمدٌ r لم يكن يعرف القراءةَ والكتابةَ ، يحكى لنا هذه القصة بما أوحاها اللهُ I إليه ، وذلك مصدقًا لقولِه I:] تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [ (هود) .
وقولِه I : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) [ (يوسف) .

ثم إن القصة (قصة إبراهيم وسارة) دليل على أن التوراةَ ليست كلُها محرفة بل فيها من الصدقِ ، وهذا مصداق لحديث النبيِّ r الثابتِ في صحيحِ البخاري كتاب (التوحيد) باب ( مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا . لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى 🙁 فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) برقم 6987 عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:” لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَ ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ ) الآيَةَ “.

والحديث مصدقًا لقولِه : ” وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ” رواه البخاري في صحيحه باب ( مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ ).

و أخيرًا تبقى لنا ذكر القصة كما جاءت في سفرِ التكوين إصحاح 12 عدد 10وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيدًا. 11وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ. 12فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هذِهِ امْرَأَتُهُ. فَيَقْتُلُونَنِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. 13قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ».
14فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا. 15وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأُخِذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ، 16فَصَنَعَ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ. 17فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ. 18فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: «مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّهَا امْرَأَتُكَ؟ 19لِمَاذَا قُلْتَ: هِيَ أُخْتِي، حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي لِتَكُونَ زَوْجَتِي؟ وَالآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ! خُذْهَا وَاذْهَبْ!».

كتبه/ أكرم حسن مرسي