يرى بعض الدعاة إلى الله أن وجود الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) في عالمنا فتح ونصر كبيران؛ بل ذهب البعض إلى القول بأن وجود الشبكة الدولية يحقق الهدف الذي كان المسلمون الأوائل يسعون لتحقيقه عبر فريضة الجهاد؛ فمن خلال الإنترنت يمكن دعوة الشعوب والأمم غير المسلمة إلى الإسلام؛ وتخطي الحدود والمسافات في سبيل الوصول لهذا الهدف السامي النبيل [1].

  غير أن الأزمة تكمن في غياب القدوة الحسنة في الدعوة عبر الشبكة الدولية؛ وافتقاد الإنترنت لوجود الداعية صاحب الأخلاق العالية الذي يترجم بأخلاقه وافعاله الدين إلى تصرفات مميزة ومواقف خيّرة؛ وتلك أزمة تبرز أكثر ما تبرز في الغرب اليوم، بخاصة مع الذين يقارنون بين الإسلام وأهله من المسلمين الذين يعيشون بين الغربيين.

ترجمة الإسلام لأفعال:

  كم من موقف صادق مخلص من مسلم في الغرب راعى الله وتعامل بما يرضيه تعالى فتسبب في دخول غربي للإسلام؛ وبالتالي إنقاذ نفس بشرية؟ ومما يروى في هذا الأمر أن داعية يعمل إمامًا بمسجد في ألمانيا ركب الحافلة؛ فلما دفع قيمة التذكرة فوجئ بالمحصل يعطيه زيادة عن بقية ما يستحقه بيورهينِ اثنين ونصف اليورو، وقدر الإمام أن المبلغ زهيد لن يؤثر فيما لدى المحصل من مال، فهو سعر كوب من القهوة في كافتريا أو أقل، وأخذته سِنّة من نوم في الحافلة فرأى القيامة حان موعدها؛ وأنه يحاسب ويعذب في المبلغ الذي استقله واستصغره؛ فأفاق من نومه معاتبًا نفسه بشدة؛ وذهب إلى المحصل رادًا إليه المبلغ الزهيد، فقال الأخير إنه يعرفه ويعرف المسجد الذي يؤم المصلين فيه وقد أراد بالفعل الدخول في الإسلام؛ لكنه قرر اختباره في البداية، وطالما أنه رد المبلغ فهو يعلن رغبته في تحديد موعد لإعلان إسلامه بالمسجد الذي يعمل الإمام فيه[2].

تؤكد القصة السابقة أن القراءة عن الإسلام وتعاليمه العظيمة ليست كافية لدى بعض الغربيين الذين يريدون رؤية تلك التعاليم في صورة قدوة تتحرك بينهم، وتكشف عن طيب استقاء صاحبها للشريعة الغراء وترجمتها في أبهى وأنصح حلة من الأفعال الطيبة الطاهرة الزكية؛ وهو ما يوافق قوله تعالى: }ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {[النحل: 125].

يُعرفُ أحد العلماء القدوة بأنها: “ما يكون عليه الداعية المسلم من سلوك تطبيقيٍّ، وتصرفاتٍ عمليةٍ، وصفاتٍ أخلاقيةٍ، يظهر بها في حياته، فيكون سلوكه وتصرفاته وصفاته صورةً صادقةً، وتطبيقًا صحيحًا لما يدعو إليه من مبادئِ دينه، وتوجيهاتِ دعوته، وبهذا يكون قدوةً صالحةً، وأسوةً حسنةً تَهدِي إلى أقومِ طريق، وتُرشِد إلى خيري المعاش والمعاد”[3].

والتعريق السابق يخرج من أنوار قوله تعالى: }وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ{ [فصلت: 33]؛ وقد قرن رب العزة في الآية الكريمة بين الدعوة إلى الله والعمل الصالح؛ وفي تأويله للآية يقول ابن جرير الطبري: “ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به؛ والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك”[4].

  ولكن إحدى آفات بعض المسلمين الكبرى اليوم، بخاصة طرف من المقيمين منهم في الغرب، تكمن وتبرز في مخالفة أقوالهم لأفعالهم؛ مما يجعل غير المسلمين يُعانون من حيرة أحيانًا بين نصاعة ونورانية الإسلام وأفعال بعض أتباعه غير المتفقة مع دينهم؛ وهو ما يؤثر أحيانًا على استمرار إسلام طرف من الداخلين فيه؛ ويجعلهم يتراجعون عن طريق الهداية، وتراجع البعض هذا أحد التحديات التي تواجه الدعاة إلى الله في الغرب اليوم؛ حتى أن كثيرًا منهم يؤكد على الراغبين في إشهار إسلامهم ضرورة التشبع بتعاليم الإسلام والتعمق في فهمها قبل إشهار الدخول فيه.

تعزيز القدوة في الغرب:

  فإذا كان واقع القدوة الحسنة والدعوة إلى الله في الغرب يتأثر بأفعال المسلمين في جانب غير قليل جوانبه.. فإن من سبل معالجة الأمر لدى المسلمين ـ بخاصة الدعاة والذين هم في حكمهم ـ أن يبدأوا بأنفسهم فيقوموها بالإخلاص لله تعالى في دعوتهم لغير المسلمين، وليعلموا أن هذا الإخلاص منجاة لهم في الحياة الدنيا ـ بإذن الله تعالى ـ ويؤدي لجنانه في الآخرة؛ وبالتالي فإن “شقاء البشرية في بعدها عن الإخلاص”[5].

   ثم تأتي أهمية تمثل أن مهمة الدعوة إلى دين الله من افضل المهام في هذه الحياة؛ إن لم تكن أفضلها على الإطلاق، ولذلك روي عَنْ سَهْلِ بن سعدٍ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ لِعَليًّ،: “فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم” متفقٌ عليهِ؛ وأن كل فعل للداخل في الإسلام عبر إخلاص الداعية وحسن دعوته إنما يصب في ميزان حسنات الداعية؛ بالإضافة لفاعله مصداقًا لقول الرسول العظيم أيضًا: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأ‌نصاري البدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر فاعله”؛ رواه مسلم

   والدعوة إلى الله واستجابة غير المسلم لها من أعظم ما يقدم العبد به على ربه؛ إذ يجد جبالًا من الحسنات في ميزانه؛ وإن لم يقم بها ولم يفعلها بنفسه، وإنما بفضل دلالته لغيره إلى طريق الله والإيمان.

  ويبقى أن تحلي المسلمون بوجه عام، وفي الغرب بوجه خاص، بحسن الأخلاق يوافق جوهر دينهم الحنيف لاهتمامه “.. بإرساء دعائم الأخلاق الفاضلة، كما حث (الإسلام) على التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن سيئها، وأكد على هذا الأمر تأكيدًا بالغًا، حتى غدا هذا الدِّينُ جديرًا بأن يوصف بحق بأنه دين الأخلاق”[6].

  عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناسَ الجنة فقال: “تقوى الله وحسن الخلق..”. رواه الترمذي.

المصادر:

[1] وسائل الدعوة إلى الله في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) ـ الدكتور إبراهيم بن عبد الرحيم عابد ـ رسالة دكتوراة لجامعة الإمام محمد بن سعود بتاريخ 7 من جمادى الأول 1427هـ  ـ صـ28

[2] روى القصة الدكتور خالد محمد حنفي (عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا الآن) وقت رئاسته هيئة علماء المسلمين في ألمانيا مؤكدًا معرفته بطرفيها.

[3] القدوة وأثرها في الدعوة إلى الله تعالى ـ الدكتور إسماعيل علي محمد أستاذ ورئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية أصول الدين والدعوة في جامعة الأزهر ـ دار الكلمة للنشر والتوزيع القاهرة ـ الطبعة الثانية ـ 1435هـ/2014م ـ صـ8

[4] تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ـ تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ـ دار هجر/القاهرة  ـ الطبعة الأولى ـ 1422هـ/2001م ـ جـ20 صـ429.

[5] فقه الدعوة وتزكية النفس ـ حسين بن عودة العوايشة ـ دار ابن حزم/بيروت ـ الطبعة الأولى 1428هـ/2007م ـ صـ15.

[6] القدوة وأثرها في الدعوة إلى الله تعالى ـ الدكتور إسماعيل علي محمد ـ مصدر سابق ـ صـ40.