حديقة حيوان البشر!

Human zoo

 

أوضح داروين في كتابه نشأة الإنسان: أن الأعراق البشرية مجرد أنواع مختلفة من الكائنات الحية، لا يربط بينهم رابط، وبالعودة إلى الوراء فإنه يبدو من المستحيل الإشارة إلى أية نقطة محددة يتحتم عندها استخدام مصطلح الإنسان، ولكنه أمر ذو أهمية قليلة جداً.-1-

 

ومن العجيب أن داروين كان يرى أن الأجناس البشرية المُختلفة التي تعيش بيننـا الآن هي كائنات حية مُختلفة، وقد أقام داروين التدليل على ذلك باستخدام حجة القمل، فاختلاف نوع القمل في السكان الأصليين لبعض القارات عن القمل الذي يوجد في أوربا يؤكد اختلاف النوع بين البشر الحاملين لذلك القمل، فالأمر ليس مجرد اختلاف أعراق وإنما اختلاف أنواع.

يقول داروين : “بالفحص الدقيق للقمل الذي تم جمعه من أقطار مختلفة من الأعراق المختلفة للإنسان، وُجد أنهم لا يختلفون في اللون فحسب ولكن في التركيب الخاص بالمخالب والأطراف وفي كل مرة يتم فيها الحصول على العينات فإن الاختلافات تكون ثابتة، وعندما شرد القمل الذي كان يعيش على سكان إحدى الجزر البدائيين وانتقل إلى أجساد البحارة الإنجليز، فقد مات في خلال ثلاثة أو أربعة أيام، وكان هذا القمل داكنًا وأكبر في الحجم وأكثر ليونة من القمل الأوربي، وهذه الحقيقة الخاصة بأن الأعراق الإنسانية يتم ابتلاؤها بالطفيليات التي يبدو أنها متباينة بشكل خاص من الممكن تقديمها كبرهان على أن الأعراق البشرية في حد ذاتها من الواجب تصنيفها على أساس أنها أنواع مختلفة ومتباينة من الكائنات الحية .”-2-

وكان العبء المُلقى على عاتق الداروينيين فيما بعد واضحاً، ولا يحتاج التأخير فنحن بصدد البحث عن كائنات حية مُختلفة تُسمى مجازاً بشر.

وكانت بدايات القرن العشرين ملحمة المعاناة للسود والأعراق الأفريقية والأجناس المغولية، فظهرت حدائق حيوان الإنسان، والمعارض الأثنيةethnological expositions ، وفي صورة مُهينة للغاية، وعنصرية قبيحة، وداروينية فجة، كان يوصف هؤلاء البشر بأنهم حلقات في سلسلة الإنسان القرد.-3-

 

وكانت الفترة الذهبية لحدائق حيوان البشر هي الفترة من 1870 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت تُعرض في حدائق حيوان البشر مجموعة واسعة من الحيوانات، وبينها توجد أقفاص تحتوي على بشر من مختلف الأجناس، وكان يوضع في الأقفاص بجانب السود الأقزام والمصابين بالبهاق ومُحدبي الظهور dwarves, albinos and hunchbacks .-4-

 

وكانت توجد حدائق حيوان الإنسان في باريس وهامبورج وبرشلونة وأنتيورب ولندن وميلانو ونيويورك، وفي عام 1874 قرر الألماني Carl Hagenbeck أن يُحضر مجموعة من النوبيين من مصر باعتبارهم أحد الحيوانات التي يتم البحث عنها لملء بقية الأقفاص .-5-

ربما لا يصدق الملحدين المصريين أن أجدادهم رسميًا كانوا داخل أقفاص منذ أقل من قرن وربع بإسم الداروينية الملحدة العنصرية الفجة القبيحة.-

 

وأدرت أقفاص النوبيين الدخل الوفير ل Carl Hagenbeck حيث قام بعمل جولة بهم في باريس ولندن وبرلين .

 

وفي عام 1877 قرر مدير حديقة كوت Geoffroy de Saint-Hilaire  وتسمى Jardin d’acclimatation تنظيم حديقتي حيوان مستقلتين للنوبيين وأهل الإسكيمو ووصل عدد الزوار إلى ما يقارب المليون مما أتاح مضاعفة الحديقتين إلى 30 حديقة بين عامي 1877 إلى عام 1912 .

 

وفي عام 1889 عرضت حديقة الحيوان العالمية في باريس 400 شخص من السكان الأصليين، وكانت زيارات تلك الحدائق تحقق دخولاً رهيبة مما ساعد في انتشارها في أنحاء أوربا.

ومن المدهش أن حديقة حيوان كولومبيا عام 1893 كانت تضم مصريين رسمياً .-6-

 

وفي عام 1904 أُنشئت في مدينة سانت لويس بأمريكا حديقة حيوان تعرض الكثير من الفلبينيين فيما كان يُسمى بموكب التقدم الدارويني التطوري parade of evolutionary progress ، وكانت رسالة حديقة الحيوان واضحة للزوار وهي تبرير عبء الرجل الأبيض، في استعمار العالم وأخذ ثروات هؤلاء البدائيين الذين لا يعرفون قيمتها .

وكانت الأقزام من غينيا الجديدة تُعرض في قسم الثدييات الرئيسية في حديقة حيوان برونكس.

The Primate section of the Bronx Zoo -7-

 

وفي أحيان كثيرة كانت تقوم بعض حدائق الحيوان بنقل قرى بأكملها مع تراكيب البيوت التي كان يعيش بها هؤلاء البشر مع كافة أمتعتهم، حتى تُضفي مزيداً من البهجة للزوار .

تم عرض القرية الكونغولية في معرض بروكسل 1958 في العالم .-8-

 

لكن كيف كان هؤلاء البشر المساكين يُمضون أوقاتهم في أقفاص الحيوانات، تذكر لنا الروايات أن متوسط الفترة التي يمضونها كانت لا تتجاوز ثلاثة أشهر حيث يُصابون بأمراض عُصابية ونفسية خطيرة، وأقدم الكثيرون منهم على الانتحار، وكان أشهر هؤلاء المنتحرين على الإطلاق هو [أوتا بينجا] حيث كان يعيش في إحدى قرى الكونغو وكان متزوجاً ولديه طفلان، وقد اقتيد من قريته وعُرض داخل أحد الأقفاص بجانب قرد الشامبانزي في نفس القفص، ثم مع إنسان الغاب وكان يُصنف كأحد الحلقات المفقودة، وظل معروضاً في حديقة حيوان برونكس في نيويورك شهوراً طويلة، ونظراً لوضعه المأساوي فقد قرر الانتحار، والتخلص من حياته.-9-

 

بقي أن نقول أن حدائق حيوان البشر كانت في العقل الأوربي منذ القرن السادس عشر الميلادي، منذ أن بدأ الأوربيون يجوبون العالم ويُنشئون مستعمراتهم، وكان العقل الأوربي يرى في هؤلاء الزنوج والأقزام والهنود والسكان الأصليين درجة أدنى بكثير من الجنس القوقازي الأبيض، ولذا ما فعله داروين صراحةً هو تقديم المبرر البيولوجي، والمسوغ العلمي الذي يتيح لهؤلاء مزيداً من التنكيل والإهانة وتدمير قرى بأكملها باسم الداروينية، ولذا كانت حدائق حيوان البشر توجد على استحياء قبل داروين، لكن عصرها الذهبي هو من عام 1870- العام الذي أصدر فيه داروين كتابه نشأة الإنسان – إلى عام 1945، فقد حررت الداروينية هؤلاء من أية أعباء أخلاقية في تعاطيهم مع بقية البشر.

 

 

——————————

1- نشأة الإنسان The descent of man .. تشارلس داروين .. ترجمة مجدي محمود المليجي .. المجلس الأعلى للثقافة 2005 .. ص 52

2- المصدر السابق ص402

3- Mullan, Bob and Marvin Garry, Zoo culture: The book about watching people watch, Second edition, 1998, p.32

4- www.discoverparis.net/newsletter.html?insight=3162983825694464

5- http://mondediplo.com/2000/08/07humanzoo

6- Anne Maxell, “Montrer l’Autre: Franz Boas et les soeurs Gerhard”, in Zoos humains. pp. 331-339

7- http://www.modelminority.com/article750.html

8- http://query.nytimes.com/gst/abstract.html?res=9C04E7D81F3EE733A25753C1A96F9C946797D6CF

9- Philips Verner Bradford, Harvey Blume, Ota Benga: The Pygmy in The Zoo, New York: Delta Books, 1992