ثقل التكليف دليل على عظم النتيجة
(حمل وولادة السيدة العذراء مريم عليها السلام)

﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 18].

مشهد تصويري بديع تقف عنده الأنفاس المنتظرة الوصول إلى النتيجة، سيدتنا مريم الشابَّة الشريفة العفيفة التي نشأت في المعبد تحت رعاية الله، والتي تعجَّب من عبادتها وحفظ الله وإكرامه لها نبيُّه وصفيُّه سيدنا زكريا عليه السلام.

فُوجئت العذراء بشخص واقف أمامها، لا يقبل الانصراف عنها، فتلجأ إلى من عوَّدها أن يكون سندًا وظهيرًا لها في كل حين، تلجأ مباشرةً إلى رحمن السماوات والأرض أن يخلِّصها من هول ما هي فيه من محنة، وتُذكِّر الشخص الواقف أمامها بالله تعالى، وتسأله الانصراف عنها بعبارات تهزُّ كلَّ قلب فيه ذرَّة من إيمان ﴿ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾.

ولكن الملك الطاهر لا ينصرف؛ بل يبلِّغها إرادة رب العالمين، فيبلغها الأمر الرباني؛ بل المعجزة الربانية التي لا تخطر على بال بشر، ولا يمكن للعقل الإنساني القاصر تخيُّلها، فوقعت المسكينة في محنة وشدة أكبر من الأولى، ففي الأولى لم يتواءم مع عفَّتها أن يعترضها بشرٌ في طريقها، وفي الثانية أخبرها الملك بأنها ستحمل غلامًا، فأُسْقِط في يدها، وانهارت قواها، وباتت تُحاجج الملك بأمور معقولة على العقل البشري: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20]، هذه هي المسلمات التي يكون بها الولد، ولم ير البشر ولدًا بغير هذه الأمور، فهي إن حملت ولدًا، فإن القوم سيتَّهمونها بالزنى؛ لأنهم لم يشهدوا ولادةً من غير أب.

وقسوة الأمر على سيدتنا مريم تكمُن في شهرتها بين أهلها ومعارفها بالعفَّة والشرف، وأنها نذرت للعبادة كما قالت أمُّها: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فهي التي تقبَّلها ربُّها بقبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنًا، وكفلها زكريا ذلك النبي الرؤوف الحنون الذي لم يكن له ولد، وأحَبَّ مريم حُبَّ الأب لابنته.

فتلاطمت أمواج التفكير العاتية في ذهنها بين خجلها من أهلها وكفيلها، وشماتة أعدائها بها، وطَعْن المحايدين لها في شرفها، كل هذا في جانب، وطاعتها لربِّها في جانب آخر، وهو رازقها الطعام والفاكهة من غير سبب ولا واسطة؛ ليُهيِّئها نفسيًّا لأمر جَلَل أكبر من هذه الأمور بكثير؛ ولكنها كلها تعود إلى قدرة الله على كل شيء.

والذي يزيد التعاطُف مع سيدتنا مريم عليها السلام هو أن الله سبحانه وتعالى أخبرها بأمور تُخفِّف عنها هول ما هي فيه، وأهوال ما ستقدم عليه، وهذا دليل على عمق حزنها، وكبير مصابها، فقد بشَّرَها الملك بأن الغلام سيكون زكيًّا، وأنه سيكون آيةً للناس، وسيكون رحمةً وسيدًا، وهذه الأمور كل واحدة منها، لو بُشِّرت بها أية امرأة حامل لما وسعتها الدنيا من الفرحة، ولانتظرت مولودها بفارغ الصبر لتُباهي به أهل الأرض جميعًا.

ولكن خوف الفضيحة أنسى السيدة مريم العفيفة كل ذلك، ولم يُخفِّف من ألمها النفسي شيئًا؛ بل حمَلت حملَها وهمومَها، وابتعدت بها إلى مكان بعيد، حتى جاءها المخاض، وحانت ساعة الصفر، وهي لا تزال في طور الصدمة من هول ما هي فيه، وبالرغم من تسليمها بأمر ربها؛ لكنها تبقى في طورها البشري، وتنتظر من كل مَنْ حولها القذف واللعن والتشهير، حتى بلغ بها الضَّعف والوهن أن تتمنَّى الموت قبل هذا اليوم، وهي التي كانت تتمنَّى أن تطول بها الحياة؛ كي تستزيد من عبادة ربِّها.

وأطلَّ المولود برأسه إلى الدنيا، وبإطلالته أطلَّت معه مُبشِّرات تُهوِّن على الأُمِّ المسكينة الضعيفة ما هي فيه، فأول ما نطق به المولود هو تخفيفه على أُمِّه بقوله: ﴿ أَلَّا تَحْزَنِي ﴾ [مريم: 24]، فهو يعلم مدى الحزن الذي تعيشه أُمُّه، ومن ثم أخبرها بأن تأكل وتشرب لتسترد عافيتها بعد أهوال الولادة والحمل، والأهم من ذلك أنه يقول لها: ﴿ وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: كوني سعيدةً باصطفاء الله لك مسرورةً بما أعطاك، فما تهتمين به وتحزنين منه، هو عين النعمة التي ليست لأحد غيرك من العالمين[1].

كل هذا وهي لا تزال حزينةً، ولا تعرف كيف تُواجه قومَها، فيرشدها المولود ابن المخاض: ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]؛ أمرها المولى بالصمت؛ لأنه أبلغ هنا من الكلام بكثير، فمهما تكلَّمت ودافعت عن نفسها، فلن يُصدِّقها أحد، فقامت الأم الحنون وحملت طفلها، وهمومها، فتلقَّاها القوم بما كانت تخشى، فقد رموها بالزنى وذكروها بأمور هي أعلم بها ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28]؛ فنطق الرضيع ثانيةً، ولكن هذه المرة ليست مواساةً لأمِّه؛ بل انبرى يُبيِّن مكانته عند ربِّه، فهو عبدالله وليس إلهًا – كما يزعم النصارى اليوم – وهو نبي، وحامل رسالة، ومبارك، ومطيع لربِّه في أداء صلاته وزكاته، ثم يُبيِّن عفَّة والدته بأن الله أمره أن يبرها، (والله دائمًا يجمع الوالدين في البر إلا في هذا المكان فهو قد أفرد الوالدة بالبر؛ لأن سيدنا عيسى عليه السلام لا والد له)، كما أن الله لم يجعله جبَّارًا على والدته ولا على قومه؛ فيشقى في الدنيا والآخرة.

وأنهى الكلام مع قومه بالسلام على نفسه ثلاثًا: يوم ولادته، ويوم وفاته، ويوم بعثه، وهذه القصة الرائعة من قصص القرآن ترشدنا لأمور جليلة -كما هو حال جميع قصص القرآن – منها:

1- التهيئة النفسية والجسدية لكل من يريد الله أن يكلفه بأمر جَلَل من الأنبياء والرسل وغيرهم ممن اصطفاهم الله، فولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يتيمًا، وتنقُّله في عدة بيوت، وعمله في الرعي والتجارة، كل ذلك كان تهيئةً له لحمل أعباء النبوَّة والرسالة.

2- العون الرباني والتهوين النفسي على المكلفين ساعة التكليف، وعند اشتداد الأمر عليهم وثقله، كما رأينا البشارات التي بُشِّرت بها سيدتنا مريم عند الحمل، ومن ثم عند الولادة، فنُطْقُ الوليد هو لتخفيفه على أُمِّه؛ بل إنه كان يُعيدها إلى رشدها خطوةً خطوةً بعد أن تمنَّت الموت قبل لحظات، فأمرها بعدم الحزن، والأكل والشرب والسعادة والإحساس بالنعمة التي لم تُعطَها امرأة أخرى.

وهذا دأب العليم الحكيم في تكليفه مع جميع الأنبياء والرسل، فمع رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت البشارات والتثبيت من سيدتنا خديجة، ومن ابن عمِّها ورقة، والمدَد بإيمان أحب الأصدقاء إليه سيدنا أبي بكر، وبعد شدَّة الطائف كان الإسراء والمعراج وهكذا.

3- كلما كانت الشدة أكبر، كان الفرج الذي يعقبها أكبر، فتحمُّل العذراء مريم لذلك الاتِّهام الشنيع أعقبه خروج نبي مرسل إلى الأُمَّة، قاد الأُمَّة إلى الله تعالى، وأسلم على يده خلقٌ كثيرٌ.

وخروج سيدنا موسى عليه السلام ببني إسرائيل طريدًا متبوعًا بفرعون وجنوده، أعقبه غرق فرعون وجنوده، وعودة سيدنا موسى ببني إسرائيل إلى مصر منصورًا.

وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حزينًا، أعقبه إيمان أُمَّة، وعودته إليها فاتحًا منصورًا.

فالحمد لله القائل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وله الحمد أن علَّمنا كيف نسأله بقوله: ﴿ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

——————————————————————————–

[1] تفسير الشعراوي: 15 /9070.