إيذاء المسلمين

صنيع أبي جهل:

فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَبُو جَهْلٍ: يا معشر قُرَيْشٍ، إن مُحَمَّدًا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر ما أطيق حمله- أو كما قال – فإذا سج في صلاته فضخت به رأسه ([79])، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ما بدا لهم! قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامش لما تريد.

فلما أصبح أَبُو جِهْلٍ أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان بِمَكَّةَ وقبلته إلى الشَّامِ، فكان إذا صلى صلّى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشَّامِ. فقام رسول الله صلى الله عليهسلم يصلي وقد غدت قُرَيْشٌ فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أَبُو جَهْلٍ فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أَبُو جَهْلٍ الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه ([80]) مرعوبًا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قُرَيْشٍ فقالوا له: =ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل ([81]) من الإبل، ولا والله ما رأيت مثل هامته ([82])، ولا مثل قصريه ([83])، ولا أنيابه، لفحل قط، فهم بي أن يأكلني!.([84])

فضخ رأسه: كسرها وشقها. انتقع لونه: (بالباء للمفعول): تغير من هم أو فزع. فحل الإبل: الذكر القوي منها. الهامة: الرأس. القصرة: أصل العنق. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة(2/65/ 497).

خبر النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ:

فلما قال لهم ذلك أَبُو جَهْلٍ قام النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فقال: يا معشر قُرَيْشٍ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان مُحَمَّدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه ([85]) الشيب، وجاءكم بما جاء به، قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، فقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قُرَيْشٌ، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم!.

وكان النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ من شياطين قُرَيْشٍ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الْحِيرَةَ وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قُرَيْشٍ أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول بماذا مُحَمَّدٌ أحسن حديثًا مني؟ وكان ابْنُ عَبَّاسٍ رصي الله عنهما يقول فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قول الله غز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [ الْقَلَمِ: 15 ]، وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.

صدغيه: جانب الوجه من العين إلى الأذن.

ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم:

ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مَكَّةَ إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب ([86]) لهم، ويعصمه الله منهم.

$وكان بِلَالٌ مولى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، لبعض بَنِي جُمَحَ، مولدًا ([87]) من مولديهم، وهو بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وكان اسم أمه حَمَامَةَ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب. وكان أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء ([88]) مَكَّةَ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بِمُحَمَّدٍ وتعبد اللات والعزى! فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحَد!! كان وَرَِقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بِلَالُ! ثم يقبل على أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ومن يصنع ذلك به من بَنِي جُمَحَ فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانًا ([89])! حتى مر به أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يومًا وهم يصنعون به ذلك، فقال لِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ: ألا تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى! فقال أَبُو بَكْرٍ: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به، قال: قد قبلت. فقال: هو لك، فأعطاه أَبُو بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه فأعتقه.([90])

ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى الْمَدِينَةِ ست رقاب، بِلَالٌ سابعهم: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَأُمُّ عُبَيْسٍ، وَزِنِّيرَةُ، وأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قُرَيْشٌ: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى وما تنفعان! فرد الله بصرها، وأعتق النّهْدِيّةَ وبنتها، وكانتا لامرأة من بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا! فقال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: حل ([91]) يا أم فلان! فقالت: حل؟ أنت أفسدتهما فأعتقهما! قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا: =أونفرغ منه يا أَبَا بَكْرٍ ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما. ومر بجارية بَنِي مُؤَمِّلٍ ([92])، وكانت مسلمة، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا ملالة! فتقول: كذلك فعل الله بك! فابتاعها أَبُو بَكْرٍ فأعتقها. $قال أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ: يا بني، إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالًا جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أَبُو بَكْرٍ: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل!([93])

وكانت بَنُو مَخْزُومٍ يخرجون بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، ويعذبونهم برمضاء مَكَّةَ ([94])، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول – فيما بلغني – «صبرًا ياسر، موعدكم الجنة!»([95]) فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.

وكان أَبُو جَهْلٍ الفاسق الذي يُغري بهم في رجال من قُرَيْشٍ، إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك، ولنفيلن ([96]) رأيك، ولنضعن شرفك! وإن كان تاجرًا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك! وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به. عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: قلت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ([97]) ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده.

يصلب: يقوى. مولدًا: من ولد عند العرب ونشأ مع أولادهم وتأدب بآدابهم، أو العربي غير المحض. البطحاء: أو الأبطح، المكان المتسع يمر به السيل، فيترك فيه الرمل والحصى الصغار. أي: قبره موضع حنان، أتمسح به متبركًا. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة(89)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق(414) ، وأبو نعيم في الحلية(1/148). أي: تحللي من يمينك. حي من بني عدي بن كعب. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة(291). الرمضاء: الرمل الساخن من شدة حرارة الشمس. أخرجه ابن سعد في الطبقات(3/249)، والطبراني في الكبير(769)، الحاكم(5646)، والبيهقي في الشعب(1631). فيل رأيه: قبحه وخطأه. الجُعل: دابة سوداء كالخنفساء من دواب الأرض، قيل: هو أبو جعران.