بداية الدعوة

أول الناس إسلامًا:

ثم كان أول ذَكَر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضوان الله وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين. وكان من نعمة الله على عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ومما صنع الله له، وأراده به من الخير، أن قُرَيْشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أَبُو طَالِبٍ ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بَنِي هَاشِمٍ: يا عَبَّاسُ، إن أخاك أَبَا طَالِبٍ كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلًا وتأخذ أنت رجلًا فنكفهما عنه. فقال الْعَبَّاسُ: نعم. فانطلقا حتى أتيا أَبَا طَالِبٍ؛ فقالا له: إنا نريد أن نُخفف من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أَبُو طَالِبٍ: إذا تركتما لي عَقِيلًا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فضمه إليه، وأخذ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فضمه إليه، فلم يزل عَلِيٌّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيًا، فاتبعه عَلِيٌّ رضي الله عنه وآمن به وصدقه.

وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مَكَّةَ، وخرج معه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مستخفيًا من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أَبَا طَالِبٍ عثر عليهما يومًا وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إِبْرَاهِيمَ، بعثني الله به رسولًا إلى العباد، وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه، فقال أَبُو طَالِبٍ: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت!

ثم أسلم زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزى. وكان حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ قدم من الشَّامِ برقيق؛ فيهم زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فدخلت عليه عمته خَدِيجَةُ، وهي يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك. فاختارت زَيْدًا فأخذته، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه.

ثم أسلم أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ واسمه عَتِيقٌ، واسم أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ. فلما أسلم أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله. وكان أَبُو بَكْرٍ رجلًا مألفًا لقومه، محببًا سهلًا، وكان أنسب قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وأعلم قُرَيْشٍ بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلًا تاجرًا ذا خُلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجاربه، وحُسن مُجالسته. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه من الله.

ثم أسلم أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وأخواه قُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وامرأته فَاطِمَةُ أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وهي يومئذ صغيرة، وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِيِّ، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو، وأخوه حَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَيَّاشُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وامرأته أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلَامَةَ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وأخوه أَبُو أَحْمَدَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وامرأته أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ، وامرأته فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلِّلِ، وأخوه حَطَّابٌ، وامرأته فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ، وامرأته رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفٍ، وَالنَّحَّامُ واسمه نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَخَالِد بْنُ= سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وامرأته أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفٍ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالِدٌ وَعَامِرٌ وَعَاقِلٌ وَإِيَاسُ: بَنُو الْبَكِيرُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانَ ((الرُّومِيُّ)).

لا يخلص إليك: لا يصل إليك. أنسب قريش: أعلمهم بالأنساب. هم: علي، وزيد، وأبو بكر، ومن أسلم على يديه. وفي داره كان رسول الله ﷺ مستخفيًا من قريش بمكة يدعو الناس فيها إلى الإسلام، وكانت داره على الصفا، حتى تكامل المسلمون أربعين رجلًا بإسلام عمر، فلما تكاملوا أربعين رجلًا خرجوا. صهيب عربي، ولكن الروم سبته صغيرًا فنشأ فيهم فصار ألكن، ثم اشتراه رجل من كلب فباعه بمكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان فأعتقه. وفي الحديث (( صهيب سابق الروم )).

الجهر بالدعوة:

ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بِمَكَّةَ وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله    أن يصدع بما جاءه منه، وأن يُبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه، ثلاثُ سنين- فيما بلغني- من مبعثه، ثم قال الله تعالى له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[ الْحِجْرِ: 94 ]. وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}[ الشُّعَرَاءِ: 214 – 216].

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبٍ من شعاب مَكَّةَ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يومئذ رجلًا من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم هُريق في الإسلام، فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله، لم يبعد عنه قومه، ولم يردوا عليه- فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.

وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أَبُو طَالِبٍ، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مُظهرًا لأمره، لا يرده عنه شيء. لما رأت قُرَيْشٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أَبَا طَالِبٍ قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قُرَيْشٍ إلى أَبِي طَالِبٍ، فقالوا: يا أَبَا طَالِبٍ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تُخلي بيننا وبينه؟ فقال لهم أَبُو طَالِبٍ قولًا رفيقًا، وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يُظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قُرَيْشٌ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضًا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أَبِي طَالِبٍ مرة أخرى فقالوا له: يا أَبَا طَالِبٍ، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.

فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا- للذي كانوا قالوا له- فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يَا عِمِّ، وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ! )) ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام، فلما ولى ناداه أَبُو طَالِبٍ فقال: أقبل يا ابن أخي. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.

ثم إن قُرَيْشًا حين عرفوا أن أَبَا طَالِبٍ قد أتى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فقالوا له- فيما بلغني-: يا أَبَا طَالِبٍ، هذا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، أنهد فتى في قُرَيْشٍ وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل برجل! فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا! فقال الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: والله يا أَبَا طَالِبٍ لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا! فقال أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعَمْ: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك؟. فحقب الأمر ([44])، وحميت الحرب، وتنابذ ([45]) القوم، وبادى بعضهم بعضًا.

ثم إن قُرَيْشًا تذامروا ([46]) بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يُعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله    منهم بعمه أَبِي طَالِبٍ. وقد قام أَبُو طَالِبٍ، حين رأى قُرَيْشًا يصنعون ما يصنعون، في بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أَبِي لَهَبٍ عدو الله الملعون.

أرسال: جمع رسل بالتحريك، وهى الجماعة. المباداة: المجاهرة. الشعاب: جمع شعب، انفراج بين جبلين. اللحي: العظم الذي فيه الأسنان. شجه: كسر رأسه. أي: عطف ورق. يعتبهم: يرضيهم. شري: استطار وتفرق. تضاغنوا: أضمر كل منهم الحقد على الآخر. تذامروا: حض بعضهم بعضًا. أي: رأي جديد. قال الألباني في السلسلة الضعيفة(909)، ليس له إسناد ثابت. استعبر: جرت دمعته. أنهد: أي: أشد وأقوى. العقل: الدية. أي: عقولهم. تسومونني: أي: تكلفونني. أغذوه: أطعمه وأربيه. حقب أمرهم: فسد. تنابذ القوم: اختلفوا. تذامروا: حض بعضهم بعضًا.

قول الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ في القرآن:

$ثم إن الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجتمع إليه نفر من قُرَيْشٍ، وكان ذا سن ([47]) فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قُرَيْشٍ، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، فقالوا: فأنت يا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهان، فما هو بزمزمة ([48]) الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ([49]) ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم ([50]). قالوا: فما تقول يا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ. قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق ([51])، وإن فرعه لجناة ([52])، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل. وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقولٍ هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره: فأنزل الله تعالى في الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا* وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا* وَبَنِينَ شُهُودًا* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا* ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ* كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [الْمُدَّثِّرِ: 11 – 16].([53]) فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب، وبلغ البلدان، ذُكِر بِالْمَدِينَةِ، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ذكر وقبل أن يذكر، من هذا الحي من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حُلفاء.

ذا سن: أي: من أشرافهم وأكابرهم. الزمزمة: كلام خفي لا يسمع. التخالج: الاضطراب. كان الساحر يعقد خيطًا ثم ينفث فيه. العذق، بالفتح: النخلة. الجناة: ما يجنى.  أخرجه البيهقي في الشعب(35).