الصبا والشباب

كفالة جده له:

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وجده عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ في كلاءة ([81]) الله وحفظه، يُنبته الله نباتًا حسنًا، لما يريد به من كرامته. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين تُوفيت أمه بِالْأَبْوَاءِ بين مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وكانت قد قدمت به على أخواله من بَنِي عَدِيِّ ابْنِ النَّجَّارِ تُزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مَكَّةَ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ. وكان يوضع لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلسُ عليه أحد من بنيه إجلالًا له. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر ([82]) حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا! ثم يُجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين هلك عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وذلك بعد الفيل بثماني سنين.

كلاءة الله: حفظه وحرسه.جفر: الغليظ الشديد.

كفالة عمه له:

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مع عمه أَبِي طَالِبٍ. قال ابْنُ إِسْحَاقَ: حدثني يَحْيى بْنُ عَبَّادٍ أن أباه حدثه أن رجلًا من لِهْبٍ ([83]) كان عائفًا ([84])، فكان إذا قدم مَكَّةَ أتاه رجال قُرَيْشٍ بغلمانهم ينظر إليهم ويعتافُ لهم فيهم. فأتى به أَبُو طَالِبٍ وهو غلام مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال: الغلام، علي به. فلما رأى أَبُو طَالِبٍ حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم! رُدوا علي الغلام الذي رأيت آنفًا، فوالله ليكوننّ له شأن!

بنو لهب:  قوم مشهورون بالعيافة. العائف: الذي يتفرس في خلقة الإنسان فيخبر بما تؤول إليه.

قصة بُحَيْرَا:

ثم إن أَبَا طَالِبٍ خرج في ركب تاجرًا إلى الشَّامِ، فلما تهيأ للرحيل وأجمع المسير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أَبُو طَالِبٍ وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يُفارقنُني ولا أُفارقُه أبدًا. فخرج به معه، فلما نزل الركبُ بُصْرَى وبها راهب يقال له ((بُحَيْرَا))، في صومعةٍ له، وكان إليه علمُ أهل النصرانية. ولم يزل في تلك الصومعة، منذ قط راهب، إليه يصير علمُهم عن كتابٍ فيها، فيما يزعُمون، يتوارثونه كابرًا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام بِبُحَيْرَا، وكانوا كثيرًا ما يمرون به قبل ذلك فلا يُكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبًا من صومعته صنع لهم طعامًا كثيرًا. وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته. يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته، وفي الركب حين أقبلوا، وغمامة تُظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصانُ الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بُحَيْرَا نزل من صومعته. ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قُرَيْشٍ، فأنا أُحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بُحَيْرَا إن لك لشأنًا اليوم، فما كنت تصنعُ هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرًا! فما شأنك اليوم؟ قال له بُحَيْرَا: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببتُ أن أكرمكم وأصنع لكم طعامًا فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بُحَيْرَا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجدُ عنده، فقال: يا معشر قُرَيْشٍ، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا: يا بُحَيْرَا، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثُ القوم سنًا فتخلف في رحالهم. فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قُرَيْشٍ مع القوم: واللات والعُزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عن طعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بُحَيْرَا جعل يلحظه لحظًا شديدًا ونظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بُحَيْرَا فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعُزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. وإنما قال له بُحَيْرَا ذلك؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما- فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (( لا تسألني باللات والعُزى، فوالله ما أبغضتُ شيئًا قط بُغضهما! )) فقال له بُحَيْرَا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: (( سلني عما بدا لك )). فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فيوافق ذلك ما عند بُحَيْرَا من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أَبِي طَالِبٍ فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بُحَيْرَا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرًا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم! فأسرع به إلى بلاده.

صب به: أي: مال إليه، ويروى: (( ضبث )) به أي: تعلق به.كابرًا عن كابر: أي: عن آبائهم وأجدادهم، كبيرًا عن كبير.تهصرت: مالت، وتدلت.

حرب الفجار:

هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة. وإنما سُمي يوم الفجار بما استحل هذان الحيان: كِنَانَةُ وَقَيْسُ عِيلَانَ، فيه من المحارم بينهم. وكان قائد قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ، وكان الظفر في أول النهار لِقَيْسٍ على كِنَانَةَ، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لِكَنَانَةَ على قَيْسٍ.

ذكر ابن هشام أن رسول الله e شهد بعض أيام الفجار، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله e:
(( كنت أنبل على أعمامي ))، أي: أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها. وهذا الفجار هو الفجار الأخير، وهو فجار البراض، وقبله فجارات ثلاث: أولها بين كنانة وهوازن. والثاني بين قريش وهوازن، والثالث بين كنانة وهوازن. وتفصيلها في العقد الفريد، والأغاني.

حلف الفضول:

قال ابْنُ إِسْحَاقَ: تداعت قبائلُ من قُرَيْشٍ إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بَنُو هَاشِم وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ، وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ. فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بِمَكَّةَ مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تُرد إليه مظلمتهُ، فسمت قُرَيْشٌ ذلك الحلف: حلف الفضول.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرُ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ».

 حُمرُ النعم:  ما لم يخالط حمرتها شيء، والعرب تقول: خير الإبل حُمرُها وصُهبها. أخرجه البيهقي(12859).