مكة قبل المولد الشريف؟

أصحاب الأخدود:

وكان بِنَجْرَانَ بقايا من أهل دين عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عليه السلام- أهل فضل واستقامة، لهم رأس يُقال له: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، فسار إليهم ذُو نُواسٍ  بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق من حرق بالنار، وقتل بالسيف ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا.

ففي ذِي نُواسٍ وجُنُده تلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: )قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ( [الْبُرُوجِ: 4 – 8].

ويقال: كان فيمن قتل ذُو نُواسٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ، رأسهم وإمامهم.

نجران: مخلاف من مخاليف اليمن. ذو نواس: ملك اليمن حينئذ وكان يهوديًا. الأخدود: حفرة مستطيلة غامضة في الأرض.

غلبة الْحَبَشَةِ على الْيَمَنِ:

وأفلت منهم رجل من سَبَأٍ يقال له (( دَوْسُ ذُو ثُعْلُبَانَ )) على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم؛ فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قَيْصَرَ ملك الروم، فاستنصره على ذِي نُوَاسٍ وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم. فقال له: بعُدت بلادك منا، ولكني سأكتب لك إلى ملك الْحَبَشَةِ فإنهُ على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك.

وكتب إليه يأمره بنصره، والطلب بثأره. فقدم دَوْسٌ على النَّجَاشِيِّ بكتاب قَيْصَرَ، فبعث معه سبعين ألفًا من الْحَبَشَةِ، وأمّر عليهم رجلًا منهم يُقال له أَرْيَاطُ، ومعه في جنده (( أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ )).

فركب أَرْيَاطُ البحر حتى نزل بساحل الْيَمَنِ، ومعه دَوْسُ ذُو ثُعْلُبَانَ، وسار إليه ذُو نُوَاسٍ في حِمْيَرَ ومن أطاعه من قبائل الْيَمَنِ، فلما التقوا انهزم ذُو نُوَاسٍ وأصحابه، فلما رأى ذُو نُوَاسٍ ما نزل به وبقومه وجه فرسهُ في البحر، ثم ضربهُ فدخل به، فخاض به ضَحْضاحَ البحر ( الضحضاح: الماء اليسير الذي لا غرق فيه) حتى أفضى به إلى غمره (الغمر: الماء الكثير يغرق فيه) فأدخله فيه، وكان آخر العهد به. ودخل أَرْيَاطُ الْيَمَنَ فملكها.

الضحضاح: الماء اليسير الذي لا غرق فيه. الغمر: الماء الكثير يغرق فيه.

نزاع أَرْيَاطَ وَأَبْرَهَةَ:

فأقام أَرْيَاطُ بأرض الْيَمَنِ سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه في أمر الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ أَبْرَهَةُ الحبشي حتى تفرقت الْحَبَشَةُ عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناسُ أرسل أَبْرَهَةُ إلى أَرْيَاطَ: إنك لا تصنعُ بأن تلقي الْحَبَشَةُ بعضها ببعض حتى تُفنيها شيئًا، فابرز إلي وأبرزُ إليك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جُندُه. فأرسل إليه أَرْيَاطُ: أنصفت. فخرج إليه أَبْرَهَةُ وكان رجلًا قصيرًا لحيمًا ( لحيمًا: اللحيم، الكثير لحم الجسد)، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أَرْيَاطُ وكان رجلًا جميلًا عظيمًا طويلًا، وفي يده حربة له، وخلف أَبْرَهَةَ غلام له يقال له (( عَتُودَةُ )) يمنعُ ظهره، فرفع أَرْيَاطُ الحربة فضرب أَبْرَهَةَ يريد يافوخه ( اليافوخ: وسط الرأس) فوقعت الحربةُ على جبهة أَبْرَهَةَ فشرمت حاجبه وأنفه، وعينه وشفته، فبذلك سُمي (( أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ )). وحمل عَتُودَةُ على أَرْيَاطَ من خلف أَبْرَهَةَ فقتله. وانصرف جندُ أَرْيَاطَ إلى أَبْرَهَةَ، فاجتمعت عليه الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ.

لحيمًا: اللحيم، الكثير لحم الجسد. اليافوخ: وسط الرأس.

قصة أصحاب الفيل:

ثم إن أَبْرَهَةَ بنى الْقُلَّيْسَ بِصَنْعَاءَ، فبنى كنيسة لم يُر مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النَّجَاشِيِّ: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولستُ بمُنته حتى أصرف إليها حج العرب! فلما تحدثت العربُ بكتاب أَبْرَهَةَ ذلك إلى النَّجَاشِيِّ غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الْقُلَّيْسَ فقعد فيها، ثم خرج فلحق بأرضه. فأُخبر بذلك أَبْرَهَةُ فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العربُ إليه بِمَكَّةَ، لما سمع قولك: ((أصرف إليها حج العرب )) غضب فجاء فقعد فيها، أي: أنها ليست لذلك بأهل.

فغضب عند ذلك أَبْرَهَةُ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الْحَبَشَةَ فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقًا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.

فخرج إليه رجلٌ كان من أشرافِ أهلِ الْيَمَنِ وملوكهم يقال له: (( ذُو نَفْرٍ ))، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أَبْرَهَةَ وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريدُ من هدمه وإخرابه، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، فهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وأصحابُه، وأُخذَ له ذُو نَفْرٍ فأُتي به أسيرًا.

ثم مَضَى أَبْرَهَةُ على وجهه ذلك، يريدُ ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خَثْعَمَ عرض له نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ في قبيلي خَثْعَمَ: شِهْرَانَ وَنَاهِسَ، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أَبْرَهَةُ، وأُخذ له نُفَيْلٌ أسيرًا. فخلى سبيله وخرج معه يدله، حتى إذا مر بِالطَّائِفِ خرج إليه مَسْعُودُ بْنُ مُتْعِبٍ، في رجال من ثَقِيفَ، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدُك، سامعون لك مُطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون: اللات- إنما تريدُ البيت الذي بِمَكَّةَ، ونحن نبعثُ معك من يدُلك عليه. فتجاوز عنهم. فبعثوا معه (( أَبَا رِغَالٍ )) يدُله على الطريق إلى مَكَّةَ، فخرج أَبْرَهَةُ ومعه أَبُو رِغَالٍ حتى أنزله الْمُغَمَّسَ، فلما أنزله به مات أَبُو رِغَالٍ هنالك، فرجمت قبره العربُ. فهو القبرُ الذي يرجُم الناسُ بِالْمُغَمَّسِ.

فلما نزل أَبْرَهَةُ الْمُغَمَّسَ بعث رجلًا من الْحَبَشَةِ يقال له (( الْأَسْوَدُ بْنُ مَفْصُودٍ )) على خيل له، حتى انتهى إلى مَكَّةَ، فساق إليه أموال تِهَامَةَ من قُرَيْشٍ وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وهو يومئذ كبيرُ قُرَيْشٍ وسيدها، فهمت قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.

وبعث أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الحِمْيَرِيَّ إلى مَكَّةَ فقال له: سَل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها. ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئتُ لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم. فإن هو لم يُرد حربي فأتني به. فلما دخل حُنَاطَةُ مَكَّةَ سأل عن سيد قُرَيْشٍ وشريفها، فقيل له: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ. فجاءه فقال له ما أمره به أَبْرَهَةُ، فقال له عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: والله ما نريدُ حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيتُ خليله إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فإن يمنعه منه فهو بيتهُ وحرمهُ، وإن يُخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حُنَاطَةُ: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن (( ذِي نَفْرٍ ))، وكان له صديقًا، حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له: يا ذَا نَفْرٍ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذُو نَفْرٍ: وما غناء رجُل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غُدُوًّا أو عشيًا؟ ما كان عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أُنَيْسًا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك وأُعظمُ عليه حقك وأسألُه أن يستأذن لك على الملك فتُكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذُو نَفْرٍ إلى أُنَيْسٍ فقال له: إن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سيدُ قُرَيْشٍ، وصاحبُ عير مَكَّةَ، يُطعمُ الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب لك الملكُ مائتي بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل.

فكلم أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ فقال له: أيها الملك، هذا سيد قُرَيْشٍ ببابك يستأذنُ عليك، وهو صاحبُ عير مَكَّةَ، وهو يُطعمُ الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليُكلمك في حاجته. فأذن له أَبْرَهَةُ. وكان عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أَبْرَهَةُ أجله وأعظمه، وأكرمه أن يُجلسه تحته، وكره أن تراه الْحَبَشَةُ يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أَبْرَهَةُ عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجُمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك التُرجمان، فقال: حاجتي أن يرُد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك قال أَبْرَهَةُ لتُرجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني! أتُكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه لا تُكلمني فيه؟ قال له عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إني أنا ربُّ الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه! قال: ما كان ليمتنع مني! قال: أنت وذاك.

فرد أَبْرَهَةُ على عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلى قُرَيْشٍ فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مَكَّةَ والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفًا عليهم من معرة الجيش. ثم قام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قُرَيْشٍ يدعون الله ويستنصرونه على أَبْرَهَةَ وجُنده، فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هُـمَّ إنَّ الْـعَـبْـدَ يَـمْــ ـنَعُ رَحْـلَـهُ فَـامْـنَـعْ حِـلَالَـكْ
لَا يَـغْـلِـبـَنَّ صَـلِيـبُـهُـمْ ومِـحَـالُهُـمْ غَـدْوًا مِـحَالَـكْ
إِنْ كُـنْـتَ تَـارِكَـهُمْ وقِبْــ ـلَـتَـنـَا فـأَمْـرٌ مَـا بَـدَا لـَكَ

ثم أرسل عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قُرَيْشٍ إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أَبْرَهَةُ فاعل بِمَكَّةَ إذا دخلها. فلما أصبح أَبْرَهَةُ تهيأ لدخول مَكَّةَ، وهيأ فيله، وعبى جيشه، وكان اسم الفيل (( مَحْمُودًا ))، وَأَبْرَهَةُ مُجمعٌ لهدم البيت ثم الانصراف إلى الْيَمَنِ، فلما وجهوا الفيل إلى مَكَّةَ أقبل نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأُذنه فقال: ابرك محمود أو ارجع راشدًا من حيثُ جئت، فإنك في بلد الله الحرام! ثم أرسل أذنه فبرك الفيلُ، وخرج نُفَيْلٌ يشدُّ حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى الْيَمَنِ فقام يُهرول، ووجهوه إلى الشَّامِ ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مَكَّةَ فبرك، فأرسل الله تعالى عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثةُ أحجار يحملها: حجرٌ في منقاره، وحجران في رجله، أمثال الحمص والعدس، لا تُصيب منهم أحدًا إلا هلك، وليس كُلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءُوا، فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، على كل منهل، وأُصيب أَبْرَهَةُ في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملةً.

قال ابْنُ إِسْحَاقَ: فلما بعث الله تعالى مُحَمَّدًا    كان مما يعُدُّ الله على قُرَيْشٍ من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الْحَبَشَةِ، لبقاء أمرهم ومُدتهم، فقال الله تبارك وتعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ( [ الْفِيلِ: 1 ].

حفر زَمْزَم وما جرى من الخُلف فيها:

ثم إن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بينما هو نائم في الحِجْر إذ أُتي فأُمر بحفر زَمْزَمَ. قال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغدُ رجعتُ إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال: وما برة؟ قال؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة.فقلت: وما المضنونة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر زَمْزَمَ. قلت: وما زَمْزَمُ؟ قال: لا تنزفُ أبدًا ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نُقرة الغُراب الأعصم، عند قرية النمل.

فلما بُين له شأنُها ودُل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنهُ الْحَارِثُ، ليس له يومئذٍ ولدٌ غيره، فحفر فيها، فلما بدا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطي كبر، فعرفت قُرَيْشٌ أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، إنها بئرُ أبينا إِسْمَاعِيلَ، وإن لنا فيها حقًا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونكم، وأُعطيتهُ من بينكم. فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نُخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أُحاكمكم إليه. فقالوا: كاهنة بَنِي سَعْدٍ هُذَيْمٍ. قال: نعم. قال: وكانت بأشراف الشَّامِ. فركب عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ومعه نفرٌ من بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وركب من كل قبيلة من قُرَيْشٍ نفر، والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فني ماءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قُرَيْشٍ فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فلما رأى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمُرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حُفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة؛ فكلما مات رجُل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخرُكم رجلًا واحدًا، فضيعةُ رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعًا. قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثم إن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا لعجز. فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا. فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قُرَيْشٍ ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلى راحلته فركبها، فلما انبعث بها انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم. ثم دعا القبائل من قُرَيْشٍ فقال: هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا. فجاءوا فشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد والله قُضي لك علينا يا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، والله لا نخاصمُك في زَمْزَمَ أبدًا. إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زَمْزَمَ، فارجع إلى سقايتك راشدًا! فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها.

القليس: هي اسم الكنيسة التي أراد أبرهة أن يصرف إليها حج العرب، وهي بضم القاف وتشديد اللام. النسأة: جمع ناسئ، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور، أي: يؤخرونها، كانوا إذا صدروا من منى يقوم رجل منهم من كنانة فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب، ولا يرد لي قضاء! فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرًا، أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها؛ لأن معاشهم كان من الغارة. فيحل لهم المحرم؛ فذلك الإنساء. قعد: أي: أحدث. خثعم: اسم جبل، موطن القبيلة. المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف، روى بفتح الميم المشددة أو كسرها. مفصود: في بعض النسخ مقصود. غناء: ما يجزئ وما ينفع. العير، بالكسر: قافلة التجارة. التحرز: التمنع والتحصن. شعف الجبال رءوسها. والشعاب: المواضع الخفية بين الجبال. معرة الجيش: شدته. الحلال: جمع حلة، بالكسر، وهم القوم المجتمعون. ويروى: (( رحالك )).غدوًا: غدًا. المحال: بالكسر، الشدة والقوة. تحرزوا: احترزوا، أي: توقوا. الطبرزين: آلة معقفة من حديد. المحجن: عصا معوجة قد يجعل فيها حديد. والمراق: أسفل البطن. بزغوه: أدموه. الخطاطيف: جمع خطاف، وهو طائر أسود. والبلسان: الزرازير، ضرب من الطير. يريد أن جسمه قد تناثر قطعة فقطعة. الحجر: حجر الكعبة، وهو ما تركت قريش في بنائها من أساس إبراهيم عليه السلام. لا تذم: لا توجد قليلة الماء. الفرث: ما يكون في كرش الحيوان. روي أنه لما قام ليحفرها رأى ما رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب، ولم ير الفرث والدم، فبينما هو كذلك فرت بقرة من جازرها، فلم يدركها حتى دخلت المسجد الحرام، فنحرها في الموضع الذي رسم، فسال هناك الفرث والدم، فحفر عبد المطلب حيث رسم له. الأعصم: الذي في جناحيه بياض. المعول: آلة من الحديد ينقر به الصخر. الطي: الحجارة تطوى بها البئر. أي: ما ارتفع من أرضها. مفاوز: جمع مفازة، صحراء. أسقية: جمع سقاء، وعاء من جلد يكون للماء واللبن. الفلاة: الأرض الواسعة المقفرة.

نذرُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ذبح ولده:

وكان عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، قد نذر حين لقي من قُرَيْشٍ ما لقي عند حفر زَمْزَمَ: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة. فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأعطوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحًا ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني. ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على (( هُبَلَ )) وكان هُبَلُ على بئر في جوف الكعبة. وكانت تلك البئرُ هي التي يُجمع فيها ما يُهدى للكعبة.

وكان عند هُبَلَ قداح سبعة، كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه (( العقل )) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه (( نعم )) للأمر إذا أرادوه، يضرب به في القداح، فإن خرج قدح (( نعم )) عملوا به. وقدح فيه (( لا ))، إذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القدح، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه (( منكم ))، وقدح فيه (( مُلصق ))، وقدح فيه (( من غيركم ))، وقدح فيه
(( المياه )) إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقدح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غُلامًا أو يُنكحوا منكحًا،
أو يدفنوا ميتًا، أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هُبَلَ، وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فُلان =ابْن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القدح: اضرب. فإن خرج عليه (( منكم )) كان منهم وسيطًا؛ وإن خرج عليه (( من غيركم )) كان حليفًا، وإن خرج عليه (( مُلصق )) كان على منزلته فيهم، لا نسب ولا حلف، وإن خرج فيه شيء مما يعملون به ((نعم)) عملوا به؛ وإن خرج (( لا )) أخروه عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عَبْدُ اللَّهِ أصغر بني أبيه، وكان أحب ولد عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إليه، فكان عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى.

فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عند هُبَلَ يدعو الله، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فأخذه عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إِسَافٍ وَنَائِلَةَ ليذبحه، فقامت إليه قُرَيْشٌ من أنديتها فقالوا: ماذا تريد يا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ؟ قال: أذبحه. فقالت له قُرَيْشٌ وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تُعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزالُ الرجلُ يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا! وقال له الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وكان ابن أُخت القوم: والله لا تذبحُه أبدًا حتى تُعذر فيه، فإن كان فداؤُه بأموالنا فديناه! وقالت له قُرَيْشٌ وبنوه: لا تفعل وانطلق به إلى الْحِجَازِ؛ فإن به عرافة لها تابع، فسلها ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.

فانطلقوا حتى قدموا الْمَدِينَةَ فوجدوها بِخَيْبَرَ، فركبوا حتى جاءُوها فسألوها، وقص عليها عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خبره وخبر ابنه، وما أراد به، ونذره فيه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها فلما خرجوا عنها قام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله، ثم غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءني الخبرُ، كم الديةُ فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مَكَّةَ، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر قام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم قربوا عَبْدَ اللَّهِ وعشرًا من الإبل، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قائم عند هُبَلَ يدعو الله عز وجل، ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل عشرين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله عز وجل. ثم ضربوا فخرج القدحُ على عَبْدِ اللَّهِ فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل ثلاثين. وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل أربعين وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل خمسين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ. فزادوا الإبل عشرًا فبلغت الإبل ستين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل سبعين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل ثمانين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل تسعين، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على عَبْدِ اللَّهِ، فزادوا عشرًا من الإبل فبلغت الإبل مائة، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله. ثم ضربوا فخرج القدح على ((الإبل))، فقالت قُرَيْشٌ ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ! فزعموا أن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات. فضربوا على عَبْدِ اللَّهِ وعلى الإبل، وقام عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يدعو الله فخرج على الإبل؛ ثم عادوا الثانية وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قائم يدعو الله، فضربوا فخرج القدح على الإبل؛ ثم عادوا الثالثة وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ قائم يدعو الله، فضربوا فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يُصد عنها إنسان ولا يُمنع.

يمنعوه: يحمونه ويجيرونه. القدح بالكسر: قطعة من الخشب تعرض قليلًا وتسوى. اسم صنم. العقل: الدية. الملصق: الدعي الذي ليس من نسب القوم. جزور: ما يصلح أن يُذبح من الإبل، ولفظه أنثى. وسيط: خالص النسب. أي: حين أراد نحره، وإلا فإن حمزة كان أصغر منه، والعباس كان أصغر منه. والعباس كان كذلك أصغر من حمزة. يقال: أشوى السهم، إذا لم يصب المقتل. الشفرة: ما عُرض وحُدد من الحديد كحد السيف والسكين. أعذر إعذارًا: ثبت له عذر. تابع: من الجن.