تفسير

(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)

الشيخ محمد حامد الفقي

تفسير قول الله تعالى

﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 65-66].

 

وقد أشار الله تعالى إلى هذه الجريمة الإسرائيلية في سورة النساء فقال: ﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾ [النساء: 47]، وفي سورة النساء أيضاً فقال ﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ﴾ [النساء: 154]، وفي سورة المائدة في قوله ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60]، وشرحها في سورة الأعراف فقال ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [لأعراف: 163-166].

 

قال أبو طاهر عفا الله عنه: أصل السبت القطع، أو من السبات بمعنى الدعة والراحة. واليهود تزعم أنه اليوم الذي استراح فيه الله – سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيراً – من خلق العالم. وبذلك سمي يوم السبت، واتخذوه يوم راحة وانقطاع عن العمل. قال في القاموس وشرحه: السبت. الراحة والسكون والقطع وترك الأعمال.

 

قال أبو عبيدة: السبت آخر الأيام، وإنما سمي سبتاً لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، أي قطع. وقال الجوهري: سمي يوم السبت لانقطاع الأيام عنده وخسا الكلب: طرده وأبعده وزجره. والخسء: الصغار والطرد والذلة. والنكال: أصله المنع؛ والنكل: القيد. والمراد من النكال هنا: العبرة أو العقوبة. وقوله ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ [البقرة: 66] يعني للبلاد والقرى التي حول هذه القرية والتي بحضرتها يبلغها خبرها وما حل بها. كقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى ﴾ فجعلهم عبرةً ونكالاً لمن في زمانهم ﴿ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الذين يأتون بعدهم بما يبلغهم من الخير المتواتر عنهم.

 

قال الحافظ ابن كثير في التاريخ: قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم؛ هم أهل أيلة – زاد ابن عباس: بين مدين والطور – قالوا: وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فحانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم؛ وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه؛ وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب؛ فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها مسترسلة فلا يهيجونها ولا يذعرونها ﴿ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ﴾ وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت. قال الله تعال ﴿ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ﴾ أي نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ أي بسبب فسقهم المتقدم. فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها. ففعلوا ذلك في يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها، فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر وهي في الباطن مخالفة محضة.

 

فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين، فرقة أنكرت عليهم صنيعهم هذا واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان؛ وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا، بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ [لأعراف: 164]، يقولون: ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة؟ فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا  ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ أي فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنقوم به خوفاً من عذابه ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا رجعوا واستمعوا. قال الله تعالى ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ أي لم يتلفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع ﴿ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ﴾ وهم الفرقة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ﴿ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾  وهم المرتكبون الفاحشة ﴿ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ وهو الشديد المؤلم الموجع ﴿ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله ﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ أخبر الله أنه أهلك الظالمين ونجى المؤمنين المنكرين وسكت عن الساكتين؛ وإنما لم يذكروا مع الناجين لأنهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يجملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي الذي هو أوسط المراتب الثلاث التي أعلاه الإنكار باليد، وبعدها الإنكار القولي، وثالثها الإنكار بالجنان؛ فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين، إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها.

 

وقد روى عبدالرزاق عن ابن عباس، وحكى مالك عن قتادة وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنيع اعتزلهم بقية أهل البلد ونهاهم من نهاهم فلم يقبلوا، فكانوا يبيتون وحدهم ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا، لما كانوا يترقبون من هلاكهم، فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحى؛ فأمر بقية أهل البلد رجلاً أن يصعد على سلالم ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون، ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم فجعلوا يلوذون بهم، ويقول لهم الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم؟ فتشير القردة برؤوسها: أن نعم. ثم بكى عبدالله بن عباس وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة ولا ننكرها ولا نقول فيها شيئاً. وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس أنهم لم يعيشوا إلا فواقا ثم هلكوا، ما كان لهم نسل. وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وخنازير، وإنما هو مثل ضربه الله ﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: 5] اهـ ببعض تصرف.

 

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان:

ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية ما قصه الله تعالى من قصة أصحاب السبت حين مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى. ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام واستباحة الفروج والمال الحرام والدم الحرام وذلك أعظم من مجرد العمل يوم السبت، ولكن لما استحلوا محارم الله بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه مخادعة الصبيان، ومسخوا دينه بالاحتيال، مسخهم الله قردة. وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد في كل أيام الأسبوع إلا يوماً واحداً، فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه؛ وساعد القدر: بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم في غير يوم السبت وإرسالها عليهم يوم السبت. وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه، فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ. فانظر ما فعل الحرص، وما أوجب الحرمان بالكلية ومن هاهنا قيل: من كلبه كله فاته كله. اهـ.

 

وهذه القصة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أشج المواعظ وأقوى العبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وأن على المؤمن أن ينكر المنكر ولو كان الظاهر من حال الفاسق أنه لا يقلع. نفعنا الله بها، ووقانا الله شر ما يستوجب غضبه ومقته وسخطه، من الرضى بالمنكر وارتكاب الفواحش ومسخ دينه وشريعته السمحة بالتأويلات الباطلة، أو اتباع الهوى وطاعة الشهوات.

 

مجلة الهدي النبوي – المجلد الرابع – العدد 52 – 15 شعبان سنة 1359هـ

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/95692/#ixzz637fH9lCf

 

 

فيديو للشيخ  نبيل العوضي

وهذا الفيديو يحكي قصة “أصحاب السبت

 

https://www.magltk.com/the-sabbath/