تفسير قوله تعالى ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾

الشيخ محمد حامد الفقي
الشيخ محمد حامد الفقي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 35 – 37].

قال الراغب الأصبهاني: سكن فلان مكان كذا؛ أي: استوطنه، واسم المكان مسكن، والجمع: مساكن؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25]، ومنه قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ [إبراهيم: 37]، وقوله: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾ [الطلاق: 6]، وقال القرطبي: قال لآدم اسكن؛ أي: لازم الإقامة، واتخذها سكنًا، وهو محل السكون، قال: وفيه تنبيه على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكًا.

قال الراغب: والزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى، وزوجة: لغة رديئة؛ قال: والجنة: كل بستان يستر بأشجاره الأرض؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ [سبأ: 15]، وقال: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴾ [الكهف: 39]، وسُمِّيت الجنة؛ إما تشبيهًا بالجنة في الأرض، وإن كان بينهما بون، وإما لستره نعيمها عنا المشار إليه بقوله: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17]، قال: وعيش رغد ورغيد: طيب واسع؛ قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾ [النحل: 112]، قال: والزلة في الأصل: استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجل تزل، وقيل للذنب من غير قصد: زلة تشبيهًا بزلة الرجل؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 209]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾ [آل عمران: 155]؛ أي: استجرهم الشيطان حتى زلُّوا، فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها، تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه.

قال: والهبوط: الانحدار على سبيل القهر، والهبط ذكر حيث نبَّه على الغض؛ نحو: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ [البقرة: 36]، ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ [الأعراف: 13]، ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة: 61]، وليس في قوله: ﴿ فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ تعظيم ولا تشريف، ألا ترى أنه قال: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 61]، والكلمات: جمع كلمة، وهي تقع على الكلمة الواحدة وعلى الكلام الكثير، والمراد منها هنا قوله: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].

أقول: إن الله سبحانه وتعالى لما طرَد إبليس من الجنة وأقصاه عنها مذمومًا مدحورًا، وأوجب عليه اللعنة، وعلى مَن اتَّبع خُطواته إلى يوم الدين، قال لآدم بعد ذلك؛ نكايةً بإبليس، وإيذانًا بتنفيذ عقوبة لعنه وطرده: ﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾ [البقرة: 35] حواء ﴿ الْجَنَّةَ ﴾، وهذا يدل على أن زوجه كانت موجودة قد سبق خلقها لآدم قبل ذلك، وفي القرآن الكريم أخبر الله أنه خلقها من نفس زوجها آدم؛ قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، وقال في سورة الأعراف: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [الأعراف: 189].

وفي صحيح البخاري ومسلم في الوصية بالنساء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خُلِقت من ضِلَع، وأن أعوج شيء في الضلع أعلاه، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عِوَج، وإن ذهبتَ تُقيمها كسرتها، وكسرُها طلاقها)).

ففي القرآن والسنة الثابتة أن المرأة خُلِقت من نفس زوجها؛ ليكون ذلك أقوى في طلب الرجل للمرأة، وشدة حاجته إليها؛ لأنها جزؤه المُتمِّم له، الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه، وليكون أيضًا أدعى إلى الأُلفة والمودة بينهما، وسكون كل واحد منهما إلى صاحبه، ورحمته به، وحَدَبه عليها؛ إذ هما اجتمعا بعُقدة النكاح، وارتبطَا بوثاق الزوجية.

وقد أكثر العلماء القول في الجنة التي أسكنها الله آدم وزوجه، والذي أعتقده أنها جنة الخلد التي أُعِدت للمتقين؛ ذلك لأن الله تعالى قال: ﴿ الْجَنَّة ﴾ مَعرفة بلام العهد؛ أي: الجنة المعروفة في لسان القرآن والمعروفة للملائكة وآدم، التي حُرِم منها إبليس، وأُبْعِد منها مذمومًا مَدحورًا عليه اللعنة ومَن تَبِعه، وقد وصفها الله سبحانه في سورة طه، قال: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 117 – 119].

وأي بستان في الدنيا مهما كثُرت فواكهه، وغَزُرَ ماؤه، وعَذُبَ شرابُه، فإنه لا بد أن يحس ساكنه مرة بالجوع والعطش، وتَبلى ثيابُه، ويجد من حر الشمس، فلا تكون هذه الصفات إلا لجِنَّة الخلد التي أُعِدت للمتقين، وقد جاء في السُّنة الثابتة ما يزيد ذلك عندي قوةً وثبوتًا؛ إذ جاء في صحيح البخاري في تفسير قوله تعالى: ﴿ فلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حاج موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك، فأشقيتهم)) الحديث، وفي لفظ: (وأسكنك جنته)، وهذا الحديث قد رواه مسلم وغيره، وقال ابن عبدالبر: “هذا الحديث ثابت بالاتفاق، رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الأثبات”؛ ا .هـ.

وانظر طرقه في فتح الباري (ج 11 ص 407) في أبواب القدر، ومثل هذه الإطلاقات بهذه الألفاظ إنما تُعرف في لسان القرآن والسنة على ما هو المتعارف فيهما، المُشتهر فيه استعمال اللفظ لما يُعرف من معناه، كذلك بطريق البداهة من غير احتياج إلى قرينة.

وقد أطال الإمام العلامة المحقق ابن القيم القول في ذلك في كتاب “حادي الأرواح” إلى بلاد الأفراح، وذكَر قول كل فرقة، وساق حُججها، وما ردَّت به على الأخرى، واختار أنها جنة في الدنيا وليست جنة المأوى، وأما في كتاب “مفتاح دار السعادة”، فإنه جرى على أنها جنة المأوى، ونلخص لك من “مفتاح دار السعادة” طرفًا قد ينفعك الله به إن شاء الله تعالى؛ لأنه كلام نفيس كل النفاسة؛ قال رحمه الله: أهبط الله آدم أبا البشر من الجنة؛ لِما له في ذلك من الحِكَم التي تَعجِز العقول عن معرفتها، والألسن عن صفتها، فكان إهباطه منها عين كماله؛ ليعود إليها على أحسن أحواله، فأراد سبحانه أن يُذيقه وولده من نَصَب الدنيا وغمومها، وهمومها وأوصابها – ما يعظُم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار الآخرة، فإن الضد يُظهر حُسنَه الضدُّ، ولو تربَّوا في دار النعيم، لم يَعرِفوا قدرها.

وأيضًا فإنه أراد أمرهم ونهْيهم وابتلاءهم واختبارهم، وليست الجنة دار تكليف، فأهبطهم إلى الأرض، وعرَّضهم بذلك لأفضل الثواب الذي لم يكن ليُنال بدون الأمر والنهي.

وأيضًا فإنه أراد أن يتخذ منهم أنبياءَ ورسلاً، وأولياءَ وشهداءَ، يُحبهم ويحبونه، فخلَّى بينهم وبين أعدائه، وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابِّه، نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه، ما لم يكن ليُنال بدون ذلك أصلاً.

فدرجة الرسالة والنبوة، والشهادة والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه عنده – من أفضل الدرجات، ولا ينال هذا إلا على الوجه الذي قدَّره وقضاه مَن جعل معيشته ومعيشة أولاده في الأرض.

وأيضًا ليظهر فيهم آثار أسمائه الحسنى من الغفور الرحيم، العفو الحليم، الخافض الرافع، المعز المذل.

وأيضًا ليظهر الإيمان بالغيب الذي هو الإيمان النافع، أما الإيمان بالشهادة، فكل أحد يؤمن به يوم لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنتْ من قبلُ، أو كسبت في إيمانها خيرًا.

وأيضًا لأن الله يعلم أن في ظهر آدم: الخبيث واللئيم الذي لا يصلح لمساكنته في داره، فأنزله إلى دار يَميز فيها الطيب من الخبيث.

وأيضًا ليظهر تحقيق قوله سبحانه للملائكة: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، بما جعل في الأرض من خواص خلقه ورُسله وأنبيائه وأوليائه، ومن يبذل نفسه وماله في محبته ومرضاته، مع مجاهدة شهوته وهواه وعدوِّه، والملائكة يُسبِّحون ويُقدِّسون من غير معارض يُعارضهم، ولا شهوة تَعتريهم، ولا عدوٍّ سُلِّط عليهم، بل عبادتهم لله بمنزلة النفس لأحدهم.

وأيضًا ليظهر ما خفِي على الملائكة من شأن عدوِّه، ومحاربته له، وتكبُّره عن أمره، وسَعيه في خلاف مرضاة ربه.

وأيضًا لينالوا أعظم الكرامات التي هي محبة الله لهم، وهي لا تكون إلا للصابرين، والمحسنين الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص؛ فيُواليهم ويُوالونه، ويحبهم ويُحبونه؛ ويرضى عنهم ويرضون عنه، وذلك غاية كمالهم ونهاية شرفهم، فأخرجهم إلى تلك الدار المحفوفة بالشهوات ومحاب النفوس التي بإيثار الحق عليها والإعراض عنها، يتحقق حبهم له وإيثارهم إياه على غيره.

وأيضًا لتتم نعمته عليهم، فينال من اصطفاه منهم درجة العبودية الاختيارية التي يأتي بها طوعًا واختيارًا، لا كرهًا واضطرارًا، وهي أفضل درجاتهم وأعلاها عند ربهم، وقد نوَّه الله بهذه الدرجة التي منحها أفضل بني آم وأكرمهم وأعلاهم عند الله منزلةً، وأرفعهم قدرًا صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1] في أشرف مقاماته في السماء في ليلة الإسراء، وقال: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19] في أشرف مقاماته في الأرض، وذلك المقام لا ينال إلا بكمال الطاعة لله والتقرب إليه بمحابه.

وأيضًا ليرى أحبابه فعله بأعدائه، وما أعد لهم من العذاب والنكال، فيروا تمام نعمته عليهم، ويعرفوا قدر إحسانه إليهم؛ ليكونوا أعظم شكرًا له ومحبة، وأكثر التذاذًا بما أعطاهم من النعيم، فلم يكن بُدٌّ في ذلك من إنزالهم إلى الأرض لامتحانهم واختبارهم، وتوفيق من شاء منهم رحمة وفضلاً، وخِذلان من شاء حكمةً وعدلاً، وهو العليم الحكيم.

وأيضًا لتظهر الأسباب التي يُحمَد عليها الله، الذي هو أهل الحمد الكامل المطلق الذي لا نهاية لكماله، وهي نوعان: عدل وفضل، فلا بد من ظهور أسباب العدل واقتضائها لمسبباتها؛ ليترتب عليها كمال الحمد الذي هو أهله، فكما أنه محمود على إحسانه وبره وفضله، فهو محمود على انتقامه وعقابه وعدله؛ إذ يصدر ذلك كله عن عزته وحكمته، ولهذا نبَّه سبحانه على هذا كثيرًا كما في سورة الشعراء؛ حيث يذكر في آخر قصة كل نبي وما أوقع بالمكذبين له من النقمة والنكال، وما أعطى المؤمنين به من الرحمة والإفضال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 8، 9].

ولأن أشرف أحوال العبد في سيره إلى الله نهاية تذلُّله بين يديه وخضوعه وفقره، ومسكنته وانكساره وتضرُّعه؛ وذلك لا يتم إلا بالجهاد المستلزم لاجتماع الضدين، وذلك ممتنع في دار النعيم المطلق.

وأيضًا ليظهر مقتضى أمره وشرعه الذي بعث به أنبياءه، فإن الله سبحانه كما أن أفعاله وخلقه من لوازم كمال الأسماء والصفات، فكذلك أمره وشرعه وما يترتب عليه من الثواب والعقاب، وليست الجنة دار تكليف، وإنما هي دار نعيم مقيم ولذة دائمة، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في غير موضع من كتابه، فقال: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]؛ أي: مهملاً معطلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقَب، وذلك مناف لحكمته وربوبيته وعزته، ولهذا أخرج الكلام مخرج الإنكار على مَن يَحسَب ذلك ويَزعمُه، وهو يدل على أن حُسنه مُستقر في الفِطَر والعقول، وقُبح ترْكه سُدًى مُعطلاً مُستقر في العقول والفِطَر.

وأيضًا فإن الله سبحانه أراد أن ينقل آدم وذريته من الاستخلاف في الأرض إلى توريثه جنة الخلد، وعلِم سبحانه أنه لضَعْفه وقصور نظره، قد يختار العاجل الخسيس على الآجل النفيس، الذي هو من لوازم كونه خُلِق عجولاً، فاقتضت حكمته أن أراها إياهم وأسكنه إياها، ثم قص على بنيه قصته، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها حاضرون مع أبيهم، فاستجاب مَن خُلِق لها وخُلِقت له، وسارَع إليها، فلم يُثنه عنها العاجلة، بل يعد نفسه كأنه فيها، ثم سباه العدو، فيراها وطنه الأول، فهو دائم الحنين إلى وطنه، ولا يَقر له قرار حتى يرى نفسه فيه قد عاد إليه.

وحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلُك الأولى وفيها المُخيَّمُ ولكننا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسلِّمُ؟

قال الشيخ ابن القيم: فسر هذه الوجوه أنه سبحانه وتعالى سبق في حكمه وحكمته أن الغايات المطلوبة لا تنال إلا بأسباب نصبها مفضية إليها، وإذا كانت الغايات التي هي دون ذلك، لا تنال إلا بأسبابها مع ضعْفها وانقطاعها؛ كتحصيل المأكول والمشروب والملبوس، والولد والمال والجاه في الدنيا، فكيف يتوهم حصول أعلى الغايات وأشرف المقامات بلا سببٍ يُفضي إليه؟!

لم يكن تحصيل تلك الأسباب إلا في دار المجاهدة والحرث، فكان إسكان آدم وذريته هذه الدار التي ينالون فيها الأسباب الموصلة إلى أعلى المقامات من تمام إنعامه عليهم.

ثم ذكر قول الطائفتين في الجنة، وحُجج كل منهما بتطويل وتفصيل، وقال: ليس غرضنا الانتصاب لنصرة أحد القولين وإبطال الآخر، وإنما الغرض ذكر بعض الحِكَم والمصالح المقتضية لإخراج آدم من الجنة، وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان، وكان الغرض بذلك الرد على من زعم أن حكمة الله سبحانه تأبَى إدخال آدم الجنة، وتعريضه للذنب الذي أُخرِج به منها،

وأي فائدة في ذلك؟ والرد على من أبطل أن يكون له في ذلك حكمة، وإنما هو صادر عن محض المشيئة التي لا حكمة وراءها، ولما كان المقصود حاصلاً على كل تقدير؛ سواء كانت جنة الخلد أو غيرها بنينا الكلام على التقديرين؛ ا .هـ.

وقول الله تعالى: ﴿ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا ﴾؛ أي: واسعُا طيبُا هنيئًا، ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾: في أي موضع منها، وأي شجرة من أشجارها، وثمرة من ثمارها، ﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ لشجرة عيَّنها الله لهما بذاتها، ولم يُعينها لنا في قَصصه هذا في أي سورة من السور، ولا سماها لرسوله صلى الله عليه وسلم، فكان يسميها لنا، وقد سماها أهل الكتاب، ونقل المفسرون أقوالهم فيها؛ قال ابن جرير رحمه الله: الصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجه عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصف الله جل ثناؤه، ولا علم لنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة؛ ا .هـ.

وفي ذلك إشارة إلى أن الله سبحانه لم ينهَ الإنسان ويُحرِّم عليه شيئًا هو بحاجة إليه أبدًا، وأن الله أغنى الإنسان بالحلال الكثير الطيب عن الحرام القليل الخبيث، ولكن الإنسان ظلوم كفَّار.

وقد ضاق بنا المجال عن إتمام القول في الآية، فإلى العدد الآتي إن شاء الله، ونسأله سبحانه أن يُعيذنا من إزلال الشيطان ووساوسه وكيده.

المصدر :مجلة الهدي النبوي الجزء السابع من السنة الثالثة الحادي والثلاثون شوال سنة 1356 هـ