تربية الأهل والأولاد في القرآن الكريم
دراسة قرآنية

فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز سالم شامان الرويلي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فقد أوجبت الشريعة الإسلامية على الآباء أن يحسنوا تربية[1] أبنائهم ورعايتهم، وحرَّمت تضييعهم وتضييعَ حقوقهم، وشرعت الكثير من الأحكام لحفظ الأبناء؛ ليؤدي هذا الحفظ المعضد الذي وجب لأهله[2]، وإن الله – تعالى – أوجب على الوالد أن يقيَ أهله من النار، وما يكون ذلك إلا بالتربية الصالحة؛ قال الله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].

قال السعدي في تفسير هذه الآية: “فالأولاد عند والديهم موصًى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيِّعوا؛ فيستحقوا بذلك الوعدَ والعقاب، ووقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتربيتهم، وإجبارهم على أمر الله”[3].

فصاحب الهمة العالية هو الذي يقي نفسَه وأهله من العذاب؛ وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات؛ فالمسلم الواجب عليه أن يُصلِحَ نفسه أولاً، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار، ثم يتجه ثانيًا إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف، ويغرس في نفوسهم أدبَ القرآن الكريم، والفضائل الإسلامية العليا[4].

وهذا حثٌّ من الله – تعالى – للآباء على تربية أبنائهم وأهليهم تربيةً إيمانية، نابعةً من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – من أجل المحافظة عليهم في الدنيا من الانحرافات والفتن التي عمَّت البلادَ والعباد، وفوزهم في الآخرة برضوان الله – تعالى – وبُعْدهم عن سخطه وغضبه.

إن مبادرة الفرد المسلم في إصلاح مجتمعه – ولا سيما ذووه المقربون – له أكبرُ الأثر في نهضته وارتقائه؛ فالقرآن الكريم لَمَّا دعا إلى علو الهمة دعا لها بشتى صورها وأشكالها، لم يجعَلْها في نطاق الأفراد فحسب؛ وإنما وسَّع دائرة الهمة والمبادرة في مجتمعه الذي يعيش فيه.

ولا يمكن أن تكون مهمة الأسرة هي عملية الإنجاب والمحافظة على النوع البشري فحسْبُ؛ بل هي مهمة تتعدى مهمةَ الإشباع إلى مهمة الإبداع في إخراج أجيال مسلِمة صالحة، يتباهى بها النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم القيامة.

ولا نجد تصويرًا لأثَر الأسرة في تنشئة الطفل السليم أبلغَ في التعبير من قوله – تعالى -: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58]، فما أشبهَ الأسرةَ بالأرض الخصبة الطيبة التي تنبت أطفالاً ذوي طباعٍ خيِّرة نقية، وسلوكٍ نبيل، وما أشبه الأسرةَ المنهارةَ في أخلاقها وسلوكِها بالأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا نباتًا قليلاً حجمُه ونفعُه، فتخرج أطفالها بطباعٍ قاسية وسلوك سيِّئٍ[5].

فالتربية بصفة عامة تُعَد تنمية ورعاية لكل جوانب الإنسان؛ سواء العقلية أو النفسية أو الوجدانية أو الجسمية أو الخُلقية، وفي جانب التربية الخُلقية، ولكي يكون الخُلُق الجيد راسخًا في النفس؛ فإنه يجب تكرارُه حتى يصبح عادة؛ وذلك بالتدريب، ولا يكون ذلك إلا بالتربية[6].

وقد ضرب لنا أنبياءُ الله أعظم مَثَل في سعيهم المستمر لتأديب أبنائهم، وعلِموا أنهم قدوة متبعة لأبنائهم ولكل البشر؛ فكانوا كبارًا بهِمَمهم، وبنَوا مجدهم بأنفسهم، وعلَّموا أولادهم ألا يفتخروا بنسب أو بعِرْق، بل معيار التفاخر هو هممهم الموصلة إلى مرضاة الله.

قال – تعالى -: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، قال السعدي في تفسير هذه الآية: “أي: يقتدون بك في الهدى، ويمشون خلفك إلى سعادتِهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم، والأجر الجزيل، والتعظيم من كل أحد.

وهذه – لعمر الله – أفضلُ درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون، وأكملُ حالة حصَّلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم، من كل صدِّيق متَّبع لهم، داعٍ إلى الله وإلى سبيله، فلما اغتبط إبراهيم – عليه السلام – بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته؛ لتعلوَ درجتُه ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثُرَ فيهم المرشدون؛ فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية”[7].

فانظر إلى همة إبراهيم – عليه السلام – وعلوِّها بأن دعا الله – تعالى – وسأله أن يُخرِج من صلبه ذريةً تطيع الله – تعالى – وتعبُده، ولا يكتفي بذلك؛ بل همته أن يكونَ إمامًا يُقتدى به في الخير، وأحب أن تكونَ عبادته متصلة بعبادة أولاده وذريته، وأن يكون هداهم متعديًا إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثوابًا وأحسن مآبًا، فلله دره ما أعظمَ همتَه!

وحرَص إبراهيم – عليه السلام – كل الحرص على تربية أبنائه على هذا المبدأ العظيم، الذي هو التوحيد، وذلك في دعواته: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، وفي موضع آخر: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 128]، فكان هذا أسلوبَ إبراهيم – عليه السلام – في تربية أبنائه، فأول أمر هو الأهل والأولاد، فصب همتَه على إصلاحهم ودعوتهم، فكان هذا الأسلوب وتلك الوصايا الميمونة في عقِبه ونسله، فكل واحد من أبنائه كان موحِّدًا يعبد الله ويُربِّي على ذلك ولَدَه، ويحذِّرهم من الشرك بالله، ولنتأمَّل مسيرة يعقوب بن إسحاق – عليهما السلام – وهو في سياق الموت، لقد جمع أولاده الاثني عشر وراح يوصيهم: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133]، وهكذا فإن تربية الأولاد على الإيمان بالله – تعالى – دأب المرسلين، ونهج الأنبياء، وهو النهج القويم، والصراط المستقيم.

قال – تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 13 – 19].

تبيِّن لنا هذه الآيات همةَ لقمان – عليه السلام – العالية، وكيف جعلها في ابنه، وصبَّ جلَّ همه على تربيته، فذكر له تلك الوصايا الخالدة، وهذا يبيِّن لنا العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وكون تلك الوصية موجَّهةً إلى ابنه، فهي رمز لمصداقية النصيحة تلك.

كما أن مصداقية تلك الوصايا تبدو جلية، فنحن نسمع في صدورها وبين ثناياها كلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾، التي تحمل دلالاتٍ بعيدةً؛ فحرف النداء يثير الحس، ويوقظ الشعور، ويجلب الانتباه، وكلمة: ﴿ يَا بُنَيَّ ﴾ تصور لنا أسمى معاني الحب والرحمة والشفقة، وتَفيض بأروعِ مشاعر العطف والحنان، ولو خلا الكلام منها وأُجمِل التخصيصُ بالنداء، لَما أدت الغرضَ نفسه.

فنجد في تصفحنا لتاريخنا العريق كثيرًا من الآباء أصحاب الهمم الرفيعة، لم يوفِّروا من الجهد شيئًا في سبيل السمو بهِمَم أبنائهم.

فقد جاء في وصية لقمان – عليه السلام – لابنه التي يجدر بنا الوقوفُ عندها: قولُه – تعالى -: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17].

ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية: “يقولُ – تعالى ذِكرُهُ – مُخْبِرًا عن قيل لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17] بحُدُودِهَا، ﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يقولُ: وَأْمُرِ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ، واتِّباعِ أمْرِهِ، ﴿ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ يَقُولُ: وَانْهَ النَّاسَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، ومُوَاقعةِ مَحَارِمِهِ، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ يقولُ: وَاصْبِرْ على ما أصابَكَ من النَّاسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ إذا أنت أمرتَهُمْ بِالمَعْرُوفِ، ونهيتَهم عن المنكَرِ، ولا يصُدَّنَّكَ عن ذلك ما نالك مِنْهُمْ؛ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ يقولُ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ عَزْمًا مِنْهُ” [8].

ويبدأ لقمان – عليه السلام – بأمر ابنه، أمره بتوحيد الله بأوامر إيمانية متسلسلة مبدوءة بالصلاة، أول شعيرة من شعائر الإسلام أُمرنا بتعليمها أولادنا، وضربهم عليها وهم صغار؛ فالصلاة جامعة لكل أركان الإسلام، بدءًا من الشهادتين، وانتهاءً بحج البيت؛ فالشهادتان جزء أساسي في التحيات في الصلاة، وأما الحج، فإن المصلي يتوجه في صلاته إلى البيت الحرام، إلى الكعبة، إلى القِبلة.

وكان ذلك دأب الأنبياء جميعهم، قال – تعالى -: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40].

جاء في تفسير هذه الآية:

أن إبراهيم – عليه السلام – كان مثابرًا على الصلاة مقيمًا لها، مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضًا، ومن يسيرُ سيرتَهما من أولادهما؛ للإشعار بأنه المقتدى به في ذلك وذريتُه أتباعٌ له، وأنه ذكَرهم بطريق الاستطراد؛ ففي هذه الآية دعاءٌ من إبراهيم – عليه السلام – لذريته بالثبات على إقامة الصلاة، والبُعد عن عبادة الأصنام [9].

وقال – تعالى -: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: “أمَره بأن يأمر أهلَه بالصلاة ويمتثلَها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها، وهذا الخطابُ للنبي – صلى الله عليه وسلم – ويدخل في عمومه جميعُ أمته، وأهلُ بيته على التخصيص” [10].

فأعظم ما يسعى إليه المؤمنُ ويجعل همتَه فيه: تربيتُه لأبنائه، وأعظم ما يربِّي عليه المؤمن أبناءه إقامة الصلاة على الوجه الذي يُرضي ربَّنا – عز وجل – ويربِّيهم عليها من صِغرهم، وإقامتها، مع كل ما يتضمنه معنى الصلاة من خشوع وخضوع لله؛ حتى يلقوا بذلك مرضاة الله – تعالى.

والله – عز وجل – ذكر لنا نماذجَ أخرى، منها قوله – تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: 54، 55]، وقال – تعالى -: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

وهنا يبرز لنا دور الأب كقدوة، إن إبراهيم – عليه السلام – والذي قال عنه ربه – تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، لَمَّا وفَّى بكل ما أُمِر به، أعطى القدوة لابنه الذي استجاب وأطاع؛ لأنه قد تربى على ذلك.

فهذا هو نبي الله – تعالى – بعلوِّ همته وعزيمته، يسعى بإرادته لتحسين تربية ابنه، فيرتقي به ويكون أهلاً لأن يصبح مستخلفًا في الأرض، فها هو إبراهيم – عليه السلام – يربي ولده على أن يكون قدوة وقائدًا يقود الناس إلى الخير، ذا همة عالية، فيتبعه كل من أراد النجاة، فمع صِغَر سن ولده إلا أنه كان يجتهد في جعله أكثر تحملاً للمسؤولية والأمانة، التي لا بد أن يبلغها إن وصل إلى سن الرشد.

ومن أهم المجالات التي لا بد للأسرة أن تكون همتُها منصبَّةً إليها في تربية أبنائها: بناءُ الأجيال المهيَّأة لقيادة الناس، ونشر الحق والتمكين في الأرض؛ وذلك انطلاقًا من قوله – تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].

وهذا الدور لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تربية أصيلة مستمدَّة من كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ويندرج تحت هذا الدور بناءُ البيت المسلم وحمايته، ومن ثم لا ينبغي أن يترك ليُهاجَمَ من قِبَل العناصر المفسدة والجائرة [11].

ومن أهم المجالات التي لا بد من مراعاتها:

أولاً: المجال العَقَدي:

الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى التي تحمل على عاتقها تربيةَ الأبناء؛ فهي تتولى تشكيل المعتقد والقِيَم والأفكار؛ وذلك مصداقًا لقول الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: ((ما مِن مولُودٍ إلا يُولدُ على الفِطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ، كما تُنتجُ البهِيمةُ بهِيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فِيها مِن جدعاء؟))[12]، وفي الحديث تأكيد لدَور الوالدين في تربية الأبناء، وتحميلُهم تبِعات مسؤولية التربية، وما دامت عقيدة الأمة ومنهجها الإسلامَ، فإنه يجب أن تأخذ هذه العقيدةُ التي هي مقياس صلاح الإنسان حظًّا وافرًا داخل الأسرة، ومن المُسلَّم لدى علماء التربية: أن التربية التي يتعرض لها الإنسان في بداية نشأته مسؤولةٌ إلى حد كبير على ما يطرأ للإنسان من اعتقاد سليم أو خاطئ، وعلى الآباء تقع مسؤوليةٌ كبيرة تجاه أبنائهم[13].

فمن الواجب على الأسرة المسلمة – ونحن في عصر اختلطت فيه المفاهيم والقِيَم لدى كثير من أبناء المسلمين – أن تعمِدَ إلى ترسيخ المفاهيم العقدية لدى أبنائها منذ السنوات الأولى، وترضعه العقيدة كما ترضعه الحليب؛ فالتربية العقائدية السليمة لها دور كبير في تربية الطفل المسلم، وإكسابه المناعة اللازمة ضد الأفكار والعقائد المنحرفة؛ ولذلك لا بد من التركيز على البناء العقائدي السليم للأبناء؛ لمنحهم الحصانةَ الكافية لمواجهة التحديات والمغريات التي يعايشونها في واقعهم.

ثانيًا: المجال الأخلاقي:

اهتم الإسلام بالأخلاق، واعتبرها الأساس الذي تستند إليه كلُّ المعاملات الإنسانية، وقد أثنى الله – عز وجل – وامتدح نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – بقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقد وجَّه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الآباءَ إلى ممارسة دورهم التربوي الأخلاقي؛ فالأسرة مأمورة أن تُعوِّد أبناءها السلوك الأخلاقي، وتعديل السلوك الذي يتنافى مع الأخلاق الإسلامية بالممارسات والإجراءات التي يمكن إجمالها فيما يلي:

1- ترسيخ خُلق الأمانة في نفوس الأبناء؛ حيث إن الإنسان وحده هو المؤهَّل لحمل الأمانة، وهذه التبعة الثقيلة هي مناط التكريم الذي أعلنه اللهُ في الملأ الأعلى، وعليه أن ينهض بتلك الأمانة؛ حتى يصل إلى مقام كريم؛ وذلك مصداقًا لقوله – تعالى -: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72].

2- غرس خُلق الصبر في أنفسهم؛ وذلك أسوة بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي أُوذي في مكة، وهجر بيته ووطنه، وحُوصر في شِعب أبي طالب، وبيان أجر الصابرين؛ وذلك انطلاقًا من قوله – تعالى -: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

3- غرس خُلق الصِّدق في نفوس الأبناء؛ فالمسلم صادقٌ ظاهرًا وباطنًا، وقولاً وفعلاً، فإن الصدق أصلٌ من أصول الأخلاق، وهو المحك لمعرفة درجة الإيمان.

ثالثًا: المجال الاجتماعي:

تعتبر الأسرة حلقة وصلٍ بين النشء والمجتمع الكبير، ولها دور مهم في التنشئة الاجتماعية الصحيحة للأبناء؛ فالشخصية لا تولد مع الفرد، ولكنها تولد تدريجيًّا بتفاعله في المحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه والأسرة، ويمكن إجمالُ دَور الأسرة في هذا المجال من خلال ما يلي:

1- تعليم الأبناء ردَّ السلام، كما ورد بالصيغة المتعارف عليها؛ لِما فيه من شيوع المحبة والتآلف في الأسرة والمجتمع ومواطن الرباط، ومصداق ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لن تدخُلُوا الجنَّة حتى تُؤمنُوا، ولن تُؤمنُوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتُم؟ أفشُوا السَّلام بينكُم)) [14].

2- تعويد الأبناء على آداب الاستئذان داخل البيت قبل البلوغ وبعده؛ وذلك مصداقًا لقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النور: 58].

3- لفت انتباههم إلى غض البصر عن المحرَّمات؛ إذ لا بد للحياة من ضوابطَ مع الفرد؛ فالإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهيج فيه الشهوات كل حين[15]؛ وذلك مصداقًا لقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].

4- ربط الأبناء بالصحبة الصالحة، وقد دلت نتائج الدراسات أن للصحبة أثرًا بالغًا في نمو الطفل النفسي والاجتماعي؛ فهي تؤثِّر في قِيَمه وعاداته واتجاهاته، وقد حذَّر القرآن الكريم من رفقاء السوء؛ وذلك مصداقًا لقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً ﴾ [الفرقان: 25 – 28].

رابعًا: المجال النفسي والوجداني:

يشكِّل المجال النفسي الوجداني مساحة واسعة في نفسية الطفل، فإذا سلَّمنا بأهمية مرحلة الطفولة، فإننا نُسلِّم أيضًا بقدر الأهمية للأسرة؛ باعتبارها الوسط البيئي الذي يعيش فيه الفرد، ويكتسب من خلالها اتجاهاته الأساسيةَ التي تعتبر محددات لسلوكه، والتي يُفضل أن يتفاعل معها، وبالتالي فهي العامل البيئي الأول بلا منازع[16]، ويمكن إجمالُ دور الأسرة في هذا المجال من خلال:

1- إرواء الحاجة إلى الحب والحنان، وقد أثنى النبي – صلى الله عليه وسلم – على نساء قريش؛ لحنانهن على أولادهن، ومصداق ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ نساءٍ ركِبْنَ الإبِلَ صالحُ نساءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ على وَلَدٍ في صغَرِه، وأرعاه على زوْجٍ في ذات يدِهِ)) [17].

2- غرس الثقة بالنفس مبكرًا، فلا بد من تعويدهم على حمل المسؤولية، وهذا ما يستدل عليه من الهدي النبوي في حديث أنس – رضي الله عنه -: “أتى علَيَّ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وأنا ألعبُ مع الغلمان، فسلَّم علينا، فبعثني إلى حاجَةٍ، فأبطأْتُ على أمِّي، فلمَّا جئتُ قالت: ما حبسك؟ قلتُ: بعثني رسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – لِحَاجَةٍ، قالتْ: ما حاجتُهُ؟ قلتُ: إنَّها سرٌّ، قالتْ: لا تحدِّثنَّ بسرِّ رسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أحدًا”[18].

3- تحذير الأم لأبنائها من التكبُّر والخيلاء إلا أمام صفوف الأعداء، ومصداق ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – لأبي دُجانة: ((إنها لَمِشيةٌ يُبغضها اللهُ، إلا في مثل هذا الموضع))[19].

4- إرواء حاجة الأبناء في الملاطفة والممازحة؛ فعن أنس قال: “كان النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان إذا جاء قال: ((يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير؟)) نغرٌ كان يلعبُ به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتِنا، فيأمُرُ بالبِساطِ الذِي تحتهُ فيُكنسُ ويُنضحُ، ثُم يقُومُ ونقُومُ خلفهُ فيُصلِّي بِنا”[20].

——————————————————————————–

[1] التربية هي: تعهُّد الشيء ورعايتُه بالزيادة والتنمية والتقوية، والأخذ به في طريقة النضج والكمال، والذي تؤهِّله له طبيعته؛ انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39.

[2] انظر: الأحكام الخاصة بالعلاقة بين الآباء والأبناء، ص 40.

[3] تيسير الكريم الرحمن ص 166، وانظر: زاد المسير 6/48، والتحرير والتنوير 28/327.

[4] انظر: التفسير الواضح 3/705.

[5] انظر: علم النفس التربوي في الإسلام، ص 106.

[6] انظر: كلمات في علم الأخلاق ص 39.

[7] انظر: تيسير الكريم الرحمن ص 59.

[8] انظر: جامع البيان 21/73.

[9] انظر: معالم التنزيل 4/358، وأنوار التنزيل 3/93، وإرشاد العقل السليم 5/54، وتفسير الجلالين 1/336، روح المعاني 13/243.

[10] انظر: الجامع لأحكام القرآن 11/263.

[11] في ظلال القرآن 6/3620.

[12] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه، حديث (1358)، 3/219، ومسلم في كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة، حديث (2658)، 4/2047 من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه.

[13] انظر: فلسفة التربية الإسلامية ص 129.

[14] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث (54)، 1/74، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه.

[15] انظر: علم النفس الاجتماعي، ص107.

[16] انظر: التنشئة الوالدية، الأمراض النفسية، ص 7.

[17] أخرجه البخاري في النفقات، باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، حديث رقم (5365)، 9/511، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل نساء قريش، حديث رقم (2527) 4/1958 من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه.

[18] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل أنس بن مالك، حديث رقم (2481) 4/1929.

[19] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم (6508) 7/104، من طريق خالد بن سليمان عن عبدالله بن خالد بن سماك بن خرشة، عن أبيه، عن جده: أنَّ أبا دجانة يوم أُحُد أعلم بعصابةٍ حمراء، فنظر إليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يختالُ في مِشيته بين الصَّفين، قال… فذكره، قال الهيثمي في المجمع 6/91: “رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه”.

[20] أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، حديث رقم (6129) 10/138، ومسلم في كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله، حديث رقم (2150) 3/1692 من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه.