تدوين السنة وإحجام الأوائل

أسباب مُهمَّة حالت بَيْنَ إقدام المسلمين الأوائل – وأعني بهم: الرَّسولَ – صلَّى الله عليه وسلَّم -وخلفاءَه الراشدينَ – عن تدوين السُّنَّة، بما فيها مِن أقوالِ الرَّسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – وأفعالِه وتقريراتِه وصِفاتِه الخِلْقِيَّة وشِيمه الخُلُقُيَّة، وهُمُ الحريصون كلَّ الحِرص على حِفظ معالِم الدِّين، وإحاطته بسياجٍ منيعٍ مِنَ العِناية والرِّعاية والاهتمام، والواقعُ أنَّهم لم يَنصرِفوا ويَصرِفوا الناسَ معهم عن تدوين السُّنَّة عَبثًا، أو صُدْفةً، أو جَهلاً بالكتابة والتدوين، أو افتقارًا إلى الإمكاناتِ والوسائل؛ وإنَّما اختمرت في طيَّاتِهم هواجسُ حَسِبوا لها كُلَّ حِساب، وحالت بينهم وبين هذا التَّطور العِلميِّ الذي تمخَّضت عنه الأيامُ فيما بعدُ، وصيَّرته ضرورةً عِلميَّة دِينيَّة، وخلعت عليه – بإجماع الأُمَّة – صِفةَ الواجب الكِفائيِّ الذي إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين، وإذا لم يَقُمْ به واحدٌ مِنَ الأُمَّة أَثِمَ الكُلُّ، ووقعوا تحت طائلة المؤاخذةِ والمسئوليَّة.

ولْنبدأْ بالبداية؛ فالرَّسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – الذي اتَّخذ لنفسه كُتَّابًا للوَحْيِ يُسجِّلون عنه ما نزل عليه مِن لَدُن ربِّه، قُرآنًا مُتعبَّدًا به، مُعجِزًا للبَشَر ومتحدًّى بأقصرِ سُورةٍ منه – هو الذي نهى عن كتابة الأحاديث الَّتي تُفيض بها أقوالُه وأفعالُه وتقريراتُه في مَطلع الإسلام، وفي الوقت الَّذي تَكاثرَ فيه الكَتَبةُ لديه بما فيه الكفاية، فقد كان معاوية بن أبي سفيانَ – رضي الله عنه – من الملازمين للكتابة للنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -في الوحي وفي غير الوحي، وكان يُزامله في ذلك ثابتُ بن قيس، ويزيدُ بن أبي سفيانَ أخو معاويةَ، والمغيرةُ بن شعبةَ، والزُّبَير بن العوَّام، وخالدُ بن الوليد، والعلاءُ الحضرميُّ، وعمرُو بن العاص، وعبيدُ الله الحضرمي، ومحمد بن سَلَمةَ، وعبدُ الله بن عبد الله بن أُبيِّ بن سلول؛ كل هؤلاء كانوا طَوْعَ أمر الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – ورهنَ إشارته، لو أنه أشار عليهم بتدوين الأحاديث، لكانوا أَطْوَعَ له مِن بنانه في كتابة آي الذِّكر الحكيم في الصُّحُف حِينًا، وفي جريد النَّخل (العسب)، أو الأكتاف (العِظام العريضة الرَّقيقة)، أو في اللِّخاف (الحجارة البِيض الرقيقة) حينًا آخرَ، فالوسائلُ الكفيلة بحفظ السُّنَّة وتدوينها كانت متوفِّرَةً على القدر الذي تسمح به الظروف؛ خوفًا مِنَ الضياع، وحمايةً لها مِنَ النِّسيان والفوات، والكُتَّابُ كذلك مُؤهَّلون بإيمانهم واستعدادهم لِمِثل هذه المسؤولية الخَطِرَة؛ بَيْدَ أنَّ للمسألة خلفيةً أخرى تبدو فيها وَجاهةُ الفكرة، وسَدادُ الرأي، وهي أنَّ القرآن في ذلك الوقت كان ينزل مُنجَّمًا حَسْبَ الحوادثِ والأحوال، والمؤمنون يتتبَّعون نُزوله بفارغ الصَّبر، وعظيم الاهتمام، وكانت الهِممُ كلُّها منصرفةً إلى تلقِّي هذا الفَيض الإلهيِّ بكلِّ دقَّة وعِناية، فلم يكتفوا فيه بالحفظ في الصُّدور؛ بل أضافوا إليه تخطيطَ السُّطور؛ لتتضافر كلُّ الجهود في الحفاظ على نصِّه المقَدَّس، فلو أنَّ السُّنَّة في هذه الحال حَظِيَت بما حَظِيَ به القرآنُ الكريم من تدوينٍ وكتابةٍ، وجمعٍ بالصُّدور وبالسُّطور – لاختلط الأمرُ؛ ولكان تمييزُ كلٍّ منهم عن الآخر عسيرًا صعبًا، وأقلُّ ما في الأمر انتهازُ المنافقين والمتربصين هذه الفرصةَ السانِحَةَ للكَيْدِ للإسلام، والتشويش على مصدر الشريعة الأَوَّل بالخلط والتمويه وإشاعة القِيل والقالِ؛ فلذلك كان الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – بكياسته وفطنته، وذكائه وبُعْدِ نظره – يأمرهم بكتابة القرآن وَحْدَه بين يديه، وينهاهم عن كتابة غير القرآن، وفي ذلك يروي مسلمٌ في “صحيحه ” عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – : (( لا تكتُبوا عنِّي، ومَن كتب عنِّي غيرَ القُرآن، فَلْيَمحُه))، ومثل هذه الفكرة طافت بِخَلَد أبي بكر – رضي الله عنه – الَّذي دعاه حِرْصُهُ على الدِّين أولاً إلى أنْ يجمعَ خمَسَمائةِ حديثٍ، ثم قال لعائشةَ: ائتيني بنارٍ، فلمَّا جاءتْه بها، أَحرقَ ما جمع.

ومِن هُنا تبدو لنا الحَيْرَة المتمثِّلة في تفكير الخُلفاء الراشدين، فقد تَنازعهم عاملانِ:

أَوَّلُهما: الحرصُ على السُّنَّة وكتابتها وتقييدها في الصُّحُف؛ خَوفًا مِنَ اندراسِها، أَوِ اختلاطها، أو دَسِّ الدَّسَّاسينَ فيها؛ وهو أمرٌ مُحَبّبٌ إلى النفوس، أثيرٌ لَدَى العقول الناضجة، والقلوب المُتفتِّحَةِ التي كان يتحلَّى بها الصَّحْبُ الأوائلُ.

وثانِيهُما: الخوفُ مِن مُزاحمة القرآنِ في أَخَصِّ خَصائصِ حِفظه؛ وهي كِتابتُه وتدوينُه؛ ولذلكَ قال عُمرُ بنُ الخَطَّاب – رضي الله عنه -: “إنِّي كنتُ أردتُ أن أكتُب السُّنَنَ، وإنِّي ذكرتُ قومًا كانوا قبلَكم كتبوا كُتبًا فأكبُّوا عليها، وتركوا كتابَ الله، وإنِّي – واللهِ – لا أَشوب كتابَ الله بشيء أبدًا”، ولم يُدَوِّنِ السُّنَّة، وتركها رهينةَ الوعْيِ والذَّاكرة، وفي هذا أيضًا قال أبو سعيد، الذي روى حديثَ النَّهْيِ عن كتابة السُّنَّة حين سُئِلَ رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( أنكتُب ما نسمع منكَ؟ قال: أتُريدونَ أنْ تجعلوها مصاحفَ))، وفي ضَوْءِ هذا يُفَسَّر ما جاء عن أبي بَكرٍ وعُمرَ – رضي الله عنهما – مِن كَراهةِ كتابةِ الحديث، وأمرِهما بالاقتصار على كتاب الله – تعالى – في الحَلال والحَرام؛ بل بلغ الأمرُ بهما إلى حَدِّ أنَّهُما كَرِهَا رِوايةَ الحديث كثيرًا؛ بَلْهَ كتابتَه؛ لِحرصهما الشديدِ جدًّا على التَّأكُّدِ والتَّثبُّت مِمَّا يُروى بعدَ أنْ أَكثرَ المُكثِرون مِنَ الرِّواية، وتعددتِ النقولُ وتخالفتْ أحيانًا؛ ولهذا كَانَا يَطلُبانِ شُهودًا في كثيرٍ مِنَ الأحيان؛ لِيُزَكُّوا الراويَ فيما ينقلُه مِنَ الأحاديث عَنِ الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعدَ وفاتِهِ.

على أنَّنا لا نكاد نَفرُغ مِن عَرض هذه الفكرةِ الرائعةِ التي حَدَتْ بالرَّسول وصَحْبِه لِمَنع تدوين السُّنَّة، حتَّى نجد أخبارًا أخرى صحيحةً تُفيد أنَّ الرَّسول – عليه الصَّلاة والسَّلام – قد أَذِنَ لبعض الصحابة في كِتابة السُّنَن، وكان ذلك مِنْهُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حِينَ استدار الزَّمَنُ استدارةً ملائِمةً، بِما جعل هذا الإِذنَ أمرًا مُستحسنًا لا حَرَجَ فيه، ولا خَوْفَ مِنه، ولا تثريبَ عليه؛ ذلك أنَّ أمرَ القرآن الكريم كان حُسِمَ حسمًا تامًّا، فَتَمَّتِ الآياتُ تقريبًا ودُوِّنت وحُفِظَت، وعَرَفها الجمعُ الكثير مِنَ الحُفَّاظ بما يُؤْمَن عليها مِنَ الضياع أَوِ الاختلاط، بعدَ أنْ أَقامتِ الأُمَّة التي لا تجتمع على ضلالة – كما أخبر عنها الصادقُ المصدوقُ – مِن عُقولها وصدورها، ووَعيها وآذانها – حصونًا مَنِيعةً لحفظ هذا التُّراث العزيز مِنَ النَّصِّ القرآنيِّ المُقدَّس مِن أَيِّ تلاعُبٍ أو دَسٍّ أو دَخَلٍ، فلمَّا تقدَّم الزمان واستَقرَّ وَضْعُ القرآن الكريم، أَذِنَ الرَّسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في مُزاولة رِسالة العِلم والتَّعلُّم، وفَتَحَ البابَ للكتابة؛ لكي تؤديَ وظيفتَها الأساسيَّةَ للحاضر وللمُستقبَل في تدوين سُنَنِهِ، وتضمينها للصحائف والسُّطور؛ لِتُساهمَ بِدَوْرها في خدمة الإنسانيَّة، ورعاية الحقِّ، وحفظ الحقيقة، وحِينئذٍ نسمع قولَه – صلَّى الله عليه وسلَّم – لعبد الله بن عمرٍو: (( اكتبْ، فوالَّذي نفسي بِيَده، ما خَرَجَ مِنْه إلاَّ حَقٌّ))، وأشار الرَّسولُ إلى فِيهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ونسمع قولَه – صلَّى الله عليه وسلَّم – يَومَ فَتْحِ مكَّة – وكان يَخْطُب – (( اكتُبوا لِأَبي شَاهٍ ))، وذلك حين سأله أبو شاه الكتابةَ؛ لِأَنَّه لا يُحيط بكلِّ ما يسمع، وهذا أصحُّ ما في الباب.

ونسمع قولَه – صلَّى الله عليه وسلَّم – لرجلٍ سَيِّئِ الحِفظ: ((استعِن على حِفظكَ بيمينكَ))، وقولَه لرافِعِ بنِ خَديجٍ – حِينَ قال له: يا رسولَ الله، إنَّا نسمع منكَ أشياءَ، أَفَنَكتُبها؟ فقال: ((اكتُبوا ولا حرجَ)).

ونَرى أنَّ الرَّسولَ – صلَّى الله عليه وسلَّم – كتب كُتبًا في الصَّدقاتِ والدِّياتِ والفرائض والسُّنَن لِعَمرِو بن حَزْمٍ وغيرِه.

ونَراه – صلَّى الله عليه وسلَّم – في آخِرِ لَحَظاتِ عُمُرِه يقول: ((ائْتُوني بِكِتابٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تضلُّوا بعدَه))، لولاَ أنَّ عُمرَ – رضي الله عنه – قال: إنَّ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – غلبَهُ الوَجعُ وعِندنا كتابُ الله حَسْبُنا، فلمَّا اختلف الحاضرون ما بَيْنَ مُؤَيِّد للكتاب ومُعْترض عليه، قال لهم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قُوموا عنِّي فلا يَنبغي عندي التَّنازُعُ)).

ولِذَلك بَقِيَ أهلُ المائة الهجريَّة الأولى مُتحفِّظين مِنَ الكتابة في الحديث، مُتَهيِّبينَ لها، حَذِرينَ منها، وإنْ كُتِبَت أحاديثُ، فإنَّما في نطاق ضَيِّق، ومِن أوثق المستويات العلميَّة، وبقدر قليل؛ بل أقلَّ منَ القليل، وكان هناك سببٌ آخرُ يَحُولُ بينَهم وبينَ تدوين السُّنَّة؛ وهو الخَوفُ مِن هِجران القرآن الكريم، والاشتغالِ بالكُتب الأخرى الَّتي تحتوي على السُّنَن والأحاديث والسِّير، وَثَمَّتَ سببٌ لا يَقِلُّ اعتبارًا ووزنًا عمَّا سبقه؛ وهو الخوفُ على الذاكرة مِنَ الوَهَن والخَوَر، والضَّعف والفراغ حِيَن تعتمد اعتمادًا كُليًّا على الكتب والمسانيد، وما إلى ذلك مِمَّا طلع به الزمانُ فيما بعدُ؛ ولذلك قال الزُّهريُّ: “كُنَّا نكره كتابَ العِلم حتَّى أكرَهَنا عليه هؤلاءِ الأمراءُ، فرأيْنا ألاَّ نمنعه أحدًا مِنَ المسلمين”، ومثلُ ذلك نُقِلَ عنِ الأوزاعيِّ، حتَّى إنَّ سفيانَ الثوريَّ كان يكتُب الحديث أوَّلاً، وخاصَّةً إذا كان طويلاً، فإذا حَفِظَه مَحَاهُ، وحَذَا حَذْوَه حمادُ بنُ سَلَمةَ.

إلاَّ أنَّ تيار الرَّغبة الجامحة في الكتابة كان جارفًا، وزَحْفُ المدَنِيَّة والحضارةِ – أَثَر الفُتوحاتِ الإسلاميَّةِ المتعددةِ – كان هادِرًا مدمرًا، فلم يلبثْ أنْ أجمعَ المسلمونَ شرقًا وغربًا – كما قال ابنُ الصَّلاح في “مُقدِّمته” – على ضرورة كتابة الأحاديث، وتدوين السُّنَّة، وتسويغ ذلك، وقال: “ولولا ذلك لَدَرسَ الحديثُ في الأعصُر الآخِرَةِ، ولاسِيَّمَا بعدَ أنْ أخذتْ قرون الفتن والدسائس تَطُلُّ مِن أَوْكارِهَا، وَوَجدَتْ في أحاديثِ الرَّسول وسُنَّتِه مرتعًا خصيبًا لألاعيبها ودسائسها ومؤامراتها على الإسلام المحقود عليه”؛ فلذلك سارع العلماءُ بِكُلِّ هِمَّةٍ ونشاط إلى العمل، وشَمَّروا عن ساعدِ الجِدِّ لتدوين الأحاديث وتضمينِها الصحائفَ والمدوناتِ؛ حتَّى تكونَ أخلدَ على الدَّهْرِ مِنَ الدَّهر، وحتَّى تقطعَ الطريقَ على أمثال هؤلاء الحاقدين خوفًا مِنَ التَّلاعُبِ بهذا التُّراث الغالي، والكيد لذلك الدِّين الحنيف، فَمَا كاد يَهِلُّ على الأُمَّة الإسلاميَّة القرنُ الهجريُّ الثاني حتى كان لكلِّ طالبِ عِلمٍ كَرَّاسةٌ أو كتابٌ فيه أحاديثُ وسُنَنٌ، وشاعَ التدوين وذاع، وملأ البِقاعَ والأصْقاع، وصار ضرورةَ العالِم والمُتَعلِّم على السواء، وكان ذلك زَمَنَ التابعين.

وأولَ ما جُمِعَتِ الأحاديثُ بصورة مُصغَّرةٍ منظمةٍ، كان على يَدِ عامرٍ الشَّعُبيِّ سَنَةَ 103هـ، ثُمَّ عبدِ المَلِكِ بنِ عبد العزيز بن جُرَيجٍ البصريِّ سَنَةَ 150هـ، ثم مُوطَّأ مالكِ بنِ أنسٍ سَنَةَ 179، وكانت تَضُمُّ أحاديث الرَّسولِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وفتاوَى الصَّحابة والتابعين، وتُسمَّى المُصنَّفاتِ أو المجاميعَ، ثُمَّ ظهر في الأُفُق لَوْنٌ جديد لمُؤلَّف جديد يحمِل اسمَ “المُسنَد”، وهو يجمع أحاديثَ كلِّ صحابيٍّ على حِدَةٍ تحتَ اسم مسند فلان، وأولُ مُسنَدٍ ظهر هو “مُسنَدُ الطَّيالِسيِّ” سَنَةَ 204هـ، ثم تتابعت المسانيد، وأوفاها قدرًا وأعظمُها فخرًا: “مُسندُ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ” سَنَةَ 241هـ، وهو مِن أتباع أتباع التَّابعين، ثُمَّ ظهرتِ الكتبُ السِّتَّةُ الصِّحاح في هذا العصر أيضًا، وأوَّلُها بلا منازِع هو “صحيح الإمام البخاريِّ” سَنَةَ 256هـ، ثم “مُسلِم” سَنَةَ 261، والراجح أنَّ أوَّلَ حاكم أَمَرَ بجمع السُّنَّة بصفة رسميَّة هو عبدُ العزيزِ بنُ مَرْوانَ بنِ الحَكَمِ، والدُ عُمُرَ بنِ عبد العزيز، خامسِ الخُلفاء الراشدين، وكان واليًا على مِصْرَ، وقد طلب – بوصفه واليًا – مِن كَثِيرِ بنِ مُرََّة الحضرميِّ الذي أدرك سبعين صحابيًّا بَدرِيًّا في “حِمْص” أنْ يكتب إليه بِما سمع من أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلاَّ حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فإنَّه كان عنده، ثُمَّ جاء بعده ابنُه عمرُ بنُ عبد العزيز فاقتَفَى أثرَ والدِهِ (ومَن يُشابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَم)، واتَّخذ خُطوةً حاسمةً لحفظ الحديث مِنَ الاختلاط بغيره، فكتب إلى الآفاق: “انظُروا حديثَ رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فاجمعوه”، وأمر ابنَ شهابٍ الزُّهريَّ، وأبا بكر بنَ حزمٍ بجمع السُّنَنِ، وهكذا بدأتْ قِصَّة تدوين الأحاديث والسُّنن في حَذَرٍ شديدٍ، وخُطُواتٍ وَئيدةٍ؛ فيها حُرِص على القرآن أوَّلاً، وعلى الذاكرة الإسلاميَّة ثانيًا، وعلى عدم الاشتغال بكتبٍ أخرى غيرِ المصاحف الَّتي كان يُخشَى عليها مِن تعشيش العَنكَبوت عليها، بعدَ مُزاحمةِ كتبِ السُّنَّة لها؛ ولكنَّ الحِكمةَ والرَّوِيَّة التي هَيَّأها اللهُ – تعالى – لهذه الأُمَّة قد حَفِظَتِ القرآنَ حِفظًا شاملاً، كما حَفِظَتِ السُّنَّة حِفظًا كاملاً، ولم يعشش على المصاحفِ العنكبوتُ – كما تَخَوَّفَ المتخوِّفُون- ولا ضَعُفَتِ الذاكرةُ والهِمَّة – كما تَهيَّب المتهيِّبون – وتَمَّتْ كلمةُ ربِّكَ صِدقًا وعَدلاً، لا مُبدِّلَ لكلماتِه وهو السميعُ العَليمُ.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/25380/#ixzz6XBsHFjk5