نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية حتى يقف القارئ الكريم على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة القصاص والوعاظ، خاصة عندما يأتي شهر رمضان في الصيف ويشتد الحر، هذا وقد سبق أن بيَّنا في هذا الباب من القصص الواهية: قصة صيام المرأتين، وقصة الرجل الذي صام سنة ليتحمل قصة الحديث الذي جمع فأوعى، وقصة الترخيص في السحور حتى مطلع الشمس، وقصة الملائكة في شهر رمضان مع أمة محمد، وقصة حفل استقبال رمضان. وإن تعجب فعجب أن هذه القصص الواهية تنتشر على ألسنة القصاص والوعاظ في الخطب والمحاضرات والفضائيات والصحف في شهر رمضان. وإلى القارئ الكريم تخريج وتحقيق هذه القصة الواهية: قصة أبي موسى والصيام في الصيف
أولاً: متن القصة
رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى في سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة، إذا هاتف من فوقهم يهتف: يا أهل السفينة، قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه. قال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبرًا، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف، سقاه الله يوم العطش.
ثانيًا: التخريج
هذا الخبر الذي جاءت به القصة أخرجه البزار في «مسنده» (1/488/1039- موارد) قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا موسى بن داود داود، حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى في سرية في البحر… القصة. وأخرجه ابن حبان في «المجروحين» (2/28) أخبرناه معاوية بن العباس في حمص قال: حدثنا علي بن زيد قال حدثنا موسى بن داود قال عبد الله بن المؤمل.
ثالثًا: التحقيق
1- قال البزار في مسنده (1/488/1093 – موارد): «لا نعلمه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وروي عن أبي موسى قوله وفيه زيادة كلام من قول أبي موسى». اهـ. قلت: والخبر باطل حتى ولو بالزيادة، وعلته: عبد الله بن المؤمَّل. 2- قال الإمام المزي في «تهذيب الكمال» (10/570/3582): عبد الله بن المؤمل بن وهب الله القرشي المخزومي العائدي: روى عن عطاء بن أبي رباح.. ، وروى عنه موسى بن داود الضبي، ثم نقل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال: أحاديثه مناكير، وقال أبو داود: منكر الحديث. 3- قلت: وأقر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (6/42). قال الإمام الذهبي في «الميزان» (2/510/4637): عبد الله بن المؤمل المخزومي المكي عن عطاء وغيره، ضعفوه، فمن طريقين عن يحيى بن معين ضعيف، وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى: عامة حديثه منكر. 5- في «سؤالات الدارمي» (476) قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت أبا زكريا يحيى بن معين عن عبد الله بن المؤمَّل؟ فقال: «ضعيف». 6- وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (2/302/879): «عبد الله بن المؤمل المخزومي مكي لا يُتابع على كثير من حديثه». وقال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: أحاديث عبد الله بن المؤمل مناكير. 7- وقال النسائي في «الضعفاء والمتروكين» (331): «عبد الله بن المؤمل المكي: ضعيف». 8- قال ابن حبان في «المجروحين» (2/27): عبد الله بن المؤمل المخزومي شيخ من أهل مكة، كان قليل الحديث منكر الرواية، وأخرج هذه القصة وجعلها من مناكيره. 9- وأورده الإمام ابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (4/135) (7/974) قال: «عبد الله بن المؤمل مكي مخزومي»، وأخرج قول الإمام أحمد بن حنبل فيه قال: حدثنا ابن حماد، حدثنا عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: «أحاديث عبد الله بن المؤمل مناكير». اهـ. قلت: وتخريج قول علماء الجرح والتعديل يحسبه من لا دراية له بالصناعة الحديثية أمرًا هينًا، ولكنه عند علماء الفن عظيم، وحتى لا يتقول علينا متقول ويقول: أين قال هذا أحمد أو غيره من أئمة الجرح والتعديل؟ ثم أخرج الإمام ابن عدي عددًا من الأحاديث المنكرة لعبد الله بن المؤمل، هذا ليعلم الطاعنون من المستشرقين وغيرهم أنهم يجهلون مناهج المحدثين من علماء الجرح والتعديل التي تناولت المتن قبل السند، ولذلك قال الإمام ابن عدي بعد تخريج هذه المناكير لابن المؤمل قال: «هذا مع ما بليت من أحاديث ابن المؤمل فكلها غير محفوظة». اهـ. ثم أورد قصة صفية بنت شيبة في سعي الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة ومئزره يدور بين شدة السعي». ثم قال: «وهذا يرويه عبد الله بن المؤمل وبه يُعرف، ولابن المؤمل هذا غير ما ذكرت من الحديث وعامة ما يرويه الضعف عليه بيِّن». اهـ. رابعًا: تراجع الألباني بعد تقليده للمنذري، رحمهما الله: 1- هذا الخبر الذي جاءت به هذه القصة «قصة أبي موسى والصيام في الصيف» أوردها الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/484) وقال في نهايتها: «رواه البزار بإسناد حسن إن شاء الله». 2- قال الشيخ الألباني رحمه في «ضعيف الترغيب والترهيب» (ح577): فيه (عبد الله بن المؤمل) وهو ضعيف الحديث كما قال الحافظ ابن حجر، وضعفه جدًا في «زوائد البزار»، وهو مخرج في «الضعيفة» (6748)، ثم يقول الألباني: «وقد كنت حسنته تبعًا للمؤلف في الطبعة السابقة، فلما طبع «كشف الأستار» ووقفت على إسناده، تراجعت عنه، وأما الجهلة فظلوا على تقليده». اهـ. قلت: وتراجع الشيخ الألباني رحمه الله، وبُعده عن التقليد لم ينقص من مكانته في هذه الصنعة، بل رفعه بالإجماع الذي أورده الإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين» (1/6) قال: «قال أبو عمر وغيره من العلماء: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله». اهـ. قال الإمام ابن القيم: «وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى، فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو التقليد». اهـ. قلت: ولقد بينا أن القصة واهية منكرة بالدليل الذي ذكرناه آنفًا في تحقيق الخبر وبيان علته.
خامسًا: طريق آخر للقصة
يظن من لا دراية له بأصول الصناعة الحديثية أن الخبر إذا جاء من طريق آخر عضَّد بعضه بعضًا وصار حسنًا، وأكثر القصاص والوعاظ يبررون بهذا الظن الحكايات التي يستميلون بها العوام. وهناك قاعدة نذكر بها القراء الكرام عامة، وطالب هذا الفن خاصة، نقلها الحافظ ابن كثير في «اختصار علوم الحديث» (ص23). قال الشيخ أبو عمرو: «لا يلزم من ورود الحديث من طرق متعددة أن يكون حسنًا؛ لأن الضعف يتفاوت، فمنه ما لا يزول بالمتابعات، يعني لا يؤثر كونه تابعًا أو متبوعًا كرواية الكذابين والمتروكين». اهـ. قلت: لذلك قال الإمام ابن الصلاح في «علوم الحديث» (ص107 – ط. دار الكتب): «ومن ذلك ضعفٌ لا يزول لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب أو كون الحديث شاذًا، وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة». اهـ. قلت: إي والله هذا هو الحق، فهذه الصنعة لا تُدرك بمجرد حفظ الطالب لنَظْم أو مختصر، ولكن تُدرك بالمباشرة والبحث، وهو ما يسمى بعلم الحديث التطبيقي، وإلى القارئ الكريم التطبيق بتحقيق هذا الطريق:
سادسًا: متن الطريق الآخر
يُرْوى عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا غازين في البحر، بينما نحن والريح لنا طيبة والشراع لنا مرفوع، فسمعنا مناديًا ينادي: يا أهل السفينة قفوا أخبركم – حتى والى بين سبعة أصوات – قال أبو موسى: فقمت على صدر السفينة فقلت: من أنت؟ ومن أين أنت؟ أو ما ترى أين نحن؟ وهل نستطيع وقوفًا؟ قال: فأجابني الصوت: ألا أخبركم بقضاءٍ قضاه الله عز وجل على نفسه؟ قال: قلت: بلى، أخبرنا. قال: فإن الله تعالى قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله عز وجل في يوم حار كان حقًّا على الله أن يُرْوِيه يوم القيامة. قال: فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الشديد الحر الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان فيصومه». اهـ.
سابعًا: تخريج الطريق
القصة من هذا الطريق أخرجها أبو نعيم في «الحلية» (1/260) قال: حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا عمر بن حفص السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا مهدي بن ميمون، عن واصل مولى أبي عيينة عن لقيط عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «خرجنا غازين في البحر». القصة. وكذلك أخرج هذا الطريق البيهقي في «الشعب» (6/412/3636) قال: أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حامد المقرئ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بكار بن قتيبة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا هشام عن واصل مولى أبي عيينة عن لقيط به.
ثامنًا: التحقيق لهذا الطريق
هذا الطريق الذي جاءت به القصة تالف علته (لقيط). 1- قال الإمام البخاري في «التاريخ الكبير» (4/1/248) (ت1060): «لقيط أبو المغيرة عن أبي بردة بن أبي موسى، روى عنه واصل مولى أبي عيينة». اهـ. 2- قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن ابن الإمام الكبير أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/2/177) (ت1013): «لقيطا أبو المغيرة روى عن أبي بردة بن أبي موسى روى عنه واصل مولى أبي عيينة سمعت أبي يقول ذلك». اهـ. قلت: من قول جبل الحفظ الإمام البخاري، وقول الإمام أبي حاتم يتبين أن (لقيط أبا المغيرة) لم يرو عنه إلا راوٍ واحد هو واصل مولى أبي عيينة. وبهذا يكون لقيط أبو المغيرة (مجهول العين). 3- قال الحافظ ابن حجر في «شرح النخبة» (ص135): «فإن سُمِّي الراوي وانفرد راوٍ واحد بالرواية عنه فهو مجهول العين». اهـ. قلت: وحكم رواية مجهول العين: «عدم القبول إلا إذا وُثِّق». وكيفية التوثيق أنه يوثق بأحد أمرين: أ- إما أن يوثقه غير من روى عنه. ب- وإما أن يوثقه من روى عنه بشرط أن يكون من أهل الجرح والتعديل. 4- قال الحافظ في «شرح النخبة» (ص135): «مجهول العين لا يُقبل حديثه إلا أَنْ يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح، وكذا من ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك». اهـ. قلت: ولقد تبين من جهابذة هذه الصنعة أن لقيطًا أبا المغيرة لم يروِ عنه إلا راوٍ واحد ولم يوثقه، فروايته مردودة غير مقبولة. كذلك لا يصلح مجهول العين للمتابعات والشواهد، فهو في مراتب الرد والترك، وروايته تزيد القصة وهنًا على وهن، ومجهول العين لا يُعتبر به كما بيّن ذلك الحافظ في «شرح النخبة» (ص139). قال الحافظ في «لسان الميزان» (4/583) (6/6773): «لقيط عن أبي بردة في صوم الصيف ذكره الأزدي في الضعفاء وقال: لا يصح حديثه». قلت: من تحقيق الطريقين للقصة يتبين: 1- أن الطريق الأول للقصة: يُرْوَى عن ابن عباس، وعلته عبد الله بن المؤمل، وهو منكر الحديث، أحاديثه غير محفوظة لا يُتابع عليها، فهي لا تصلح للمتابعات أو الشواهد؛ لذلك قال الحافظ ابن حجر في «مختصر الزوائد» (1/404): عبد الله بن المؤمل ضعيف جدًّا. 2- الطريق الثاني للقصة: يُرْوى عن أبي موسى وعلته لقيط أبو المغيرة مجهول العين لا يصلح للمتابعات أو الشواهد، بل يزيد القصة وهنًا على وهن كما بيَّنا آنفًا. وبهذا تصبح القصة واهية منكرة.
تاسعًا: بدائل صحيحة
هناك بدائل صحيحة في أعلى درجات الصحة تغني عن هذه القصة الواهية التي اشتهرت على ألسنة القصاص والوعاظ لاستمالة العوام ولم يخافوا من الوعيد الشديد، فقد أخرج الإمام البخاري في «صحيحه» (ح109) قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار». قلت: ألم يغْن عن هذه القصة الواهية الحديث المتفق عليه من حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام يومًا في سبيل الله، بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا». قلت: ولقد خرجناه في سلسلة «درر البحار من صحيح الأحاديث القصار» (ح253). وهناك العديد من الأحاديث الصحيحة في باب الصيام في هذه السلسلة المباركة على سبيل المثال لا الحصر من (ح237) حتى (ح255)، ومن (ح503) حتى (ح595)، ومن (ح942) حتى (ح947). هـــذا فقـــط بالنسبة للألف الأولـــى مـــــن درر البحــار، ونحن الآن بفضل الله وحده في الألف الثالثة مرتبة على درجات الصحة، وإن شاء الله سنقوم بترتيب هذه السلسلة على الأبواب الفقهية، بذكر أرقام الأحاديث لتعم الفائدة من علم الحديث دراية وعلم الحديث رواية. هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.