تبشير أم تنصير

اد. محمد السيد الجليند

من الأفضل أن نسمي الأشياءَ بأسمائها الصحيحة؛ ولذلك فإننا نرى أن استعمالَ كلمةِ (التنصير) هي أكثرُ دلالة على المطلوب من كلمة (التبشير)، التي استعملها بعض الكُتَّاب؛ للتعبير بها عن ذلك الجهد، الذي يبذله المتخصِّصون من النصارى، في بثِّ تعاليم الإنجيل بين المسلمين وغيرِهم؛ بِهَدف تنصيرهم، وتحويلِهم من الإسلام إلى النصرانية، واتِّباع تعاليم الإنجيل، بدلاً من القرآن، والولاءِ للكنيسة بدلاً من المسجِد.

وقد يكون مفيدًا للدارسين لهذه القضية أن يعلموا: أن سياسة التنصير، والعمل على بث تعاليم الإنجيل بين المسلمين ليست جديدةً، وأنها ليست وليدةَ هذا العصر، بل هي قديمةٌ قِدَم الإسلام نفسه، ويمتد تاريخها إلى عصر النبوة، ثم عصر الخلفاء الراشدين، وبني أمية، ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

وأقدم وثيقة سَجَّلت لنا تاريخ الحوار الإسلامي – النصراني هي القرآن الكريم، وما جاء فيه من آيات سَجَّلت لنا ما كان يدور بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب في المدينة المنورة، وهذا الحوار كان يشتد أحيانًا ليأخذ شكل الصراع، الذي يذهب إلى مستوى الكيد والتدبير لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يهدأ في بعض الأحيان، فيأخذ شكل الحوار العَقْلانِيِّ.

ولقد سجَّلَت لنا سورتان كريمتان من سور القرآن الكريم، ما كان يجري من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب، وهما: سورة آل عمران، وسورة المائدة، والَّذِي يتَدَبَّر آياتِ الحوار، الواردة في هاتين السورتين – يقف على حقيقة هذا الصراع، وحقيقة القضايا العقَدِيَّة، التي كانت تُمَثِّلُ موضوع هذا الحوار، وكيف فَضَح القرآن سرائر النصارى، حين بدَّلوا وحرَّفوا ما أنزَل الله على عيسى النبيِّ – عَلَيْه السَّلام -؟ وبيَّن أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، واستمرت موضوعات هذه القضية، موضوع الحوار الديني خلال عصور الإسلام المتوالية؛ تصدى لها علماء الإسلام عبر هذه القرون العديدة، فوضع الجاحظ رسالته في الرد على النصارى، وكتب القاضي عبدالجبار كتابه في “دلائل النبوة”، ونبه كلٌّ منهما على أساليب النصارى، ومنهجهم في بث الدعاوى الإنجيليَّة بين المسلمين.

كما تصدَّى لنَفْس القَضِيَّة ابن حزم في كتابه العظيم “الفِصَل”، والشهرسْتاني في كتابه “الملل والنِّحل”، والطبري في رسالته “الرَّد على النَّصارَى”، وابن تيمية في “الجواب الصحيح لمن بَدَّل دين المسيح”، وابن القيم في كتابه “هداية الحيارى في الرَّد على النصارَى”، وكذلك القرافي في كتابه “الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة”، والقرطبي في كتابه “الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام”، وكثير من الرسائل التي لا تكاد تُحصَى في هذا الغرض.

وفي العصور المتأخرة، كتب رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي كتابه “إظهار الحق”، الذي يعتبر من أهم الكتب الحديثة، التي عرضت لهذه القضية بأسلوب رصين، ومنهج علمي رائع، أفاد من كتب السابقين، وأخذت هذه القضية تحتلُّ مكانًا بارزًا في اهتمامات المفكِّرين المعاصرين، وفي الأقسام الأكاديمية للفلسفة الإسلامية والعقيدة في الجامعات العربية والإسلامية، ولعلها تمثل الآن أهم قضايا الحوار القائم بين الإسلام والنصرانية في المؤتمرات المتعددة، التي احتلت بؤرة الصراع القائم بين أهل الديانتين عبر التاريخ، وتحوَّلت لغة الصراع إلى لون جديد من الحوار، كمظهر جديد من مظاهر العلاقة بينهما.

وسوف نجعل هذه الدراسة ترتكز في مقدِّماتها ونتائجها، على نصوص المُبَشِّرين أو القائمين على سياسة التنصير أنفسهم، وكذلك على التوصِيَات التي يُوصُون بها في مؤتمراتهم المتعدِّدة؛ ليكون كلامهم شاهدًا لنا بما نريده من دراسة هذه القضية، من حيث الغايةُ والهدف من جانبٍ، وليكون في نفس الوقت ردًّا عمليًّا على الذين يُرَدِّدون كلامهم، ويتشيَّعون لمنهجهم، تحت ستار المدنيَّة والحضارة، وما إلى ذلك من مسمياتهم الكثيرة، التي يَتَسَتَّرون خلفها؛ لبَثِّ أفكارهم بين المسلمين من جانب آخر.

ولقد نشطت المؤسسات التنصيرية في العالم الإسلامي، منذ النصف الثاني من القرن التاسِع عشَر والقرن العشرين، مما لَفَتَ أنظار المفكرين المسلمين أن يَتَنَبَّهوا لخطورة هذه القضية، وسوء عاقبتها؛ مما دعا البعض إلى رصد هذه المؤسسات، وتَتَبُّع تاريخ هذا النشاط التنصيري في القرنين الأخيرين.

وتكاد تتفق معظم المؤلفات الحديثة، على أن أول من مَارَسَ هذه المهمة في العالم الإسلامي الحديث هو “ريمون لول”، المفكر الإسباني الذي استطاع أن يحصل على إذن الملك يعقوب، صاحب أرغونة (1299-1300)؛ ليقوم بمهمة التبشير في مساجد برشلونة، بين صفوف المسلمين، محتميًا بالسلطة النصرانية في إسبانيا[1]، وذلك بعد أن فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أحلام الغرب، ودعوة بيت المقدس إلى السلطة الكَنَسِيَّة، وانتزاعه من أيدي المسلمين.

وكان قبل ذلك، قد تأسس في سوريا وبلاد الشام جماعةُ “الإخوة الكِرْمِلِيَّة”، أسسها أحد الصليبيين، 552هـ سنة 1157م، وأطلق عليها اسم جبل الكِرْمِل.

وفي أوائل القرن الثالثَ عشَرَ، تأسست “مدرسة الآباء الفرنسيسكان والدومنييكان”، وأَنْشأت كل منهما لنفسها فروعا مختلفة، في أنحاء سوريا وبيروت.

وفي أعقاب الحروب الصليبية، كتب أسقف دومينكاني، وهو “وليم الطرابلسي”، رسالةً بشؤون المسلمين، يوصي فيها باستخدام المرسَلين – يعني المنصِّرين – بدلاً من الجنود؛ لاستعادة البلاد المقدسة[2].

ولقد أشار “فيليب” إلى هذه الوثيقة الخطيرة في كتابه عن “تاريخ سوريا وفلسطين”، وأوضح القول في العلاقة المتبادلة بين الاستشراق والتنصير، وأن هدف الفريقين واحد، وإن اختلفت الوسائل، فالمبشرون يستفيدون من دراسات المستشرقين لخصائص البلاد، وأحوالها، وعاداتها، وإمكاناتها؛ للتقرُّب إلى أهلها بأيسر السبل، والتعاونُ قائم بين الفريقين لاستقطاب أهل الرأي في المنطقة؛ للسيطرة عليها بكل الوسائل المتاحة.

ولقد ركزت حملات التنصير في العصر الحديث على أطراف العالم الإسلامي، والمناطقِ النائية في شرق وجنوب شرق آسيا، وبصفة خاصة في إندونيسيا، ووسط أفريقيا، والمناطق الاستوائية، مستعينين في ذلك بالخدمات الاجتماعية التي يقدمونها لأهالي هذه المناطق، كالمعونات الاقتصادية، والخدمات الطبية، ودور الأيتام، وكبار السن، وتأسيس المدارس بمراحلها، وكانت النتائج التي حصلوا عليها مخيبة لآمالهم؛ مما دعاهم إلى معاودة النظر في الأسلوب والوسيلة مرات ومرات، ولعل أبرز ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر “كلورادو” سنة 1978م – هو محاولة خلق البيئة الملائمة للمسلم، الذي يراد تنصيرُه، فبدلاً من التركيز على تنصير الفرد، أخذُوا يُرَكِّزون على تنصير البيئة والجماعة، كوحدة متكاملة يراد تنصيرها؛ حتى لا يشعر الفرد بالغربة أو العزلة، إذا ترك دينه منفردًا، أما إذا كانت الجماعة كلها محور العمل التنصيري، فإن الفرد لا يحس فيها بالغربة أو العزلة؛ لأنه حينئذ سيكون فردًا في جماعة متكاملة، وهذا ما سعى المنصِّرون لتحقيقه في كثير من المناطق النائية الآن، ولعل من أبرزها ما يجري في إندونيسيا وأفريقيا.

بين الاستشراق والتنصير:

ومن الملاحظ: أن أهداف سياسة التنصير قد تلتقي مع أهداف حركة الاستشراق، في كثير من الأمور، خاصةً ما يتصل منها بالأهداف الدينية والثقافية، وإجماع الطرفين (المستشرقين والمنصرين) على القول بمركزية الحضارة الإنسانية، وارتباطها بأوروبا وشعوبها، وهذا ما تجدُه واضحًا في كتابات المستشرقين والمنصرين، ومن دَارَ في فلكهم من الكتَّاب العرب، الذين يقومون بدور الطابور الخامس في تحقيق أهداف المستشرقين، في القول بأوْرَبَةِ الفكر الإنساني قاطبة، والقول بضرورة الأخذ بالنموذج الأوروبي، واقتفاء أثره، إذا أراد المسلمون أن يعيشوا عصرهم وحضارتهم[3].

وقد يكون مفيدًا للقارئ أن ننبه هنا إلى أن هاتين الظاهرتين وجهان لعملة واحدة، هي موقف الغرب من الإسلام والمسلمين، وماذا يريد الغرب من الشرق الإسلامي؟ لذلك لا غرابة أن نجد بينهما وحدة في الهدف أحيانًا، ووحدة في الوسائل أحيانًا أخرى؛ فقد يكون بعض المستشرقين مشتغلاً بعملية التنصير، وقد يكون المنصِّر مستشرقًا، وهذا واقع معروف في عصرنا، وفي كثير من بلادِنا، وهذا يفسر لنا ما قد يجده الدارس أحيانًا، من تداخل في قراءة الأسباب والأهداف، لكل من هاتين الظاهرتين.

ولكن ينبَغي أن ننبه هنا إلى أهم ما يبينهما من فروق.

الوسائل والمناهج:

1- يركِّز الاستشراق في رسائله على الجانب العلمي، كالبحث، والكتاب، والمقال، والندوة، والمؤتمر، والمحاضرة؛ فنشاطه علمي وبَحْثِيٌّ، مجاله العلوم الإسلامية بفروعها المختلفة، فقد تجد بينهم المشتغل بالنحو، أو التاريخ، أو التفسير، أو علوم الحديث، والفلسفة والتصوف… إلخ، أما التبشير، فغالبًا ما يركِّز على الجانب الاجتماعي كوسيلة مؤثرة في تحقيق أهدافه، مثل: بناء المستشفيات، والملاجئ، والنوادي، والمؤسسات التربوية والتعليمية.

2- يركز المستشرق في نشاطه على مخاطبة المثقف، بعد اكتشاف ميوله، والتعرف على مزاجه النفسي، وكذلك المشتغلين بالسياسة، ووسيلتُهم في ذلك الكتاب، والمقال، والندوة، والصداقات الشخصية مع كبار المسؤولين عن القرار السياسي والثقافي، والعائدون من البعثات التعليمية بأوروبا، وغالبًا ما تؤتي هذه الصداقات ثمارها في تنفيذ أهداف المستشرقين، ولعل النظرة السريعة إلى خريطة توزيع الوظائف المؤثرة ثقافيًّا في وطننا العربي – تؤكد لنا صدق هذه القضية، فمعظم العائدين من البعثات – خاصة من فرنسا – يتولَّون مراكز القيادة الثقافية في بلادهم، ومن موقعهم الوظيفي يملكون اتخاذ القرار وتنفيذه.

أما المبشِّرون، فيركزون في خطابهم على الطبقات الدنيا والفقيرة في المجتمع، الطبقات التي لا حَظَّ لها من الثقافة أو التعليم؛ لتسُدَّ رمقها وتروي ظمأها، والطريق إلى مخاطبة الفقير والجائع هو لقمة العيش.

3- لا يلجأ المبشِّر إلى الطعن في الإسلام بطريق مباشر، وإنما يبدأ حواره مع المسلم بالحديث عن الجوانب الاجتماعية التي تشغله، والتي هي نقطة الضعف في حياته ويعاني منها، عكس المستشرق، فإنه يلجأ في مؤلفاته إلى النَّيْل من الإسلام، ومن الرسولصلى الله عليه وسلم بشكل مباشر تحت ستار البحث العلمي، والموضوعيةِ في البحث، ويعلن رأيه بشكل مباشر وصريح، فيطعن في نبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، ويثير المشكلات التي ما زالت تؤرِّق المفكر المسلم إلى الآن.

ويمكن أن نُعرِّف “سياسة التنصير” من أقوال أصحابها القائمين بها بأنها: “منهج يسلكه المختصون؛ لتنصير العالم، وتقديم تعاليم الإنجيل إلى غير المسيحي بوسائل مختلفة”، ولقد أفصح الدكتور (هاريستون) عن هذا الهدف بوضوح في تحديده مهمة الإرسالية العربية الأمريكية بدوَل الخليج في قوله: “إننا نريدهم أن يصبحوا مسيحيين”[4]، مستدلاً على ذلك بما جاء في الإنجيل: “فلتذهب إليهم، وليكن لك أتباع بين جميع الأمم[5]”، و”يجب أن يعلم الإنجيل كل الأمم”.

ومحاولة تحقيق هذا الغرض هو ما يُطلَق عليه لفظ: (التبشير)، الذي يعني عند النصارى: “العيش، والعمل، والحديث من أجل المسيح”.

ومهمة “سياسة التنصير” بين النصارى ضرورية، ولا بد أن يتعاون للنهوض بها الأفرادُ والمؤسسات، وبلغ اهتمامهم بها حدًّا كبيرًا، جعل بعضهم يعلن صراحة عن طبيعة المبشرين بقوله: “لقد أرسلناه لا للوعظ الاجتماعي، ولكن للخلاص، لا للحديث عن الاقتصاد بل للتبشير، لا للتقدم بل للصفح، لا للنظام الاجتماعي الجديد بل للمولد الجديد، لا للثورة بل للانبعاث الروحي، لا للتغني بالديمقراطية بل للإنجيل، لا للحضارة بل للمسيح، إننا سفراء، ولسنا سياسيين”.

ويتَّفِق النصارى على: أن التبشير ركن أساس من أركان الكنيسة الحديثة، وله النصيب الأكبر من الميزانيَّة السنوية في أموال الكنيسة.

أهداف التبشير ومناهج المبشرين:

من الممكن أن تُترَك هذه النقطة دون إشارة إليها، لولا أن بعض المشتغلين بالكتابة يحاول أن يَحمل أعمال المبشرين في العالم العربي، على أنها أمور اجتماعية، الغرض منها المساعدة المالية والاجتماعية للفقراء والمرضَى واليتامى، ويَدَّعِي أن هذه أعمال إنسانية، ولا ينبغي التشهير بها أو حملها على غير مراد أصحابها، وهذا ما دعاني إلى التعرُّض لهذه النقطة؛ لتبين أغراض المبشرين من كتاباتِهم هم، ومَن على ألسنتهم دون تَدَخُّل منا للتفسير أو التَّأويل.

يقول الدكتور “إرهاس”، طبيب الإرسالية التبشرية في طرابلس: “إنه يجب على طبيب الإرسالية التبشيرية: ألا ينسى أبدًا لحظة واحدة: أنه مبشر قبل كل شيء، ثم هو طبيب بعد ذلك”.

ولقد خطب القسيس “هاريك” في جموع المبشرين، مبينًا لهم كيفية التعامل مع المسلمين، قائلاً: “إن ترجمة الإنجيل وكتب التبشير إلى اللغات الإسلامية أكثر فائدة، وأتم نفعًا؛ لأنه بمجرد شراء المسلمين لكتب المبشرين ومطالعتهم لها، تبدد أوهامهم القديمة عن المسيحية، وأما الجدل والمناظرة، فيبعدان المحبَّة التي لها وقع كبير على قلوب الغير، وتأثير مضاد على نشر النصرانية؛ فالمحبَّة والمجاملة هما آلة المبشر؛ لأن طريق الاعتقاد غايته دائمًا القلب، ويجب على المبشر أن يتحلَّى دائمًا بمبدأ النصرانيَّة، قبل أن يتغنَّى بالأمور النظرية، كما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست عقيدة دينية ولا دستورًا سياسيًّا، بل هي الحياة كلها، إنها تحب العدل والطهر، وتمقت الظلم والباطل، ونفتح للمسلم مدارسنا، ونتلقاه في مستشفياتنا، ونفرض عليه محاسن لغتنا، ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر، ونتعلق بأهداف الأمل؛ إذْ المسلم هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجميل، وبهذه الطريقة فقط يمكن للمبشِّر أن يدخل إلى قلوب المسلمين”[6].

وسبق أن قلنا: إن أهداف الاستشراق قد تلتقي مع أهداف التبشير في كثير منها، لكن ذلك لا يُعفِينا من التنبيه إلى أهم أهداف التبشير في العالم الإسلامي عمومًا، وفي منطقة الخليج بصفة خاصة:

1- تحويل أهل الجزيرة العربية عن الإسلام إلى النصرانية، ويتضح هذا الهدف من برنامج عمل الإرسالية الأمريكية، التي تأسست سنة 1889م؛ فقد جاء فيه ما يلي: “نحن – الموقِّعينَ – أدناه قد عزمنا على القيام بنشاط تبشيري رائد، في البلاد الناطقة باللغة العربية، وبخاصة من أجل المسلمين والعبيد، مقرِّين بالحقائق التالية: إن الحاجة بالِغَة لهذا العمل التبشيري، وضرورة تشجيعه في العصر الحالي؛ ولذلك فقد اقترحت اللجنة المؤسسة لها، ضرورة البدء السريع في هذا العمل، وأن يكون ميدانها الجزيرة العربية وأعالي النيل”.

2- ومما يقوي الهدف السابق، ما يدعيه “زويمر”، أحد مؤسسي الإرسالية السابقة، من وجود حقٍّ تاريخي للنصرانية في الجزيرة العربية، وأن إعادتها إلى النصرانية كسابق عهدها أمر غير مستحيل، وقد أكد ذلك “زويمر” في قوله: “إن للمسيح حقًّا في استرجاع الجزيرة العربية، وقد أكدَت الدلائل التي تجمَّعَت لدينا في الخمسين سنةً الأخيرة، على أن النصرانية كانت منتشرة في هذه البلاد في سابق عهدها، وهناك دلائل أثرية واضحة على وجود الكنيسة النصرانية هنا؛ ولهذا فإن واجبنا أن نعيد هذه المنطقة إلى أحضان النصرانية”[7]، وكان لسقوط الأندلس في أيدي الصليبيين وانتهاء عهد المسلمين بها – أثرٌ في تفكير “زويمر” في الدعوة إلى استرجاع هذه المنطقة إلى أحضان النصرانية”.

3- الالتفاف حول المقدسات الإسلامية في مكة والمدينة، وهذا الهدف قد أعلنه كثير من المبشرين في مؤلفاتهم؛ فلقد أعلن “هانوتو” أن هذه الرموز المقدسة هي رمز وحدة المسلمين، وسرُّ قوتهم، وأن المسلمين حين يلتقون حولها في الكعبة أو في المدينة – يجددون نشاطهم، ويستعيدون قوتهم الروحية، التي يستمدون منها معنَى التحدِّي على مواجهة المشكلات.

ولم ينس رؤساء المؤسسات التبشيرية أن يعلنوا صراحةً أهدافَهم التبشيرية، على مسامع الأفراد المسلمين، الذين يتعاملون معهم في المؤسَّسات التعليميَّة، كالمدارس والجامعات، التي أنشؤوها في البلاد الإسلاميَّة لهذا الغرض، تحت ستار نشر التعليم الحديث بين أبناء الشرق، فلقد أقيمَت (الجامعة الأميركيَّة) في بيروت 1865م، ليكون مديرها مبشرًا، وجميع المدرسين بها من المبشرين كذلك، وكان من مبادئ تولي التدريس بالجامعة أن يُقسِم المدرسون بها على: أن يوجهوا جميع أعمالهم نحو هدف واحد، هو التبشير، ولم يقبل منهم أن يكونوا نصارَى فقط، بل يجب عليهم أن يقوموا بمهمة التبشير أيضًا، وكانت تحرص الجامعة أن تظهر أساتذتها بمظهر المبشرين، وكانت تجبرهم الجامعة أن يحضروا مؤتمرات المبشرين، ولما أحست الجامعة بنوع من الحرج في مواجهة الدولة العثمانية ألغت مبدأ القسَم المطلوب من الأساتذة.

ولقد قرر مؤتمر القدس المنعقد 1935م أن يستغل كل درس علمي، في سبيل تأويل نصراني لفروع العلوم، كالتاريخ، وعلم النبات[8]، وكان دخول الكنيسة عملاً إجباريًّا على كل تلميذ بالجامعة، ولما احتج أولياء أمور الطلاب على ذلك اجتمع مجلس الجامعة، وأصدر منشورًا بهذا الخصوص جاء في مادته الرابعة ما يلي: “إن هذه كليَّة مسيحيَّة، أسست بأموال شعب مسيحي، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشؤوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يساندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء؛ ليوجدوا تعليمًا، يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ، وهكذا نَجِد أنفسنا ملزمين أن نعرض الحقيقة النصرانية على كل تلميذ، وأن كل طالب يدخل إلى مؤسَّستنا يجب أن يعرف مسبقًا: ماذا يُطْلب منه؟”.

ثم أعلن مجلس الأمناء للكلية: “أنها لم تؤسس للتعليم العلماني، ولكن أول غاياتها أن تعلن الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزًا للنور النصراني، وللتأثير النصراني، وأن تخرج بذلك على الناس، وأن توصيهم به”.

وهذه المؤسسة التعليمية ببيروت قد تأسس لها نظائر، في سائر البلاد الإسلامية والعربية على وجه الخصوص، فهناك الجامعة الأمريكية بمصر، وجامعة غوردون بالخرطوم، وكذلك في إستانبول بتركيا، بالإضافة إلى المدارس اليسوعية، التي لا حصر لها في البلاد العربية وقُرَاها، ولا يخفي على من يُراجع المناهج التعليمية، في هذه المؤسسات – أن التبشير هو مركز الدائرة في كل أنشطة هذه المؤسسات.

والدور التبشيري الذي قامت به الجامعة الأمريكية في بيروت، التي أسست سنة 1865، قامت به جميع الكليات التبشيرية الأخرى، التي أسست لنفس الغرض، وفي شتى بقاع العالم الإسلامي، ويستوي في ذلك الجامعة الأمريكية في وسط القاهرة، والجامعة الأمريكية في إستانبول، والكلية الفرنسية في لاهور، وهذه الجامعة الأخيرة قامت بدور خطير جدًّا في جنوب وجنوب شرق أسيا.

وتحت ستار “نشر التعليم والثقافة في بلدان العالم الثالث” حوَّل المبشرون دور التعليم بمراحله المختلفة، وكذلك المؤسسات الثقافية المختلفة إلي حقول خصبة؛ لزرع تعاليم الإنجيل، ونشرِ تعاليم النصرانية بين أبناء المسلمين، ابتداء من سن الطفولة في دور الحضانة، وانتهاء بالتعليم الجامعي؛ حيث أسسوا مدارس ومعاهد تعليمية لكل هذه المستويات، وزرعوها زرعًا في معظم البلاد الإسلامية.

وكذلك المؤسَّسات الثقافية والإعلامية، كانت بمثابة منابر يعملون من خلالها على نشر تعاليمهم، ولم يجدوا غضاضة في الإفصاح عن ذلك صراحة، حتَّى إن واحدًا منهم يعلن صراحة “أن المبشِّرين استغلوا الصحافة المصرية بصفة خاصة؛ للتعبير عن الآراء النصرانية أكثر منها في أي بلد آخر، حيث ظهرت مقالات كثيرة في الصحف المصرية، إما مأجورة في أغلب الأحيان أو بلا أجر في أحوال نادرة”[9].

الوسائل والمؤسسات التبشيرية:

أ- الإرسالية الأمريكية في دول الخليج:

هي إرسالية بروتستنتية ذات أهداف تبشيرية في شبه الجزيرة العربية، قام بتأسيسها الدكتور لانسنج lansing، أستاذ اللغة العربية في معهد اللاهوت في نيوبرونسوِك New Brunswick، الخاص بتدريب المبشرين، التابع لكنيسة الإصلاح الديني بأمريكا، ولقد ساعد لانسنج في تأسيس هذه الإرسالية ثلاثةٌ من تلامذته، وهم: جيمس كانتين، وصموئيل زويمر، وفيليب فيلبس، وكان والد لانسنج يعمل مبشرًا في بلاد الشام، وخاصة سوريا، وأطلق على هذه الإرسالية اسم: “الإرسالية العربية” سنة 1889م؛ استجابة لطلب رسمي مقدم إلى هيئة الإرساليات الأجنبية؛ للسماح بالقيام بعمل تبشيري في البلاد الناطقة باللغة العربية، وبدأت هذه الإرسالية تباشر نشاطها في الجزيرة العربية، وخاصة في المناطق المطلة على الخليج العربي، وكانت كنيسة “الإصلاح الأمريكية” بولاية نيوجرسي، هي التي تتولى الإشراف والتمويل لهذه الإرسالية، كما كانت تمدها بالمبشِّرين الجدد، الذين أتموا تدريبهم بها، وأصبحوا مؤهلين للقيام بالعمل التبشيري، وكان من خطة هذه الإرسالية العملُ على نشر الإنجيل النصراني، في المكان الذي نشأ فيه الإسلام، ولقد أحسَّت هذه الإرسالية بصعوبة المهمة المكلفة بها، خاصة في منطقة الجزيرة العربية، مهد الإسلام، والتي يتمتع أهلها بالولاء الكامل والغيرة الشديدة على الإسلام؛ لذلك فكروا في وضع خطة مكتوبة، يوافق عليها أعضاء الإرسالية؛ لتكون هذه الخطة ورقة عمل لهم في هذه المنطقة وفي غيرها.

ومما جاء في هذه الخطة:

“نحن – الموقِّعِينَ – أدناه قد عزمنا على القيام بنشاط تبشيري رائد، في البلاد الناطقة باللغة العربية، وبصفة خاصة من أجل المسلمين والعبيد، مقرين منذ البداية بالحقائق التالية:

1 – الحاجة البالغة لهذا العمل التبشيري، وضرورة تشجيعه في العصر الحديث.

2 – عدم وجود مثل هذا العمل التبشيري، تحت إشراف مجلس الإرساليات الأجنبية في الوقت الحالي.

3 – عدم قيام أي مجهود يذكر حتى الآن في المجالات آنفةِ الذكر.

ولتحقيق الأهداف المرجوة؛ فإننا نتقدَّم من المجلس وبتأييده إلى الكنيسة عامَّة بالمقترحات التالية:

1- الشروع في هذا العمل بأسرع وقت ممكن.

2- أن يكون ميدان العمل الجزيرة العربية أو أعالي النيل.

وجعل في المادة الأولى من دستور هذه الإرسالية: سيكون اسم هذه المنظمة: “الإرسالية العربية”.

وفي المادة الثانية: سيكون هدف هذه المنظمة: “القيام بالعمل التبشيري في الجزيرة العربية أو البلاد الناطقة بالعربية”.

ولا شك أن اختيار الجزيرة العربية كمركز رئيس لهذه الإرسالية – له أهدافه البعيدة، التي يخطط لها المبشرون، ويعملون على تحقيقها على المدى البعيد، ومن أهم هذه الأسباب التي أعلنوها: هو الادِّعاء بأن الجزيرة العربية كانت في سابق عهدها موطنًا للمسيحية قبل الإسلام، ومحاولة إرجاعها إلى سابق عهدها المسيحي أمر ضروري، وقد أكد صموئيل زويمر على هذه الأهداف في قوله: “إن من بين الدوافع للعمل في الجزيرة العربية الأسبابَ التاريخية، إن للمسيح حقًّا في استرجاع الجزيرة العربية، وقد أكَّدت الدلائل، التي تجمَّعت تحت أيدينا في الخمسين سنة الماضية: على أن النصرانية كانت منتشرةً في هذه البلاد في سابق عهدها، وهناك دلائل أثرية واضحة على وجود الكنيسة النصرانية هناك، ولهذا فإن من واجبنا أن نعيد هذه المنطقة إلى أحضان المسيحية[10].

وبعد دراسة أحوال المنطقة سياسيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا، قَرَّر الجنرال “هيج Heig” في رحلته إلى الجزيرة العربية: أن كل الجزيرة العربية، بدرجات متفاوتة مهيأةٌ لاستقبال الكتاب المقدس بذراعين مفتوحين[11].

ب- وقد أنشأت هذه الإرسالية عدة مراكز لها في كل من بيروت، والبصرة، والبحرين، وكانت الأخيرة أهمَّ مركز لها؛ حيث أنشأت الإرسالية مكتبة للكتاب المقدس بالبحرين سنة 1893م، وأصبحت البحرين مركزًا مستقلاً للنشاط التبشيري في المنطقة، بعد أن كان تابعًا لمركزهم بالبصرة، وساعد على تكثيف النشاط التبشيري بها عوامل كثيرة، أشار إليها المبشرون أنفسهم، ومن أهم العوامل: وضع البحرين السياسي؛ حيث كانت محمية بريطانية، وهذا العامل وحده كان كافيًا لتوفير قدر من الأمن والأمان للمبشرين في المنطقة، ثم امْتَدَّ نشاط هذه الإرسالية إلى جنوب الجزيرة العربية، فأنشأت لها مركزًا في عمان ومسقط، ومن عمان امتد نشاط الإرسالية إلى شرق أفريقيا ووسطها.

جـ – وفي مطلع القرن العشرين، أنشأ المبشرون مركزًا لهم في دولة الكويت؛ حيث بدؤوا في زيارتها، سنة 1900م للمرة الأولى، وكانت زيارتهم الثانية لها سنة 1903م؛ حيث افتتحوا بها مكتبة لبيع الكتاب المقدس، ولكن رفض حاكم الكويت في وقتها – وهو الشيخ مبارك – أن تقوم هذه المكتبة بأي نشاط تبشيري في الكويت، ثم أمر بإغلاقها.

ولكن أعْيُن المبشرين لم تنصرف عن الكويت؛ لما لها من أهمية كبيرة في نظر المبشرين، ولقد كتب “أرنولد ويلسون” عن أهمية الكويت، بالنسبة للنشاط التبشيري، فقال: “إن المزايا الإستراتيجية والتجارية لموقعها، وقربها من مدخل دجلة والفرات، وأن لها صلتها الوثيقة بمملكة ابن سعود في وسط الجزيرة العربية، وكونها تسمح بالعبور إليها بسهولة – كل هذه الأمور تجعل الكويت ذات أهمية خاصة بالنسبة للمبشرين”[12]، وظلت المحاولات قائمة بين الإرسالية والشيخ، حاولوا الحصول على قطعة أرض مجاورة لقصره؛ ليقيموا عليها منزلاً لهم، وتدخَّل القنصل البريطاني؛ ليكون وسيطًا لهم عند الشيخ، بضمان الولاء وعدم المعارضة، وظلت هذه الإرسالية تُباشِر نشاطها بالمنطقة إلى وقت قريب.

د – ولعل أحدث مركز أنشئ للتبشير في هذه المنطقة هو في قطر، حيث قَدِمَ إليها القس: “جريت بينتجز”، والدكاترة: “هاريسون، وديم، وتوماس”، والآنسة: “كورنيليا دالنبرج”؛ لِتَفَقُّدِ معالم المنطقة ودراسة أحوالها، وفي سنة 1945م حضر إلى قطر القس: “ج. فان بيرسم” لافتتاح مستشفى، وبعض المراكز الطبية في قطر، وجدوا في هذا فرصة جيدة لمزاولة نشاطهم، وطلب منهم الشيخ أن يضعوا تصميمًا لمستشفى سيعهد بإدارتها إليهم، وفي خريف سنة 1947م، أصبح المستشفى جاهزًا للعمل، ولكن هذه الخدمات الطبية لم تستمر طويلاً في قطر؛ ففي سنة 1952م اضْطُرَّت الإرسالية أن تتوقف عن نشاطها تمامًا في قطر؛ حيث عادت المستشفى إلى حكومة قطر، وأصبحت الإرسالية غير آمنة على نفسها، فتوقفَت عن العمل تمامًا في هذا البلد[13].

هذه فكرة موجزة عن تاريخ التبشير بالمنطقة العربية، خاصةً منطقةَ الخليج العربي، ومن المعلوم أنه في عصر الاستعمار الحديث، نشطت عملية التبشير في الأقطار الإسلامية، التي احتلتها دول الغرب، وفرضت سيطرتها السياسية والثقافية على أهلها، وجلب الاستعمار معه كثيرًا من المبشرين وسدنة الكنائس، يقول الأستاذ أحمد دنفر في كتابه “التبشير في منطقة الخليج في عام 1870م”: “وسَّعت البعثة التبشيرية التابعة للكنيسة الإصلاحية في أمريكا مجال نشاطها في العراق؛ حيث كانت تباشر أعمالها إلى منطقة الخليج، عن طريق تقديم الخدمات الطبية والتعليمية، كما أن الكنيسة الأنكلييكانية ارتبط وجودها بالجيش البريطاني في منطقة الخليج، بينما وصلت الكنيسة الكاثوليكية عن طريق الهند وأفريقيا الشرقية، وأول الكنائس التي أسست في الخليج العربي، كانت تلك التي أسسها العمال المهاجرون من الهند وباكستان”[14].

أهم الوسائل:

1- من أهم الوسائل، التي يسلكها المبشرون في منطقة الخليج: أنهم يركزون على الجوانب الاجتماعية لخدمة المنطقة، ومما ساعدهم على سهولة الأخذ بهذه الوسيلة: أن المنطقة الخليجية قبل ظهور النفط فيها كانت تعيش حياة البداوة، فالجهل هو الصفة الغالبة على سكان المنطقة، والفقر المدقع كان واقعًا يعيشه معظم السكان، خاصة الذين يعيشون في البوادي، أضف إلى ذلك الحالة الصحية والرعاية الطبية المتدنية، وهذا كله جعل النشاط الطبي وسيلة مناسبة وميسورة، وبعيدة عن الشبهات، وعن طريق المستشفيات والعيادات العامة يسهل اللقاء المباشر مع سكان المنطقة المسلمين رجالاً ونساءً، فكان المريض إذا ذهب إلى المستشفى لا يسمح له بلقاء الطبيب، إلا بعد أن يؤدي الصلاة النصرانية بالكنيسة الملحقة بالمستشفى، ولا يصرف له العلاج إلا بعد لقاء مباشر مع الراهب أو الراهبة، وهذا جعل للهيئات الطبية بالمنطقة وضعًا ممتازًا بين سكان المنطقة؛ حيث كان المسلم والمسلمة هما اللذان يطلبان لقاء الطبيب والطبيبة، ويسعيان لمقابلتهما، والسماع منهما والجلوس إليهما حيثما كانا، وهذا ما جعل المستشفى والمستوصف من أخطر مراكز التبشير في منطقة الخليج، ولعل أكبر مثال على ذلك مستشفى “بعثة الاتحاد الإنجيلي” في الإمارات العربية المتحدة؛ فإن نشاطها لا يقتصر على المرضى المقيمين بها فقط؛ وإنما تعدى ذلك إلى إقامة الندوات العامة، التي تعقد في القاعة المعدة لذلك، كما أسست المستشفى مكتبة خاصة لبيع الكتب والمطبوعات المسيحية، وفي كل غرفة منها تقدِّم أشرطة التسجيل للكتاب المقدس وسماع موعِظة الأحد[15].

2- ومن وسائل المبشرين عمومًا – وفي الخليج بصفة خاصة – العلاقات الشخصية، والصداقات التي تتم بين الأفراد والعائلات في داخل المنطقة وخارجها، ومن أبرز المبشرين المهتمين بهذا الجانب مجموعة صانعي الخيام، لوجودهم في أماكن العمل المختلفة، واحتكاكهم المباشر مع أصحاب الأعمال، ومع العمال أيضًا.

3- يأتي بعد ذلك دور المطبوعات في عملية التبشير وتوزيعها بالمجَّان؛ فهناك عدد كبير من المكتبات النصرانية تقوم بهذه المهمَّة، وهناك المطبوعات التي توزع على البيوت سرًّا، وهي أشبه بالمواعظ الإنجيلية، والترانيم اللاهوتية، يجدها الشخص أمام بيته في الصباح أو ملصقة على الجدران.

4- الإذاعات التبشيرية المنتشرة حول العالم الإسلامي وفي داخله، وهي أكثر الوسائل الحديثة فعالية في الاتصال بالمسلمين، وهناك أجهزة إعلامية متخصصة في إنتاج البرامج التبشيرية الموجهة إلى المسلمين، ولعل من أهم هذه الأجهزة “شركات الإنتاج الإعلامي” الموجودة في لبنان وفرنسا وإسبانيا، وفي جزيرة سيشل، وبعض هذه الشركات تبث برامجها من راديو عبر العالم من موناكو، ومن قبرص، كما أن راديو الفاتيكان يبث برامجه التبشيرية باللغة العربية، ولعل أنشط هذه الشركات الآن “راديو مونتوكارلو”، الذي يبث برامجه التبشيرية، بعد الساعة الحاديةَ عشرَ مساءً عادَة.

5- المؤسَّسات التربوية التعليمية، مثل: دور الحضانة، والمدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، والجامعات الأمريكية المنتشرة في العالم الإسلامي، وهذه المؤسسات يختلف نشاطها قوة وضعفًا حسب المنطقة التي تعمل بها؛ فعلى سبيل المثال؛ نجد أن من أنشطة المدارس العاملة في دول الخليج: “مدارس كاثوليك” في أبي ظبي، و”مدرسة الإرسالية الأميريكية” التي كانت تعمل في البحرين.

6- يضاف إلى ما سبق دور الصحافة والفنون والبعثات التعليمية، وما يترتب على ذلك من نشر أفكار؛ لتزييف التاريخ الإسلامي أحيانًا، واستغلال الواقع المؤلم للعالم الإسلامي أحيانًا أخرى، ومحاولة ربط ذلك التخلُّف بالإسلام.

ولقد قامت الصحافة بأخطر الأدوار التبشيرية، في المنطقة العربية والإسلامية على وجه العموم؛ فلقد هاجر إلى مصر كثير من الموارنة اللبنانين بدعوى زائفة ومكشوفة، وهي طلب الآمان في مصر بلد الحرية والنور، هكذا كانوا يُبَرِّرون هجرتهم إلى مصر، ولا زالوا، ولكن قد أثبت الواقع عكس ذلك تمامًا، فقد كان الموارنة خريجي الأديرة والكنائس والمدارس التبشيرية، والذين حملوا معهم بذور الفتن وأساليب سياسة التنصير في ربوع مصر، وأخذوا يباشرون نشاطهم تحت حماية الاستعمار الأجنبي، الذي كان مسيطرًا على كل مرافق الحياة في القرن التاسع عشر، والنصفِ الأول من القرن العشرين، وكان نشاط الموارنة المهاجرين شديد الأثر؛ فلقد هيَّأ الوجدان المصري للاستعمار الثقافي، ولقد أشار إلى هذه الحقيقة المؤرخ الأمريكي “بيتر جران”؛ حيث قال: “لقد سعت فرنسا إلى زرع فئة من التجار المارونيِّين الشوام في الإسكندرية ودمياط ورشيد، تحت حماية النفوذ الأجنبِي، وكان لهؤلاء بعض الصحف التي أطلق عليها عبدالله النديم “صحف الأُجَراء”، وكان يُسَمِّي ما ينشرونه بالقاذورات[16]”، وقام “جرجي زيدان” بتأسيس “دار الهلال” بمصر، وهي مؤسسة تبشيرية خالصة، وكذلك أنشؤوا “مجلة الكتَّاب المصريين”، وقيل: إنها تأسست بأموال صهيونية.

أما “جريدة الأهرام”؛ فتأسست بيد صليبية خالصة، وكان من بنود تأسيسها ألا يعملَ بها إلا النصارى، ولا يقوم بتوزيعها إلا النصارى، وكان من أكبر مؤسسيها “بشارة تقلا وإخوانه” الذين هاجروا إلى مصر سنة 1873هـ، تحت حماية الحملة الفرنسية، وكان بشارة تقلا صاحب دور كبير في تأليب الإنجليز ضد “عرابي”، وكان قلمه مدافعًا عن الإنجليز أحيانًا، وعن الفرنسيين أحيانًا أخرى، ولقد سجل عرابي في مذكراته كيف خدعه بشارة تقلا؛ فقد كان مؤمنًا بمبادئ عرابي، أو هكذا كان يتظاهر؛ يقول عرابي: “وبعد ساعة جاء ليزورني بشارة تقلا، محرر جريدة الأهرام، وظننت أنه قدم ليعزينِي ويبدي عواطفه نحوي؛ لأنه قد أقسم بدينه وشرفه أنه واحد منَّا، وأنه يعمل لحرية وطننا، ولكنه لما دخل عليَّ تَوَقَّح أشدَّ التوقُّح، ثم قال: أيْ عرابي، ماذا فعلت؟ وماذا حل بك؟ ورأيت أن الرجل خائن لا محالة”؛ هكذا يقول عرابي عن بشارة تقلا، مؤسس جريدة الأهرام.

والدور الذي لعبه تقلا ورفاقه لا يقل عنه ما قامت به مؤسسة جرجي زيدان في مصر، فتَحْتَ ستار التنوير والنهوض والتقدميَّة، زلزلت كثيرًا من ثوابت القيم في الشارع المصري الحديث، واستطاعت أن ترسخ في وجدان الأمة العربية كثيرًا من الأحاديث، وتعمل على الترويج لها، مثل قولهم: إن الحملة الفرنسية هي بداية عصر النهضة في مصر، أو أن الخلافة العثمانية تمثِّل عصر الظلام، وأن اتصالنا بفرنسا هو الذي علمنا معنى الحرية، وأخذ بيدنا في سُلَّم الحضارة.. إلخ”[17].

العمالة المهاجرة في ظل الكنيسة:

لعل منطقة الخليج العربي أهم مناطق العالم المعاصر بالنِّسبة لجذب العمالة من الخارج؛ نظرًا لظروفها الاقتصادية والاجتماعية، ولقد عقد في بيروت سنة 1979م مؤتمرًا نظمته إحدى الهيئات التبشيرية عن “أوضاع منطقة الخليج ودور العمالة المهاجرة إليها”، ولاحظت هذه الهيئة أن 80% من سكان هذه المنطقة هم في الأساس من العمالة المهاجرة، وأن أوضاع هذه العمالة تدعو للقلق، والاهتمام بها، وبدورها الإيجابي في تغيير الشكل السكاني للمنطقة، وترتب على هذا الموقف أن أعَدَّت هذه الهيئة دراسةً للشكلِ السكاني، ومحاولةِ التعرُّف على نسبة العمالة المهاجرة ودياناتها، وقام بعض القُسِّ بتنظيم زيارات عدة لدول المنطقة، والعمل على تأمين العمل لبعض القُسِّ والمربين المسيحيين، الذين يتكلمون اللغة العربية؛ لقيادة العمالة النصرانية المهاجرة إلى المنطقة.

ولقد أعدت أمانة السِّر المنبثقة عن مؤتمر الكنائس العالمي وثائقَ عن هؤلاء المهاجرين؛ لدراستها والعمل على أساسها، وبناء على دراسة هذه الوثائق؛ أعلن مؤتمر الكنائس سنة 1975م: أنه يجب على الكنائس أن تدافع عن حقوق هؤلاء العمال المهاجرين، وتسعى لتحسين أوضاعهم.

ولقد أنشأ هذا المؤتمر لجنة لمتابعة أحوال هذه العمالة، ومتابعة تنفيذ قراراته بشأنها، وأجرى عملية استطلاع للرأي العام الكنائسي حول الأمور الآتية:

1- مدى الاستجابة الدولية لنداء مؤتمر الكنائس المنعقد في أفريقيا، وفي آسيا، وفي الشرق الأوسط بشأن حقوق هذه العمالة.

2- أيسر السبل لمتابعة أحوال العمالة المهاجرة في الخليج، والوقوف على ما يلاقونه من صعوبات.

3- كيف يمكن للكنائس البروتستنتية والكاثوليكية والأرثوذكسية أن تؤمِّن رسالة العمالة في منطقة الخليج[18]؟

وقدرت هذه الهيئة عدد العمال النصارى المهاجرين إلى المنطقة – رجالاً وإناثًا في جميع مستويات العمالة – بين 5. 2 – 3 مليون نصراني، معظمهم من دول آسيا وأفريقيا، ولقد أعدت هيئة الأمانة العامة للهجرة، في مؤتمر الكنائس العالمي وثائقَ عن هؤلاء المهاجرين لدراستها، والعمل على أساسها.

وقد قرر المؤتمر العالمي للكنائس سنة 1975م: أنه يجب على الكنائس المختلفة – خاصةً التي لها فروع في بلاد الخليج العربي – أن تدافع عن حقوق العمالة النصرانية المهاجرة إلى المنطقة، والعمل على تحسين أحوالهم.

ولقد صدر حديثًا كتاب عن منظمة عالمية مسيحية تعمل في باكستان، بعنوان “صلِّ يوميًّا”؛ لنشر النصرانية في منطقة الخليج، ولتقوية الكنيسة بين العمال المهاجرين، وخاصة القادمين من باكستان، ومن بين الصلوات المطلوبة أن يصلوا من أجل فتح مركز للدارسين للإنجيل، بالمراسلة من الباكستانيين والهنود في الخليج العربي، ولتنمية برامج الإذاعة.

ومما سهل للمبشِّرين عملهم في المنطقة: أنهم يعتمدون في تنفيذ برامجهم على هذا العدد الضخم من العمالة غير المسلمة، بالإضافة إلى أن آخر إحصائية لعدد المبشرين في الشرق الأوسط قد بلغ 1300م، ويذكر الإنجيليون أن عدد المبشرين في منطقة الخليج حوالي 80 مبشرًا بروتستنتيًّا، معظمهم يعمل في المراكز الطبية.

كما أن هناك عددًا كبيرًا منهم يعملون في المجالات الفنية والصناعية، دون أن يعلنوا عن هويتهم، وليس من السهل التعرُّف على طبيعة نشاطهم.

نشاطهم في مصر:

ونَجد أن الاستعمار البريطاني، بعد أن استقرت له الأمور في مصر، لم يغِب عن ذهنِهِ هذا الدور التبشيري، وكان من أبرز الشخصيات، التي كان لها الدور الرائد في محاربة الإسلام والمسلمين بمصر – “اللورد كرومر”، المندوب السامي البريطاني، وكان يتميز بالدهاء والعداء للإسلام ولغته العربية، فعمل منذ أول عهده بمصر على تغريب الحياة الثقافية والسياسية والتعليمية ومناهجها، وكان له الدور الأكبر في تثبيت دعائم الاستعمار بمصر، وقد وضع “كرومر” مخططه التبشيري والاستعماري معًا في كتابه “مصر الحديثة”، الذي ضمنه آراءه وأهدافه من الوجود البريطاني في مصر.

ومن أهم القضايا التي أثارها “كرومر” في هذا الكتاب ما يأتي:

1- التركيز على إظهار أن سبب تأخُّر المسلمين يرجع إلى تمسكهم بالإسلام؛ لأن تعاليمه تتنافى مع المدنية الحديثة، والحضارة والعلم.

2- ليس أمام المسلمين من طريق إلى المدنية الحديثة إلا بالتخلص من الإسلام وتعاليمه.

3- محاولته الدؤوب إرجاعَ كل مشاكل التخلف الموجود في العالم الإسلامي، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية إلى تعاليم الإسلام.

وقد امتد نشاط “كرومر” إلى لغة القرآن الكريم؛ حيث نادى بضرورة إلغائها والأخذ باللغة العامية، وجعل لغة القاهرة هي اللغة الرسمية، وإحلالها محل اللغة الفصحى في الكتابة والدواوين الحكومية، وهذا الرأي قد عارضه الرأي العام بمصر في وقتها، غير أنه قد وجد عند بعض المستغربين أذنًا صاغية، فنادوا بالعامية من خلال الصحف، خاصة صاحب “المقتطف”، وألف المستشرق “ولمور” أحد قضاة المحاكم المختلطة بمصر كتاب “لغة القاهرة”، فوضع قواعد اللغة العامية القاهرية، ونادى بوجوب إحلالها محل لغة القرآن، ثم انتقلت هذه الدعوة المسمومة إلى المستر “وليم ولكوكس” المهندس البريطاني، الذي كان بوزارة الري والزراعة بمصر، فدعا إلى هجر الفصحى وإحلال العامية محلها، وكادت هذه القضية أن تجد لها مكانًا في بعض المكاتبات الرسمية؛ لولا وقوف الرأي العام في وجهها، وفطنة المسؤولين إلى خطورة هذه الدعوة المسمومة، في القضاء على أيِّ رابطة بين المسلمين والعرب، وهي لغة القرآن الكريم.

ومما هو جدير بالذكر هنا الإشارةُ إلى ما قام به القسيس “دانلوب”، المستشار البريطاني لوزارة المعارف، الذي حاول جاهدًا أن يجرد مناهج التعليم في مصر من سماتها الإسلامية، في كثير من المواد الدراسية، فأنشأ عددًا كبيرًا من المدارس الإنجليزية، تُدَرِّس جميع موادها بلغة المستعمر، وكانت هذه المدارس تبدأ نشاطها المدرسي كل يوم بالصلاة في كنيسة المدرسة، وأوصى “دانلوب”: أن تكون حصص المواد الشرعية، واللغة العربية في المدارس الحكومية في نهاية اليوم المدرسي، بعد أن يكون التلميذ قد أصابه الملل والسآمة، وظلت المناهج الدراسية، التي وضعها دانلوب لوزارة المعارف المصرية – تعمل عملها في تخريج أجيال مبتوتة الصلة بالإسلام وقضاياه إلى وقت قريب، والتقَت أهداف “كرومر” و”دانلوب” في محاولة إبعاد الحياة الثقافية والتعليمية في مصر عن روح الحياة الإسلامية، وحاول كل منهما جذب بعض الشخصيات إلى هذا التيار العلماني الصليبي، ولكن هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل في معظم الأحيان.

مؤتمرات التبشير:
يعقد المبشرون كثيرًا من المؤتمرات في العالم الإسلامي؛ لرسم الخطط التبشيرية المناسبة، وتقويمِ العمل في الفترات السابقة، ومحاولة معالجة ما شابها من قصور أو تقصير، هذا بالإضافة إلى وضع المؤلفات المستقلة التي ألَّفها المبشرون؛ لوضع خريطة كبرى للتبشير العالمي على مستوى جميع الشعوب غير النصرانية، ومن أهم هذه المؤلفات ذلك البحث الخطير، الذي كتب مقدمته المسيو “شاتيليه”، وضمَّنه مجلة “العالم الإسلامي” الفرنسية المصورة، فأصدرت هذه المجلة عددًا ضخمًا سنة 1911م، ليس فيه غير هذا البحث الضخم الذي وضعه شاتيليه، وكان يدور كله حول ما تقوم به الإرساليات التبشيرية البروتستنتية في العالم الإسلامي، وتضمنت هذه المقدمة الدور الذي تقوم به كلية القديس يوسف اليسوعية – في بيروت – في نشر تعاليم الإنجيل في سوريا ولبنان.

ثم جاء كتاب “تاريخ التبشير” للمستر “أدوين بلس” البرتستنتي، الذي تضمن تاريخ التبشير في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر.

ومن أهم الشخصيات التي برزت في تاريخ التبشير الحديث القسيس صموئيل زويمر، في بحثه “أهمية الالتفاف حول جزيرة العرب التي هي مهَّد الإسلام”، وأشار إلى ضرورة الربط بين مصالح المبشرين في بيروت وسوريا ومكة والمدينة؛ لأن ذلك سوف يمهد للمبشرين النفاذ إلى هاتين المدينتين المقدستين عند المسلمين.

كما لفت زويمر نظر المبشرين إلى أهمية الانتشار في جزر ماليزيا وإندونيسيا؛ ليمكن تخليصها من قبضة المسلمين، وأشار إلى ضرورة عقد مؤتمر لمراجعة أعمال المبشرين، والتعرف على المشاكل التي يواجهونها، ووضع الخطط المناسبة في المستقبل.

1- مؤتمر المبشرين بالقاهرة سنة 1906م:
اجتمع في هذا المؤتمر معظم الإرساليات التبشيرية في المنطقة برئاسة “زويمر”، وافتتح المؤتمر بتاريخ 4 أبريل سنة 1906م، وكان عدد مندوبي الإرساليات التبشيرية قد بلغ 62 مندوبًا، رجالاً، ونساءً، وتم انتخاب زويمر رئيسًا عامًّا للمؤتمر، وكان من أهم المسائل التي طرحت على هذا المؤتمر الأمور التالية:
1 – إحصاء لعدد المسلمين في العالم.
2 – وضع الإسلام والمسلمين في شرق وجنوب شرق آسيا.
3 – منهج التعامل مع المسلمين المثقفين والمسلمين العوام.
4 – دور المرأة وشؤون النساء المسلمات.

وقد جُمِعت أعمال المؤتمر في كتاب مستقل نشر باسم: “وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين”، جمعه القسيس “فلمنج” الأمريكي، وكتب عليه من الخارج عبارة “نشر خاصة”؛ ليكون الكتاب قاصرًا في تداوله على فئة خاصة من المشتغلين بالتبشير.

وضمن هذا الكتاب بعض التوصيات التي رفعها إلى الحكومات المعنية، ومن أهم هذه الاقتراحات: محاولة الالتفاف حول الأزهر في مصر؛ لأنه مفتوح لكل الطلاب من العالم كله، وأنه لا يخضع في تمويله لأي حكومة؛ لأن أوقاف الأزهر تدر دخلاً كبيرًا يساعد العالِمَ والمتعلم فيه، ولا بد من العمل على تقليص دوره، ولنبدأ ذلك بإنشاء جامعة نصرانية تشارك في الإنفاق عليها جميع الكنائس بلا استثناء.

ولقد قام زويمر بعمل خريطة أسماها: “خريطة تنصير العالم الإسلامي” في هذا العصر، ووزع أعدادًا كبيرة منها على كبار المسؤولين في الحكومات الغربية، وكتب على كل نسخة: “نداء إلى المسؤولين”؛ لعله يجد صدى له في أوروبا وأمريكا، وعرض هذه الخريطة على المؤتمر، وضمنها كتابه “العالم الإسلامي اليوم”، وكان من أهم ما نصح به زويمر في كتابه هذا إثارة بعض المشكلات الاجتماعية، وطرحها في الندوات واللقاءات الثقافية كمشكلة الطلاق، والتعدد، وإرث المرأة، ولماذا تكون نصف الرجل؟

كما أوصى بالعمل على أن يجتهد المبشرون في إيجاد أصدقاء لهم من المسلمين، يقومون بنشر هذه الأفكار بين المسلمين؛ ليتحولوا فيما بعد إلى مبشرين بتعاليم المسيح نيابة عن النصارى.

ومن أهم أعمال زويمر التبشيرية:
أ – تقرير أهداف التبشير الذي قدمه المؤتمر، الذي عقد بالهند سنة 1911م، وصرح فيه بأن هدف التبشير: ليس هو تنصير المسلم فقط، وإنما الأهم من ذلك التنكر لتعاليم الإسلام.

ب – التقرير الذي نشره في 12 إبريل سنة 1926م، ويشير فيه إلى تلك المجهودات الكبيرة التي بذلها المبشرون، والمصاريف الباهظة التي أنفقوها ولم تؤت ثمرتها؛ ولذلك يجب التفكير في تطوير وسائل التبشير ومناهجه، ومما جاء في هذا التقرير قوله: “وعندي أنه قبل أن نبنِي النصرانية في قلوب المسلمين – يجب أن نهدم الإسلام في نفوسهم، حتى إذا أصبحوا غير مسلمين سهل علينا أو على من يأتي بعدنا أن يبنوا النصرانية في نفوسهم”.

2- مؤتمر القدس سنة 1935:
عقد هذا المؤتمر تحت حماية الاحتلال البريطاني لفلسطين، وكان أبرز المتحمسين فيه بالعداء للإسلام “زويمر”، وألقى خطبته على الحاضرين من المبشرين، ومن المهم للقارئ أن أضع أمامه نص هذا الخطاب؛ ليعرف: كيف تلتقي مصالح التبشير والاستعمار مع مصالح اليهود في فلسطين؟ ليجمعهم هدف واحد، هو التخلص من الإسلام.

قال زويمر:
“أيها الإخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد، في سبيل النصرانية واستعمارها لبلاد الإسلام، فأحاطتكم عناية الرب بالتوفيق الجليل، ولقد أديتم الرسالة التي نيطت بكم أحسن الأداء، إنني أُقِرُّكم أن الذين دخلوا حظيرة النصرانية من المسلمين ليسوا بمسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم ثلاثة: إما صغير، لم يكن له من أهله من يعرِّفه: ما هو الإسلام؟ أو رجل مستخفٌّ بالأديان، لا يهتم بغير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزَّت عليه لقمة العيش، وثالث يبغي الوصول إلى غاية شخصية.

إن المهمة التي نَدَبَتْكم إليها دول النصرانية في البلاد المحمدية – ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريم، وإنما مهمتكم أن تُخْرجوا المسلم من الإسلام؛ ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها؛ وبذلك تكونون بعملكم هذا طليعةَ الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم عليه دول النصرانية، لقد قبضنا – أيها الإخوان – في هذه الحقبة من الدهر، على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير، والكنائس، والجمعيات، والمدارس النصرانية الكثيرة، التي تهيمن عليها دول أوروبا وأمريكا.

أيها الزملاء:
إنكم أعددتم في ديار الإسلام شبابًا لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريدون أن يعرفوها، وأخرجتم بعضهم من الإسلام، ولم تدخلوه النصرانية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقًا لما أراده الاستعمار: لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا هم له في دنياه إلا الشهوات، فإذا تعلَّم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوَّأ أسمى المراكز فللشهوات، وفي الشهوات يجود بكل شيء.

باركتكم النصرانية، ورضي عنكم الاستعمار، فاستمروا في أداء رسالتكم، لقد أصبحتم بفضل جهادكم موضع بركات الرب”[19].

——————————————————————————–

[1] راجع “التبشير في منطقة الخليج”، صـ 201/ 203، الخانجي.
[2] فيليب: “حتى تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين”، 2/ 263، دار الثقافة بيروت، نقلاً عن أ.د. عبدالعظيم الديب، التعبئة الثقافية، بحث نشر في ندوة الثقافة العربية، جامعة قطر، سنة 1993م.
[3] من هذه النماذج على سبيل المثال: عبدالله العروسي، ومحمد أركون بالمغرب.
[4] “التبشير والاستشراق”، مستشار عزت الطهطاوي، صـ 158-159.
[5] Dang. 13 نقلاً عن “التبشير والاستعمار”، فروخ.
[6] الخالدي، صـ 104-106
[7] “التبشير في منطقة الخليج”، عبدالملك التميمي، صـ 246.
[8] الخالدي، صـ 104-16
[9] البهي، صـ 429، الخالدي وفروخ، صـ 207
[10] المصدر السابق نفسه، صـ 48، 49
[11] السابق، صـ 50.
[12] المصدر السابق، صـ 63.
[13] المصدر السابق، صـ 70.
[14] “التبشير في منطقة الخليخ”، صـ 5، أحمد نون دنقر.
[15] المرجع السابق، صـ 37.
[16] راجع بحث أ.د. عبدالعظيم الديب، “ندوة الثقافة العربية”، جامعة قطر، سنة 1993م.
[17] راجع البحث القيم الذي كتبه أ.د. / عبدالعظيم الديب، في “ندوة الثقافة العربية”، جامعة قطر، سنة 1993م.
[18] راجع “التبشير المسيحي في منطقة الخليج”، بقلم أحمد فون دنقر، ص 32-35.
[19] من كتاب “المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام”، محمد محمود الصواف، ص 58-59، نقلاً عن “قوى الشر المتحالفة”، محمد الدهان ص 122-115.