بين المؤمنين والملحدين كيف يؤمن بما لا يرى؟

قال الملحدون : لقد آمن بالله من آمن دون ان يراه بحس, ويتناوله بتجربة وانما فرض وجوده ليفسر به الكون ونظامه الحكيم والدقيق بعد العجز عن تفسيره بالعلم ومنطق الحس, زاعما ان مثل هذا النظام الكوني لا يمكن ان يصنعه شئ الا قوة خارقة فوق المادة والطبيعة.
ثم قال الجاحدون: وهذا مردود:
اولا: لأنه ايمان بالغيب.
ثانيا: ان النظام الكوني تولد من نفس الكون لا من قوة خارجة عنه, وقد اودعت فيه النظام والانسجام( كما يقول المؤمنون) ويعرف هذا التعليل بالتولد الذاتي والتفسير الميكانيكي.
حتمية الايمان بالغيب:
واجاب المؤمنون عن الاعتراض الاول بان كل من آمن بشئ لم يره فقد آمن بالغيب, والمنكرون للقوة الخارقة المدبرة يعتقدون بوجود اشياء لا يمكن ان تنالها يد التجربة, ويستحيل على الحس أن يصل اليها بأي وسيلة من الوسائل ومن ذلك( على سبيل التمثيل) الجاذبية في المادة, والمغناطيس في الحديد, ووجود الكترون, وما يجري في العقل من تفكير واستنتاج , ويرتسم في الذهن من صور, ويختلج في القلب من ميول, ويرسخ فيه من ايمان.. وكيف تختزن الذاكرة المعلومات , وتحتفظ بها لوقت الحاجة.
وقد حيَر لغز الذاكرة العلماء بعد أن اكتشفوا ان في طاقتها ان تستوعب بلايين المعلومات, وايضا يعتقد الماديون بوجود الاثير الذي تألف منه الكون دون ان يقع تحت اختبارهم .. وتأتي الأشارة.. ومثله الزعم بأن اصل الانسان قرد.
هذا, الى ان عالم الفلك يؤمن بوجود كوكب غائب عنه ويحدد مكانه من حركة كوكب آخر شاهده وراءه, والطبيب يكتشف نوع المرض من ظهور آثاره, والقاضي يحكم بالدماء والاموال من القرائن القضائية وغيرها دون أن يرى الجريمة ويشاهدها, وصاحب الحفريات يتحدث عن الامم الماضية ,والقرون الخالية من مشاهدة البقايا والحطام , وكل الناس يحكمون على الانسان من خلال سلوكه دون أن يطّلعوا على سريرته, بل ومن صفحات وجهه وفلتات لسانه, وايضا يؤمنون بصدق المحّدث او كذبه من طبيعة كلامه وسياق حديثه, بل اتفق العلماء والفلاسفة قولا واحدا على ان الانسان يستحيل عليه ان يدرك ذات الاشياء الموجودة في الكون وحقيقتها , وان كل ما يعرفه عن أي شئ صغير وحقير هو صفاته وظواهره كل ذلك وغيره كثير ايمان بما لم تنله يد التجربة ولا يصل اليه الحس.
وبعد فان الكون يزخر بالحقائق الخفية التي لا ترى بالعين ذات الطاقة المحدودة , وما من عاقل على وجه الارض الا يؤمن بالعديد من هذه الحقائق , ويرى الايمان بها من الضرورات  الاولية التي لا مفر لأحد منها على الاطلاق .
واذن فبالأولى ان يكون الايمان بالله ضروريا بعد ظهور آثاره في خلقه التي تعجز الاوهام والالسن عن وصفه .
وقال بعض الفلاسفة ” حد العقل ان ينتقل الانسان من معلوم الى مجهول , من شاهد الى غائب , من حاضر الى مستقبل لم يحضر بعد امام البصر, او الى ماض ذهب وانقضى ولم يعد مرئيا مشهودا .. فاذا لم يكن ذلك فلا عقل” (1).
ومعنى هذا ان من لا يؤمن بالله لا لشئ الا لأنه لم يره بالذات فلا عقل له , لأن مهمة العقل ان يرشدنا الى ما لا يمكن ادراكه بالحس والتجربة , وان يحذرنا مما تخبئه الايام , وينفعنا برؤيته وموعظته, والذكي الالمعي هو الذي يفهم من الاشارة ويدرك المغيبات من القرائن ويؤمن بها حتى كأنها مجسدة امام عينه وقديما قال الشاعر العربي:
الالمعي الذي يظن بك الظن   *********   كأن قد رأى وقد سمعا
خطأ التفسير الميكانيكي للكون:
واجاب المؤمنون على الاعتراض الثاني, وهو التفسير الميكانيكي والتولد الذاتي , اجابوا بأن المادة جامدة عمياء لا روح فيها ولا شعور , ولا وعي وادراك فكيف نظمت نفسها بنفسها , وقدّرت كل شئ في الكون تقديرا على سنن ثابتة ونواميس محكمة؟
وحاول الماديون او الكثير منهم حل هذه المشكلة بفرض ضروري عندهم حدسا وتخرصا , وهو انه – في بداية ذي بدأ وقبل ان يوجد الكون في وضعه الحالي – كان هناك اثير ساكن يملأ اطراف الفضاء ثم حدثت حركة قوية فجأة من باب الصدفة , واستمرت ملايين السنين , ومن هذه الحركة الدائبة وحتمية تطور المادة تالف هذا الكون الموجود الآن بأرضه وسمائه وجماله وبهائه ,وتخطيطه ونظامه وترتيبه وانسجامه.
وتساءل المؤمنون بالله : من اين جاء العلم بوجود هذا الاثير الذي سبق الكون مع القطع واليقين بأنه لم يقع تحت الحس ولا دلت عليه الآثار والقرائن ؟
ولو سلمنا جدلا بوجوده فمن الذي اوجده؟ ثم من الذي حركه؟ وهل الصدفة والحركة العشوائية الهوجاء تنتج هذا النظام البديع الشامل لأفلاكه وكواكبه وذراته ومجراته؟
واذا وجد الكون بما فيه من باب الصدفة فلماذا لا يكون الزعم صادرا عن زاعمه صدفة وعن غير قصد وكذلك قفز الى القمر ووجود القرى والمدن والمصانع , وجميع المخترعات , والاسفار والاشعار, كل ذلك وما اليه ما كان ويكون من باب الاتفاق والصدفة !..  وكيف ننسب الكون ونظامه العجيب الى الصدفة ولا نترك لها نحن اتفه الامور؟
وهل يقبل العاقل الخبير العليم ان عقله وشعوره تولدا من مادة لا عقل لها ولا شعور وان سمعه وبصره اوجدهما ما لا يسمع ولا يبصر وايضا هل يقبل عقل العاقل ان بصمات الاصابع والملامح الوجوه وروائح الاجسام قد اختلفت بين الملايين من ابناء البشر هل يقبل العقل ان كل ذلك حدث لمجرد الصدفة ؟
القرد واشعار شكسبير:
واستدل متفلسف من القرن العشرين على صحة قانون الصدفة – بأنه لو فرضنا ان عددا من القرود ضربوا اجيالا طويلة على الآلات كاتبة لوجدنا بين ما خطّته كل اشعار شكسبير ,وهكذا حدث نظام الكون بعد الحركة العشوائية التي طرأت على الاثير.
ونقول في رده:
 ان هذا الفرض ليس ضروريا بل الى الفة العقل ان لا نجد في خطوط القرود عينا ولا اثرا لأشعار شكسبير ..ولو سلمنا جدلا بهذا الفرض لوجدنا الى جانب اشعار شكسبير ملايين الخطوط بلا هدى ومعنى مع العلم بأن ما من شئ في هذا الكون الكبير العظيم الا بتقدير محكم, ونظام مستمر بحيث لو زحزح عنه لأنفرط عقد الكون وتناثر .
وتسأل: اذا كان الله اوجد الكون فمن الذي اوجد الله سبحانه؟
الجواب:
ان الكون المستمر التغير والتطور لا بد وان ينتهي الى علة اولية قائمة بذاتها لأن تسلسل العلل الى غير نهاية يرفضه العقل ولا يألفه, ولو احتاج كل شئ في وجوده الى علة لاستحال ان يوجد شئ على الاطلاق. وبقي العالم طي العدم والكتمان ..
وبكلام آخر كل مالا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده لا بد ان ينتهي الى موجود يحمل في طبيعته سببا كافيا وافيا لوجوده.
وبهذا يتبين معنا مكان الخطأ في قول من قال يستحيل ان يوجد شئ من لا شئ .. اذا اعتبرنا هذا القول اصلا طبيعيا وقانونا حتميا يطرد في كل شئ بلا استثناء , اذ يلزم والحال هذه ان لا يوجد شئ من الاساس مهما كان ويكون حتى هذا القول وقائله.
وبقصد التوضيح نضرب مثلا بالاختراعات :
فكل اختراع من اي نوع كان لا بد ان ينتهي الى مخترع اول ابدعه من افكاره بالذات, ولم يأخذه من غيره, ولو افترض انه لا مخترع اول وجب ان لا يوجد اختراع على الاطلاق ..
مثال ثاني: كل ما كان دليلا على غيره لا بد ان يكون من الاوليات الضرورية المسلمات البديهية, ويستدل به ولا يستدل عليه, او ينتهي الى دليل كذلك, ولو احتاج كل دليل الى دليل ما كان لفكرة الاستدلال عين ولا اثر.
سؤال ثاني:
اجل , لا بد ان نفترض وجود علة قائمة بذاتها غير معلولة لغيرها, ولكن لماذا لا نفترض ان المادة هي واجبة الوجود, وانها تحمل في طبيعتها السبب الكافي لوجودها ؟
وسبق الجواب عن ذلك ( في خطأ التفسير الميكانيكي للكون ) وان المادة الجامدة العمياء يستحيل ان تنظم نفسها , وان القوانين والمقادير لا توجد بلا خالق قادر وعالم وحكيم وايضا تقدم قول فولتير” ان وجود الله فرض ضروري, لأن الفكرة المضادة حماقات “
وتجدر الأشارة الى ان بعض المؤمنين قالوا: لا فرق بيننا وبين الماديين ,لأن كل منا يؤمن بفكرة واجب الوجود سوى اننا نسميه الله وهم يسمونه الطبيعة !!
وذهلوا عن ان التفسير الميكانيكي للكون معناه ان المادة هي الموجود الوحيد , وان لا شئ وراءها اطلاقا . وهذا انكار لله الذي ليس كمثله في ذاته وصفاته.
المصدر: كتاب شبهات الملحدين/ الشيخ محمد جواد مغنية
المصادر

1)  كتاب تجديد الفكر العربي د. زكي نجيب الفصل السابع .