لم يكن ديننا الإسلامى يوما دين اعتداء على الآخرين، أو إكراههم على اعتناقه، فمن آياته {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَى…}، ومنها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ…}، ومنها:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…}، وربما أشكل على كثير الناس الجمع بين هذه الآيات وآيات أخرى ذكر فيه القتال والتى تسمى بآيات السيف، وما حدث من فتوحات إسلامية سبقت بمعارك قتالية بين المسلمين وغيرهم فى عهد رسولنا وبقيادته لبعضها، وبقيادة الصحابة من بعده ومن تبعهم من قادة الفتوحات الإسلاميّة، فيختلط عليهم الأمر، وحقيقة الأمر أنه لا تعارض على الإطلاق، فالأصل فى الإسلام السلام والتعايش مع المسالمين والاستثناء هو القتال.

والباحث فى خلفيات الغزوات التى خاضها المسلمون وأسبابها يوقن بأنه لم تكن لإرغام الناس على اعتناق دين الإسلام، وإنما كانت للدفاع عن المسلمين وأوطانهم ورد المعتدين الرافضين للعيش فى سلام مع المسلمين، ولو تأملت آيات القتال لوجدتها جميعا فى مجال رد الاعتداء، فالجهاد فى إسلامنا جهاد دفاعى، وهذا حق حتى فى الدساتير والقوانين الوضعية التى هى من وضع البشر، ولذا فإن هذه الغزوات وما نتج عنها من فتوحات مضبوطة بقواعد صارمة وخطوات لازمة يجب تنفيذها قبل خوض أى قتال، حيث يجب أن يكون التعامل مع المعادين للمسلمين والمتربصين بهم، بالدعوة للدخول فى الإسلام، فإن رفضوه فالدعوة إلى التعايش السلمى فى ظل العهد والأمان مع بقائهم على دينهم الذى يدينون به، فإن رفضوا هذا وذلك لم يبق إلا القتال، فإذا نشب القتال فهو مضبوط بضوابط صارمة، فلا تعرُّض لعابد فى معبد أو كنيسة، ولا تعرُّض لامرأة ولا شيخ كبير ولا طفل، ولا قطع لشجر ولا هدم لحجر ولا ذبح لحيوان ما لم يكن لطعام، ولذا تجد أن الغزوات مع ما فيها من قتال حافلة بأخلاقيات الفاتحين التى يجب أن تكون مضربا للمثل بدلا عن أخلاقيات الفرسان التى درج الناس على استخدامها فى المواقف النبيلة.

فأخلاقيات الفاتحين من المسلمين لا تجد مثيلا لها فى تاريخ البشر، ولعل السطور الآتية تصحح الصورة السلبية التى رسمتها تجاوزات بعض قادة المسلمين فى عصرنا الحديث ببعدهم عن المنهج الصحيح الذى رسمه ديننا الحنيف، فكلنا يعلم أن رسولنا فتح «خيبرا» ولم يهدم دار عبادة فيها، وأنه فتح مكة التى طردته وأصحابه ونكلت بهم وصبت عليهم صنوفا من العذاب والإيذاء مما اضطرهم للخروج إلى المدينة تاركين أموالهم ووطنهم وبعض أهلهم، فلم ينتقم من أحد ولم يُعاقب أحدا، وبدلا عن ذلك قال لهم – صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ونعلم رفقه وتلطفه مع غير المسلمين ومنه استقبال الوفود – وهى على غير الإسلام – ومنهم وفد نصارى نجران الذين استقبلهم فى مسجده، وأن عمر بن الخطاب رفض الصلاة فى كنيسة القيامة حين فتح القدس خوفا من اعتبار المسلمين فى العصور بعده هذا العمل تحويلا لها من كنيسة إلى مسجد فيطالبون بها، وهكذا فتح قادة المسلمين الذين تربوا فى مدرسة رسولنا وترسخت فى أذهانهم ثقافة الجهاد الصحيحة بضوابطه الشرعية العديد من البلاد شرقا وغربا فما مالوا عن النهج الصحيح قيد أنملة، فما هدموا معبدا ولا كنيسة ولا تعرضوا لآثار تحفظ تاريخ أمة رغم أن الآخرين فعلوا وأهانوا مقدسات المسلمين وحولوا المساجد إلى كنائس ومراقص وغيرها.

ونعلم أن سيدنا عمرو بن العاص فتح مصر وفيها الأهرامات وأبو الهول والعديد من المعابد الفرعونية بتماثيلها فما تعرض لشىء منها وهى قائمة إلى يومنا، وفيها العديد من الكنائس فلم يهدم أو يحول واحدة منها، بل أعاد بنيامين الذى ظل مختبئا ثلاث عشرة سنة نتيجة ظلم هرقل إلى الكنيسة وجعله مسؤولا عن شأن المسيحيين تنفيذا لوصية رسولنا – الأكرم – بقبط مصر «الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم فيكونون لكم عدة وأعوانا فى سبيل الله»، «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما»، ومن قبل وصايا رسولنا الخاصة بقبط مصر خاصة توجيه ربنا فى كتابه بالبر بأهل الكتاب بصفة عامة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.

وبتتبع نصوص القرآن والسنة بشأن معاملة أهل البلاد المفتوحة المخالفين فى الدين يطول به المقام بما لا يحتمله مقال، ولكن ليتدبر الناس ممن يسيئون إلى ديننا بسلوكهم، وأولئك الذين يحملونه ما يأخذونه على بعض الفاتحين دون تثبت ودراسة أسباب المعارك التى خاضوها للوقف على كونها تحتوى على تجاوزات شرعية أو أنها كانت وفق أعراف سائدة وقتها، فإن ثبت أنها انطوت على تجاوزات فلا مانع من نقدها وبيان ما بها من خلل، فتعاليم إسلامنا توجب إصلاح الخلل إن وقع، وقد حدث هذا بالفعل فى واقعة تدل دلالة واضحة على رقى المسلمين ولا مثيل لها فى تاريخ المعارك القتالية على الإطلاق، فالقائد قتيبة بن مسلم الباهلى حين كان على مشارف سمرقند رأى أن جيشها أكبر بكثير من قدرة جيش المسلمين على تحقيق نصر عليهم إن سلك الخطوات المعتادة فى الفتوحات، حيث قدر أنهم سيعتمدون على قوة جيشهم ويدخلون فى قتال مباشر ليس فى مصلحة المسلمين، فباغتهم دون إنذار .

واستولى على سمرقند بفضل هذا الهجوم المباغت، وبعد سيطرة تامة عليها وتحولها إلى ولاية إسلامية شرع فى التعامل مع ما بعدها من المعادين للمسلمين انطلاقا من سمرقند، فرفع رهبانها الأمر إلى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذى أمر والى سمرقند بتنصيب قاض يحكم فى شكوى أهل سمرقند،  وحين تأكد القاضى أن فتح سمرقند لم يتم وفق المنهج الذى حدده رسولنا، حيث قاتلهم بغتة قبل أن يعرض عليهم الإسلام ثم السلام، قضى القاضى: جُميع بن حاضر الباجى بخروج المسلمين من سمرقند على الفور وتسليمها لأهلها لبطلان إجراءات الفتح.

ولم يقبل تبرير هجوم قتيبة دون إنذار بأن الحرب خدعة وأنه لم يكن بالإمكان فتحها إلا بهذه الطريقة، وكان القاضى من أول المنفذين لهذا الحكم فخرج وخرج الجيش ليعيد الإجراءات وفق الضوابط الشرعية، فلما رأى أهل سمرقند عدالة المسلمين وإنصافهم قالوا: إنه الدين الحق ودخل كثير منهم الإسلام. وهذا النذر اليسير الذى اتسع المجال له من أخلاقيات الفاتحين فى الإسلام يجب إظهاره ليقاس عليه كل أمر مختلف فيه من سلوكيات فردية لبعض المسلمين لاسيما فى عصرنا الحديث، بدلا عن وصف الفتوحات الإسلاميّة من قبل من قل حظهم من إدراك الحقائق بالعزو والاحتلال وهى جناية فى حق إسلامنا وطمس لأخلاقيات الفاتحين، فوجب الفصل بين الفتح المنضبط بضوابط الشرع وبين التجاوزات الفردية للبعض، فاتقوا الله فى دينكم وشريعته وتاريخ الفاتحين وأخلاقياتهم التى نباهى بها بين العالمين!.