وبعد، فلقد كثر في هذه الأيام القيل والقال وكثرة السؤال، بعد انتشار بعض الشائعات هنا وهناك، تدعو إلى تأجيل شهر رمضان هذا العام، بسبب وباء كورونا، بشبهة أن الامتناع عن الشراب وتناول السوائل يؤدي إلى الإصابة بفيروس كورونا بسبب انتشاف الحلق، بالإضافة إلى أن التوقف عن الطعام طول نهار رمضان، يضعف المناعة. هكذا يزعمون وبئس القول زعم، ثم ماذا يقصدون بتأجيل شهر رمضان؟، هل يقصدون به نقل الشهر بكامله بما فيه من خير وبركة وفضل ونعمة وعلم ورحمة، من صيام وقيام وتراويح وتلاوة القرءان الكريم، وذكر الله عز وجل، والدعاء وليلة القدر، وغير ذلك إلى شهر آخر، فهذا هو النسيْء بعينه، الذي كان عليه المشركون في الجاهلية قبل الإسلام، وقد أبطله الإسلام وحرمه تحريما باتا، وحسم القول فيه، حين قال ربنا سبحانه وتعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ…، فكانوا يحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، فيؤجلون شهر المحرم إلى شهر صفر، اتباعا لأهوائهم الضالة، وتلبية لرغباتهم الفاسدة، فكذلك هؤلاء اليوم، يتخيلون أن شهر رمضان، ما هو إلا موسم كغيره من المواسم الدنيوية، يمكن تأجليه، وإن كانوا يقصدون بتأجيله، تأخير الصيام فيه إلى وقت آخر حتى تنتهي محنة كورونا، فهذا أيضا لا يجوز إلا لمن له عذر مقبول شرعا، يبيح له الفطر في نهار رمضان، كالمريض الذي لا يقدر على الصيام، أو يشق عليه، ومهما يكن من أمر، فإن فكرة تأجيل شهر رمضان، أو تأخير صيامه لعموم الناس بشبهة واهية، وحجة داحضة، هي فكرة خاطئة ومرفوضة، جملة وتفصيلا، ولا أساس لها من الصحة، لا من الناحية الدينية والشرعية، ولا من الناحية العلمية والطبية. فقد أثبتت الدراسات العلمية الطبية المستفيضة الدقيقة، المنشورة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المعتبرة، وحتى عبر مواقع التواصل الاجتماعية، وعلى شبكة الانترنيت، وأكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن الصيام يقوي جهاز المناعة عند الصائمين، ويقاوم كل فيروس بعون الله وقوته وقدرته، وأنه لا علاقة إطلاقا لكورونا بالصيام، وأن الصيام كما هو معلوم، علاج ناجع، ودواء نافع، لكثير من الأمراض المستعصية، وذلك بشهادة الأطباء في العالم، من المسلمين وغير المسلمين. ومن الناحية الدينية والشرعية، فقد صدرت لحد الآن، فتاوى عدة من علماء المسلمين،

ترد على هذه الشائعات، وتدحض هذه الشبهة من أساسها. وأن الصيام يبقى على ماهو عليه، كما فرضه الله تعالى، منذ أربعة عشر قرنا وأربعين عاما، وبناء على هذه المعطيات العلمية الدقيقة، والفتاوى الشرعية العميقة، أقول للمسلمين: ليس هناك أي مسوّغ ديني شرعي، أو مبرر علمي طبي، يسمح للمسلمين أن يفطروا في شهر رمضان من هذا العام، بشبهة أنهم يخشون على أنفسهم من وباء كورونا، فالأحكام الشرعية لا تبنى على الشكوك والأوهام؛ وأن الأصل، عدم وجود مانع يمنع من الصيام، حتى يثبت المانع بدليل قطعي، مثل الحيض والنفاس. وأن الصيام كما معلوم لدى الخاص والعام واجب فردي، بين العبد وربه، وليس فيه أي ضرر على أحد، ولايستلزم الاجتماع أو الاختلاط بخلاف الصلاة، في الجمعة والجماعة، والحج والعمرة. وأنه مع هذا وذاك، هو فرض عين على كل مكلف، قادر صحيح مقيم قادر على الصيام، غير عاجز عنه، كالشيخ الكبير الفاني، والمرأة العجوز الفانية، صحيح غير مريض، مقيم غير مسافر، وأن الذين رخص لهم دين الإسلام في الإفطار معروفون، ومن بينهم المريض، فإذا أصيب المسلم لا قدر الله بوباء كورونا، فله الحق أن يفطر في رمضان؛ ولكن بعد استشارة الطبيب، ولا يعقل أبدا أن يترك المسلمون ركنا من أركان الإ سلام، ودعامة من دعائم الإيمان، ودرجة رفيعة من درجات الإحسان، لمجرد الإشاعات والأوهام، فهذا ضلال مبين، وخروج عن صراط الله المستقيم، فلا ينبغي للمسلمين أن يصدقوا الشائعات، فضلا عن أن يقوموا بنشرها، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)، وفي رواية ( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)، فكيف بمن يحدث بالإشاعات والأراجيف، وينشرها بين الناس، وربما يدخل هذا في الحروب النفسية، والحروب الإعلامية، لإيقاع الفتنة بين المسلمين في شهر الصيام.

في السنوات الماضية كان المسلمون يختلفون في بداية الصيام ونهايته، وهذه السنة انتقل الخلاف والعياذ بالله إلى الصيام نفسه، هل سيصومون هذه السنة أم لا!، وهذه هي الفتنة الكبرى، وللأسف الشديد، أن هناك جهة ما، تصنع الشائعات، وتصوغها بذكاء خارق، بأسلوب خدّاع، ثم يأتي المسلمون فيتطوعون لنقلها ونشرها بين الناس مجانا، وبدون مقابل، وكأن هؤلاء لم يسمعوا قط قول الله تعالى في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً. ولا تقف، يعني لا تتبع ماليس لك به علم، ما لم تتأكد من صحته وصلاحيته مئة في المئة، فلا تقله ولا تنقله.

ثم لاننسى أن القرءان الكريم جاء بمبدأ عظيم لتلقي الأخبار، ألا وهو قوله تعالى في سورة الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا…، فالمسلم العاقل الحذر الفطن، يجب عليه أولا قبل أن ينقل الخبر، أن يتثبت من المصدر، الذي أذاع الخبر، ومن الجهة التي أوردت الخبر، هل هي جهة موثوق بها أم لا؟؛ وهل الشخص الذي نقل الخبر، هو إنسان تقي نقي يخشى الله في السر والعلانية أم لا؟؛ وعلى كل حال، فلا ينبغي للمسلمين أن يصدقوا الشائعات، وينقلوا الأخبار بدون تثبت، ويقبلوا كل خبر من أي جهة صدر، بدون حجة ولا برهان.

والله ثم والله، ما خرب بيوت المسلمين، ومزق أسرهم، وأحدث الفتن بين الناس، وأفسد العلاقة الحميمة بين الأقارب والأصدقاء والأحباب، إلا الإشاعات الكاذبة المغرضة، والأراجيف الباطلة المدمرة، فلنتق الله تعالى، فلا نقول إلا خيرا، ولا ننشر إلا خيرا، فإن الأمر دين لاهزل فيه. فنعوذ بالله من شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، فاللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتبه الطاهر التجكاني

رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة