د. هيثم طلعت

أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعجائب الأمور ومغيبات الأحداث والأحوال فوقعت كما أخبر.

وكانت هذه الشواهد دليلاً على صدق صاحب الرسالة والتأييد الإلهي!

فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أم حرام بنت ملحان أن أُناسًا من أمته سيركبون البحر غزاةً في سبيل الله، وستكون هي أول الشهداء في غزاة البحر وقد كان كما أخبر –صلى الله عليه وسلم-. -1-

حيث ركبت البحر في خلافة عثمان بن عفان وماتت شهيدةً ودفنت هناك، وجامع أم حرام في قبرص معروفٌ إلى اليوم! -2-

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أننا سنقاتل الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجال المطرقة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وهؤلاء الطوائف كلها قاتلهم المسلمون وهؤلاء هم التتار وهذه هي صفتهم.” -3-

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- بحدوث الردة، مع أن هذا كان مستبعدًا تمامًا في عصره، وكان الناس يأتون للدين أفواجًا وتُسلخ ظهورهم لتركه فما يزيدهم هذا إلا تمسكًا وقد كان. -4-

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهادة عمرَ وعثمانَ وعلي وطلحة والزبير -رضي الله عنهم أجمعين-، وأنهم لن يموتوا على فُرُشِهم أو سواه مما يموت به الناس.

فقد صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حراء ذات يوم هو وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليُ وطلحةُ والزبيرُ، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اهدأ، فما عليك إلا نبيٌ أو صديقٌ أو شهيد.” -5-

فشهد -صلى الله عليه وسلم- لنفسه بالنبوة، ولأبي بكرٍ بالصديقية، ولعثمانَ وعليَ وطلحةَ بالشهادة  وقد كان.

وذات يومٍ مرِض علي -رضي الله عنه- مرضاً شديداً، فزاره أبو سنان الدؤلي، فقال له: لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه.
فقال له علي: لكني والله ما تخوفتُ على نفسي منه، لأني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الصادقَ المصدوقَ يقول: “إنك ستُضرب ضربةً ها هنا، وضربةً ها هنا – وأشار إلى صُدغَيه – فيسيل دمها حتى تختضب لحيتُك، ويكونَ صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود.” وهذا الذي كان مع علي –رضي الله عنه-. -6-

وتقبل فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- تمشي، فيقول لها أبوها: “مرحباً بابنتي”، تقول أم المؤمنين عائشة: ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسرَّ إليهاً حديثاً، فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكتْ.

فقلت لها: ما رأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتُها عما قال؟ فقالت: ما كنت لأُفشي سِرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فلما قُبِض النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سألتُها، فقالت: “أسرَّ إليّ: إن جبريل كان يعارضني القرآن كلَ سنةٍ مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أولُ أهلِ بيتي لحاقًا بي، فبكيتُ، فقال صلى الله عليه وسلم: أما ترضَينَ أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساءِ المؤمنين، فضحكتُ لذلك.” -7-

ومن هؤلاء الذين تحدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وفاتهم، سِبطُه الحسين بن علي ريحانة أهل الجنة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لإحدى أزواجه: “لقد دخل عليّ البيت ملَك لم يدخل عليَّ قبلًها فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتُك من تربة الأرض التي يقتل بها. قال: فأخرج تربةً حمراء”. -8-

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- بموت النجاشي في أرض الحبشة في يوم وفاته، وهذا خبرٌ تحمله الركبان يومذاك في شهرٍ، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: “نعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى، فصفّ بهم، وكبر أربعاً.ً” -9-

وفي اليوم السابق ليوم بدرٍ، تفقد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أرض المعركة المرتقبة، وجعل يشير إلى مواضع مقتل المشركين فيها، ويقول: “هذا مصرع فلان”.

قال أنس: ويضع يده على الأرض هاهنا هاهنا. فما ماطَ أحدهم عن موضع يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. -10-

ومن عجيب ما جرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن سوء خاتمة رجلٍ قاتل مع المسلمين فأحسن البلاء والجلاد، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- : شهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لرجلٍ ممن يدعي الإسلام: “هذا من أهل النار”.
يقول أبو هريرة: فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الذي قلتَ له: إنه من أهل النار؛ فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً، وقد مات!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إلى النار”.

قال أبو هريرة: فكاد بعض الناس أن يرتاب. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحًا شديداً.
فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه، فأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: “الله أكبر، أشهد أني عبدُ الله ورسولُه”، ثم أمر بلالاً فنادى بالناس: “إنه لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجلِ الفاجر”. -11-

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- بمقتل أحد المتنبئين الكذبة على يد رجلٍ صالح!

وأصل القصة في البخاري. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “قتَل الأسود العنسي الليلة رجلٌ صالحٌ من قومٍ صالحين.”

وبالفعل ففي تلك الليلة هلك الأسود العنسي على يد فيروز الديلمي باليمن.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر بقاء أمة الروم فقال: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس.” -12-

والروم –الشعب المعروف وما يلحق به من نصارى- هم اليوم أكثر الناس. -13-

وأنت لو تدّبرت الأحاديث الصحاح التي جائت فيها أخبار آياته ومعجزاته –صلى الله عليه وسلم- لوجدت أن منها متواترًا لا يرق إليه شك رجلٍ باحثٍ عالمٍ في معنى نقل الحديث! -14-

فمثلاً حديث حنين جذع النخلة شوقًا إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وسماع الصحابة بكاؤه وأنينه حتى ضمّه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسكت. فهو حديثٌ متواتر شهده الصحابة الكثر، وأخبر به كما في الصحاح عشرة صحابة مختلفين إلى مئات التابعين فهو في أعلى درجات الصحة. -15-

وحديث لجوء الجمل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه تعذيب صاحبه له وعيناه تدمعان حديثٌ متواتر نقله جماعة من الصحابة إلى مئات التابعين. -16-

أما معجزة انشقاق القمر فهي أيضًا من المتواتر، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة القمر في المجامع الكبار كالجُمع والأعياد ليُسمع الناس ما فيها من معجزاته -صلى الله عليه وسلم- وكان يستدل بها على صدق نبوته.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه -عليه الصلاة والسلام- ، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.” -17-

وحديث نبع الماء بين أصابعه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- هو أيضًا من المتواتر الذي شهده جمعٌ كبيرٌ من الصحابة ونقلوه إلى مئات وآلاف التابعين، فقد توضأ ألف وخمسمائة صحابي وشربوا من الماء الذي نبع بين أصابعه الشريفة -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا لو كنا مائة ألفٍ لكفانا. -18-

وقد روى الحديث جمعٌ غفيرٌ ممن يُحرمون الكذب ويرونه فاحشة فكيف يجتمعون على الكذب في خبرٍ كهذا؟

قال رحمت الله الهندي رحمه الله: ” نبع الماء من بين أصابع النبي -صلى اللّه عليه وسلم- في مواطن متعددة، وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى -عليه السلام-، فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة، وأما من لحمٍ ودم فلم يعهد من غيره -صلى اللّه عليه وسلم-‏.‏” -19-

أما تكثير الطعام اليسير ليطعم منه الجيش العظيم فقد جائت به الأخبار المتواترة عن الصحابة فمَن بعدهم. وقد ذكر البخاري وحده هذه الأخبار في خمسة مواضع من صحيحه. -20-

وتسليم الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم- وتسبيح الطعام بين يديه وارتجاف الجبل مهابةً له، هي أخبارٌ رواها الشيخان واتفقوا على صحتها. -21-

فكل هذه الأحاديث من المتواتر الذي يُشَك في عقل مكذبه، ويتهم منكره. فما أعلى وثوقية النقل وما أعظم المعجزات التي تقطع بأن نبوته -صلى الله عليه وسلم- على أعلى درجات النبوة.

فالذي يجزم أن عيسى  جاء من عند الله أو أن موسى كان نبيًا ثم يكفر بنبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لهو أكذب الخلق!

فأدلة نبوته -صلى الله عليه وسلم- مما تعجز عن جمعه القراطيس وفي كل زمانٍ تنفتح للعلماء أدلة جديدة تُنير دروب المتبّصرين!

 

—————————

1- متفق عليه. البخاري (2636) ومسلم (1912).

2- أعلام النساء، عمر رضا كحالة، أم حَرَام بنت مُلحان.

3- الجواب الصحيح 2-81.

4- رواه مسلم (114).

5- رواه مسلم ح 2417.

6- رواه الحاكم (3/122)، والطبراني في الكبير ح (173). قال الهيثمي: إسناده حسن.

7- متفق عليه: البخاري (3624)، ومسلم (2450).

8- السلسلة الصحيحة 882

9- رواه البخاري (1254).

10- رواه مسلم (1779).

11- رواه البخاري (3602).

12- رواه مسلم (2898).

13- أمة الروم هي أكثر أمم الأرض، بعدد تقريبي 2.2 مليار نسمة، ثم المسلمون بعدد تقريبي 1.6 مليار نسمة.

http://en.wikipedia.org/wiki/List_of_religious_populations

14- شروط التواتر التي تتفق العقول على أنها توجب علمًا ضروريًا هي :
أ- عددٌ كثير أحالت العادة تواطؤَهم، أو توافُقَهم، على الكذب.
ب- رووا ذلك عن مثلهم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ.
ج- وكان مُسْتَنَدُ انْتِهائِهم الحِسَّ.
ومتى تحققت الشروط الثلاثة تحقق التواتر ولزم منه علم ضروري لا مجال لإنكاره أو لتكذيبه. وهذه شروط عقلية يقتضيها التقصي العقلي للخبر!

15- الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، ص306.

16- رواه مسلم (342)، وأبو داوود (2549)، وأحمد (1745)، والحاكم(2-109).

17- انظر البداية والنهاية 3/118.

18- فتح الباري (1/540).

19- إظهار الحق، رحمت الله الهندي، ص31.

20- البخاري (1217)، البخاري (2618)، البخاري (3578)، البخاري (4101)، البخاري (6452). وكلها أحداث ووقائع مختلفة متباينة وهذا في البخاري وحده!

21- يقول عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: “لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.” أي بين يدي النبي –صلى الله عليه وسلم-. البخاري (3579).