د. هيثم طلعت

الذي يظن أن إقناعًا لعقول الناس تم بالسيف، أو أن ترك هؤلاء الناس لدينهم كان رغبةً فقط أو رهبةً من أمرٍ دنيوي، هو واهمٌ جاهل.

فأي أمةٍ هذه التي تركت ما ينعقد عليه قلبها –دينها- من أجل خوفٍ طاريء؟

وأي جيلٍ هذا الذي يستسلم عن بكرة أبيه ويتحول إلى عاملٍ مخلصٍ في خدمة دينٍ جديد لمجرد تلويحٍ بسيفٍ؟

إن هذه الفروض التي يطرحها الملحدة الجدد لتبرير تحوّل حضارات الأرض في ظرف جيلٍ واحد –جيل الصحابة- إلى الإسلام، وذوبان عقائد الكفر من القلوب بشواهد الحق لهي فروضٌ تسيء لأصحابها أكثر مما تحفظ لهم كفرهم!

وقد آمن بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة وأهل المدينة وأهل البحرين وأهل اليمن ولم يعط واحدًا منهم درهمًا، ولا كان معه ما يخيفهم.

 

وقد أسلم الجلندي ملك عمان زمن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا خوفًا من سيفٍ ولا حبًا في رياسة. بل كان إسلامه لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالخير ويفعله، وينهى عن الباطل ويجتنبه؛ قال الجلندي: “لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخيرٍ إلا كان أول آخذٍ به، ولا ينه عن شر إلا كان أول تاركٍ له… وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد وأشهد أنه نبي.” -1-

 

وأسلم النجاشي ملك الحبشة حين سمع جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- يتلو شيئًا من سورة مريم. فقال: “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة”؛ ثم بكى حتى اخضلت لحيته!

-2-

 

أما باذان عامِل كسرى على اليمن فقد أسلم بعد أن شهد معجزةً حيةً لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر رُسل باذان بهلاك كسرى بعد أن مزّق رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولم يصدقا فعادا إلى باذان، وانتظر باذان الخبر من بلاد الفرس، فجاء الخبر بعد شهورٍ بمقتل كسرى في تلك الليلة التي حددها النبي –صلى الله عليه وسلم -، فأسلم باذان، وأسلمت حكومته، وأسلم أهل اليمن بإسلامهم، وجاء وفدٌ من أهل اليمن يتعلمون الإسلام وهم الذين أرسل فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل. -3-

 

فالذي يظن أن سيفًا رُفع لإسلام تلك الأمم فقد أبعد النُّجعة، بل ما رُفِع السيف أولاً إلا في وجه الإسلام. ولم يكن ينشغل المكذبون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيءٍ إلا للتخطيط لهدم الدعوة وقتل قائدها صلى الله عليه وسلم بأي ثمنٍ.

فقد حوربت الدعوة منذ اللحظة الأولى بالسيف تارةً وبالمكر تارات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم من شأن الأنبياء قبله أن كثيرًا منهم قد قُتل. فلم يرده ذلك ولم يجعله يجزع بل صبر وصابر ودعا وأصلح وهادن ورفق بهم ودعا لهم.

وقد أقام بقلةٍ قليلةٍ من أصحابه طيلة ثلاثة عشر عامًا بين قومٍ يريدون استئصال شأفته هو أتباعه.

فقد جائهم بدينٍ يخالف فيه عهدهم ويسفه أحلامهم. وكان يقرأ في مجامعهم القرآن وفيه عيبهم وعيب آلهتهم.

وكان يخرج إلى المواسم ويقوم في المحافل ويبرز إلى القبائل يدعو لتوحيد النبيين من قبله ويحذر من الشرك وأهله، كل هذا وقريش ترصده وتتبعه برجالاتها ودهاتها. ويصدون الناس عن دعوته بل ويأمرون الحجيج  أن يضعوا الكرسف –القطن- في آذانهم حتى لا يسمعوا للقرآن وهو يتلوه لئلا يتأثر العرب به! -4-

وظلوا يمكرون به ويحاولون اغتياله المرة تلو المرة ويمكرون بصاحبته ويقتلونهم ويعذبون من آمن معه، وحبسوه في شعب أبي طالبٍ أربع سنواتٍ، وحاصروا داره وألقوا على كتفه القذر ومكروا به كل مكرٍ{وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} ﴿٤٦﴾ سورة إبراهيم.

وقد تضرع أهله إليه أن يلين لقومه من قريش، وأن يتوقف عن عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم فلا يزداد إلا إبطالاً للباطل وإحقاقًا للحق. -5-

 

وقد تلونت الأحوال عليه -صلى الله عليه وسلم- من غنىً وفقرٍ وسلمٍ وخوفٍ وأمنٍ وإقامةٍ وقتل أحبائه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بالحبس والتجويع والقهر والإغراء ومحاولة القتل، فهو في مجموع التعذيب والأذى لم يُعذب نبي ولم يؤذ نبيٌ مثل ما أوذي -صلى الله عليه وسلم-. -6-

 

وللمرء أن يتسائل: لماذا مع الترهيب الذي تعرض له في بداية دعوته لا يتوقف عن الدعوة؟

فضرَبه الصبيان في الطائف حتى أُدمي رأسه ورجله الشريفة، ودخل مكة في جوار مطعم بن عدي ثم رد جواره ، ورُمي أمعاء الجزور عليه ، وعانى وأتباعه الجوع والحصار لمدة ثلاث سنواتٍ في شعاب مكة حتى أنه كان يربط الحجرين على بطنه من شدة الجوع.

وقال صلى الله عليه وسلم -بأبي وأمي ونفسي- : ” لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم ، وما لي ولبَلال طعام يأكله ذو كبد ، إلا شيء يواريه إبط بلال. ” -7-

 

كل هذا يجري في الوقت الذي يعرض عليه الكفار الرياسة والمال، لا مقابل أن يتنازل عن دعوته، بل مقابل أن يتركهم وآلهتهم وألا يُسفه عقيدتهم!

لكن دعوته كانت وحيٌ يوحى ليست مِن قِبل نفسه حتى يتركها لأفضل العروض المتاحة!

 

فكان -صلى الله عليه وسلم- أمام كل هذه الفتن قويًا في الحق لا يخش لومة لائمٍ.

وظل طيلة حياته ثبتًا حين الكرب الشديد، لا يفر ولا يجزع. يقول علي بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- : “كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحُدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب من العدو منه، ولقد رأيتنا يوم بدرٍ ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا للعدو.” -8-

 

أما عبادته وذكره لربه على كل أحواله، وقيامه حتى تتفطر قدماه، ووصاله الصوم وتصدقه بكل ماله وإحسانه إلى أهل بيته وإلى جيرانه، وتفقد أحوال أصحابه؛ فهذا مما سارت بأحاديثه ومروياته الركبان.

فكيف يستقيم في عقلٍ زهده –صلى الله عليه وسلم- في الدنيا ؛ وتصور الملحدة أنه طلب الدنيا بالسيف!

 

وكان زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا زهد من ملكها وهي راغمةً لا زهد من عجز عنها.

فلم يشبع -صلى الله عليه وسلم- من خبز الشعير ثلاثة أيامٍ تباعًا حتى فارق الدنيا. -9-

وكان يمر الهلال والهلالان ولا يطعم سوى التمر والماء. -10-

ولم ينم -صلى الله عليه وسلم- على الفرش الناعمة؛ وقد دخل ابن مسعودٍ يومًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأثر الحصير بأحد جنبيه فبكى على حال محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

فقال: ما يبكيك يا عبد الله؟

قال: يا رسول الله كسرى وقيصر في الحرير والديباج. فقال -صلى الله عليه وسلم- : لا تبكِ يا عبد الله فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا ومثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ نزل تحت شجرةٍ وتركها. -11-

فقد كان صلى الله عليه وسلم ينام على جلدٍ حشوه الليف ومات ودرعه مرهونةٌ عند يهودي. -12-

فعندما يتهمه الملحدة بطلب الدنيا فاعلم أنهم لا يعرفون شيئًا عن سيرته. فكيف يرضى بالعيش الكدر وكانت الدنيا تحت يده ولم يمت إلا وجزيرة العرب تدين بالإسلام.

 

أما عن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بأمته؛ فانظر إلى رواية معاوية بن الحكم السُّلمي، حين يقول: بينا أنا أُصلِّي مع رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثُكل أُمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يُصمِّتونني، لكنِّي سكت.

فلمَّا صلَّى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضَرَبني ولا شتمني، قال: “إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنَّما هو التسبيحُ والتكبير، وقراءة القرآن”. -13-

 

وقد جذبه أعرابي من ثيابه جذبةً أثرت في صفحة عنقه -صلى الله عليه وسلم- وقال له: يا محمد مر لي من مال الله الذي عنده فإنه ليس مالك ولا مال أبيك.

فالتفت إليه -صلى الله عليه وسلم- وضحك وأمر له بالعطاء. -14-

 

فقد كان صلى الله عليه وسلم حكيمًا في معالجة الأمور.

دائم البِشر سهل الخلق سمح الوجه، يخزن لسانه لإحقاق الحق وإبطال الباطل، عظيم الكرم سخي الروح، فيجيب دعوة العبد ويأكل مع المجذوم ويحلب شاته ويخدم نفسه صلى الله عليه وسلم.

وقد أوتي -صلى الله عليه وسلم- من الحِكم البالغة والعلوم الكثيرة وعلّم التشريعات الشاملة الجامعة في كل صغيرةٍ وكبيرة في أمور الدنيا والدين وهو أمي من بيئةٍ أمية.

فبُعث -صلى الله عليه وسلم- بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع. -15-

 

وجاء القرآن لا على مقاسه هو ولا على مقاس بيئته ولا نزولاً على رغبات أصفيائه وصحابته، وإنما كان يأتي معاتبًا ومصححًا ومفسرًا ومعلمًا وهاديًا.

فالمدّعون من البشر والراغبون في العلو في الأرض يحاولون قدر الإمكان إخفاء عيوبهم لستر حقيقة أمرهم على الناس، أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فما أكثر الآيات التي تصحح وتعاتب على مواقفه -صلى الله عليه وسلم- مثل أول سورة عبس والتحريم والآيات في أسارى بدر.

أيضًا لو تبصّرت إلى حاجته الماسة -صلى الله عليه وسلم- لنزول الوحي في لحظاتٍ عصيبة ليقطع ألسنة المشركين والمشككين وإذا بالآيات تتأخر جدًا ولو كانت من عند نفسه لما تأخرت.

صلى الله عليه وسلم!

 

وفي الأخير: أخبر الله عز وجل بنصر نبيه، وأخبر بسيادة دينه وانتشاره، وديانات العرب قائمة وملوكهم على جزيرة العرب مستولية، وكانت ممالك الهند وكسرى والقسطنطينية مما لا يحلم العرب أن يروه فضلاً عن أن تنتشر كلمتهم فيه.

فركب جيله -صلى الله عليه وسلم- البحار وأخرجوا الروم من مصر والشام وأرض المغرب.

وكانت العرب قبلها بقليل تسخر حين تسمع أن هذا الرجل سينتصر ويبطل الباطل في شرق الأرض وغربها، وكانوا يعتبرون انتصاره من قبيل هدم الجبال الشم الرواسي بريشةٍ تطير. -16-

 

بل أخبر الله في كتابه أن نصر نبيه وانتشار دينه حقٌ قادم، وأن مَن ظن خلاف ذلك فليشنق نفسه ليهدأ غيظه {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} ﴿١٥﴾ سورة الحج.

فقد أخبرت الآيات أن نصره -صلى الله عليه وسلم- قادمٌ لا محالة، وهو ما وقع بتمامه!

————————

 

1- كما ورد بتفصيله في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، والشفا للقاضي عياض باب: فيما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات و شرفه به من الخصائص و الكرامات.

2- أخرجه الإمام أحمد 1/ 202 ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح.

3- البداية والنهاية، الجزء الثاني، ما آل إليه أمر الفرس باليمن

4- كما ورد في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، يُنظر: البيهقي في دلائل النبوة (2108).

5- الفقرة من وحي كتاب”رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، د. ثامر بن ناصر، مكتبة الرشد”.

6- م.س.

7- رواه الترمذي في سننه (2472).

8- رواه أحمد.

9- رواه البخاري (4955).

10- متفق عليه.

11- متفق عليه: أخرجه البخاري (4913)، ومسلم (1479). واللفظ من: الزهد لابن أبي عاصم (1/200).

12- متفق عليه: أخرجه البخاري) 2916)، ومسلم (1603).

13- رواه مسلم (841).

14- أخرجه النسائي ( 4776 ) وأبو داود (4775).

15- الفقرة من وحي كتاب”رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، د. ثامر بن ناصر، مكتبة الرشد”.

16- م.س.