الموقف الإسلامي المطلوب تجاه ظاهرة التنصير

الاستا/محمد السروتي

مسؤول الأنشطة العلمية بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أستاذ زائر بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور، المملكة المغربية.

لا شكَّ أنَّ الحديث عنِ الموقف من ظاهرة التَّنصير لا يُمكِنُ تناوله إلاَّ من خلال إطاره العام، المُتَجَسِّد أساسًا في نظرة الدين الإسلامي للآخر المسيحي خاصَّة، بدءًا منَ القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة ووصولاً لنماذج من نوازل فقهيَّة عالجتْ قضايا العَلاقات بين الطَّرفين في جوانب مختلفة جسّدت فيها المعالم السَّامية للتَّعامُل الإسلامي مع هذا الآخر في إطار المنظومة الإسلاميَّة، ويمكن التَّمثيل في هذا الصَّدد ببعض النَّوازل الفقهيَّة التي نافَحَتْ في الحِفاظ على المَوْرُوث المسيحي الذي يجده المسلمون في بلدٍ ما، ومنه رأيٌ أورده الونشريسي في “المعيار المعرب” نسبه إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن زكريا يقول فيه: “هدم الكنائس لا يَجوز بِمُقْتَضَى الشَّريعة المحمديَّة على رأي المُحقِّقين في الفقه المالكي… ولهذا يقول أبو الحسن اللخمي وابن القاسم: إنَّ القديم من الكنائس يُتْرَك ولا يُهْدَم”، وتعدَّدت هذه النَّماذج في كثيرٍ منَ المصادر النَّوازلية كـ “المعيار” للونشريسي، و”أحكام قضايا أهل الذمَّة” لأبي الأصبغ بن سهيل.

الغاية من هذه الإشارة التَّنبيه إلى أمر أساسٍ هو: أنَّ علاقة الإسلام بالنَّصرانيَّة علاقة مركَّبة، لا تنكر وجود عيسى – عليه السَّلام – ولا عُذْرِيَّة والدته ولا معجزاته، أو تلك التي أجراها الله له، ولا تعاليمه ولا قيمه؛ ولكنَّها في الوقت ذاته تنكر تأليهه والغُلُوَّ في تقديسه، وتنكر ما تسرَّب إلى ذلك الدين من عقائد وثنيَّة مُشْرِكة واضحة، ومعها مذاهب فلسفيَّة غامِضة، أصحبت تُهَدّد كيان الأمَّة، وتَعْصِف بها من خلال المَوْجَات التَّنصيريَّة التي أصبحت تشهدها مختلف الأقطار الإسلاميَّة… وباستحضار هذه العَلاقة يمكننا رَصْد المَوَاقف المُتَّخذة مِنْ ظاهرة التَّنصير؛ وذلك باعتبارها أساسًا جهدًا كنسيًّا يقوم به الدُّعاة النَّصارى لإدْخال الشُّعوب في الديانة النَّصرانيَّة. وعليه؛ يمكن تصنيف المواقف من ظاهرة التَّنصير إلى ثلاثة مواقف أساسيَّة هي:

موقف تهويني: من هذه الظَّاهرة اعتمادًا على مبشّرات قرآنيَّة، وسُنَن تاريخيَّة وواقعيَّة، فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ومن التَّاريخ يقول أنور الجندي في كتابه “الإسلام وحركة التاريخ”: “من أبرز سنن التاريخ الإسلامي القدرة على الخروج من دائرة الضَّعف والتَّخلف، بالتِماس جوهر القيم الأساسيَّة”. ومنَ الواقع يقول محمد الغزالي: “منَ الصُّعوبة بمكانٍ أن يرتدَّ مسلم عنِ الإسلام إلى النَّصرانيَّة كما أنَّه منَ الصُّعوبة بمكان أن يرتدَّ طالب جامعي إلى التَّعليم الابتدائي، أو يتحوَّل عالم ذرَّة إلى العمل بمعبد هندوكي… إنَّ المُستوى الذي يبلغه المسلم في مجال العقيدة ومعرفة الله، يتجاوز بمراحل شاسِعة المستوى الديني الذي يقف عنده اليهود، والنَّصارى… ومِن ثمَّ فلست أخاف على الإسلام من جهود المُنَصِّرِينَ مهْمَا اشتدَّت، فهي إلى بوار”، و”زويمر” أحد أقطاب المُنَصِّرِينَ نفسه يُعْلِنُ بِصراحة صعوبةَ تنصير المسلمين، وذلك حين يقول: “الذي نُحاوله من نقل المسلمين إلى النَّصرانيَّة هو أشْبَه باللَّعب منه بالجد، فلتكُنْ عندنا الشَّجاعة الكافية لإعلان أنَّ هذه المحاولة قد فشلت وأفلست”.

لكنْ هل هذه المبشرات كافية للتَّهوين منَ الظَّاهرة وصَرْف النَّظر عن دارسة أبعادِها والوقوف على تَجليَّاتها؟ إنَّ ما يتناساه أصحاب هذا الموقف في نظري هو الفرق بين “حفظ الله لدينه” وهو ما تعهَّد به الله سبحانه، وبين إقامة هذا الدين، ليتحوَّل من “وحي محفوظ” إلى واقع مُتَجَسِّد في الحياة، له السيادة والظُّهور على شَرائع الضَّلال والانحراف… وهذه مسؤولية المسلمينَ الذين يُقِيمون الدِّين على أرضِ الواقِع.


وفي المقابل هناك موقف تَهويلي
 مِن خَطَر هذا المُخَطَّط إلى الحدّ المزعج المانع من التَّفكير السَّليم والتَّدبير الإيجابي، ويُسْلِمُ إلى اليأس والقنوط، وذلك بالانطلاق من الواقِع المُعاش، فالحالة حالة ضَعْف وانكِسار وتبعيَّة، وإضافة إمكانيَّات ووسائل الحركة التَّنصيريَّة على هذا الواقع تَجعَلُ الأَمْر مرضًا مزمنًا لا فِكاك منه، ولا تُجْدِي مَعَهُ أيَّة آليَّات أو وسائل لمقاومة هذه الحركة التَّنصيريَّة.

ويتناسَى أصحاب هذا الموقف بدورهم أمرين أساسيَّين هما:

أوَّلاًأنَّ المُخطَّط التَّنصيري “حلم مجنون” تصاعد ضد الصَّحوة الإسلاميَّة؛ خوفًا من انتقالها إلى الغرب.

 

وثانيًا: أنَّ سمة المخطَّط التَّنصيري تنطلق منَ الهُرُوب من حقيقة الإسلام ورسْم الطرق للالتفاف حوله لاختراقه باسمه وتحت مظلَّته.


أمَّا الموقف الوسطي:
 فهو الذي لا يستهين بمخاطر المُنَصِّرين؛ ولكن دونما تهوين يوقع في الغَفْلة عنِ الخَطَر وهو حقيقي، ودونما تهويل يوقع في اليأس والقنوط.

وفي إطار الموقف الوَسَطي يُمْكِننا الحديث عنِ الآليَّات والوسائل لمُوَاجَهة الحركة التَّنصيريَّة، بَيْدَ أنَّ اللَّوم أساسًا لا يقع إلاَّ على المسلمين أنفسهم؛ لتَقْصيرهم في خِدْمة الإسلام على كافَّة المستويات، قبل أن يقع على الآخرين.

غير أني أرى أنَّ الرهان الأكبر والأكثر جديَّة في سِياق تمتين مناعة الذَّات المغربيَّة إزاء مثل هذه الظَّواهر ينطلق أساسًا من تحصين الفرد ضد كل أنواع التَّجْييش التي تحوله إلى جزء من “قطيع” ينساق وينقاد من بعيد، وضرورة حمايته من كل الأنماط التي تعمل على تهييئه ليصبح موضوعًا مطيعًا للتَّحكم الذهني والنَّفسي، وهنا تأتي دور كل الفعاليات المُسْهمة في إعداد ثقافة الإنسان، بدءًا منَ الأسرة ومرورًا بمنظومة التَّربية، ووصولاً للمراكز العلميَّة المتخصصة.

ولكن نُسجّل بأسف تقاعُس جلّ المَعْنِيِّين بالأمر (علماء، وسلطة) للحَدِّ مِن فاعلية الظَّاهرة؛ بل والعجيب أنَّ السلطات الرَّسميَّة التي اعتادتْ إحصاء أنفاس مواطنين بعينهم، إمَّا لمواقفهم السياسيَّة أو الجمعوية… تظهر كما لو أنَّها تغض الطَّرف عن واقع غير طبيعي… لغايات غير معروفة.

وفي الوقت ذاته لا نبخس في هذا الصَّدد مجهودات بعض المؤسَّسات التي أخذت على عاتقها توعية الأفراد بخطورة الظَّاهرة وتجليَّاتِها التي تنعكس سلبًا على مختلف أفراد المجتمع، وكذا مختلف المنابر الإعلاميَّة التي خصَّصت ملفَّات لرَصْد الظَّاهرة؛ لكن تبقى السِّمة المُشتَركة بين جُلّ المَجهودات رسميَّةً كانت أو غير رسميَّةً، تشترك في كونها لا تتجاوَز الطَّابع “المَوْسِمي” في أغلَبِ الحالات، وبالتَّالي لا تعدو أن تكونَ سِوى ردَّة فعل.

وللإشارة فإنَّ العُلماءَ ليسوا وحْدَهُم مَن يَجِبُ أن يُسْأَل؛ بل إنَّ المسؤوليَّة تَقَعُ على الجميع؛ أفرادٍ وجَماعات، فأهميَّة وخطورة الموضوع تكْمُن في كونه يمس جانبًا حسَّاسًا يتحدَّد انطلاقًا منه جزء مهم منَ النَّسيج الذي يعتقد المسلمون أنَّه يكوِّن هويتهم الاجتماعيَّة.

وفي الختام، نرى أنَّ مُتابعة ورَصْد الظَّاهرة، أمرٌ بالِغ الأهميَّة في الوُقُوف على طبيعتها وتجليَّاتها في مُختلف المَنَاطِق، فما المانع مثلاً مِن تشكيل خلايا لِرَصد وتتبُّع تجليات الظَّاهرة تابعة لوزارة الأوقاف الإسلاميَّة؟! خصوصًا وأنَّها تتغلغل بشكل منظَّم، وليست مجرَّد جهود فرديَّة.

إذًا، كيف يُمكِنُنا أن نتحدَّث عن علاج للمرض في غياب شِبْه تامٍّ للتَّشخيص؟! تشخيص منَ المفروض أنْ يقوم به باحِثون مُختصُّون؛ بَيْد أنَّ واقِع الحال لا يسر، فجُلّ المُشتغلين في تتبُّع ورَصْد الظَّاهرة يعتمدون على إمكانيَّات ذاتيَّة تصطدم بعبقات وعراقيل لا حدَّ ولا حصر لها، تَجعلهم أحيانًا بين مطرقة السلطة (بِصَمْتِها المُريب)، وسندان الظَّاهرة (بسريتها التَّامَّة)!!