* شهادة حق :

الداعية / احمد ديدات (رحمه الله)
الداعية / احمد ديدات (رحمه الله)

في عالم اليوم (ألف مليون) من البشر يؤمنون أن القرآن الكريم كتاب الله المعجز ، بل إن من ألَدِّ أعداء الإسلام من شَهِدَ بإعجازه ، فها هو ذا القس “بوسورث سميث” في كتابه “محمد والديانة المحمدية” (تسمية الإسلام بالديانة المحمدية ، والمسلمين بالمحمديين تسمية خاطئة لا تخلو من غرض خبيث)  يصف القرآن الكريم بأنه “معجزة في صفاء الأسلوب وفي حكمته وصدقه”
(الناشر:عندما نقرأ مثل هذه الشهادة يَرِدُ على الذاكرة قول الشاعر العربي:

شهدت بفضلك كل العِِدَا * والفضل ما شهدت به الأعداءُ!

وهذا كاتب بريطاني آخر “آربرى” تصدَّى لترجمة القرآن يقول في تقديمه للترجمة:

“كلما أستمع إلى ترتيل القرآن الكريم ، أشعر كأني أنصت إلى نغم ينساب في لحن موسيقي ذي إيقاع متصل ينبض مع دقات قلبي ! ”

ثم يستطرد – في مقدمته – بعبارات تشهد بإيمانه بالإسلام، وإن لم يعلن إسلامه!

أما “مارمادوك بيكثال” البريطانى الذي اعتنق الإسلام، فإنه يقدم ترجمته للقرآن بهذا الوصف:

“سيمفونية لا تُدانَى، ولا تُحاكَى، تستدر الدموع من المآقي، وتستثير أشجان النفس”

وقد صدرت ترجمته هذه بعد إسلامه، فلا نقطع أكان وصفه للقرآن في مقدمته بعد إسلامه أم قبله‍!

ومن الأقوال المأثورة أيضا لغير المسلمين في القرآن:

– “كريستي ويلسون” في كتابه “تقديم الإسلام” (1950م): ” ليس بعد الإنجيل ( من وجهه نظره المسيحية ) إلا القرآن، فهو أعظم الكتب الدينية تأثيراً، وأكثرها احتراما وتبجيلاً !!”

– “شيلليدي” في كتابه “يسوع في القرآن” (1913م): “القرآن بمثابة الإنجيل المحمدي (أبدينا رأينا في هذه التسمية من قبل) وأكثر الكتب المقدسة توقيراً بما فيها العهد القديم والعهد الجديد”.

* إعجاب وانبهار بكتاب الله الخاتم :

ولو استطردنا سنجد العديد من مثل هذه الآراء، سواء من مؤيدي أو أعداء الإسلام على السواء، تؤكد الإعجاب والانبهار بكتاب الله الخاتم: القرآن الكريم، والذي رأي فيه الرعيل الأول – على عهد محمد صلى الله عليه وسلم – الجمال والجَزالة، ونُبْلَ الدعوة، وشرف الرسالة، برهاناً مُعْجِزاً من الله تعالى، فدخلوا في دين الله أفواجاً.

ولكننا سنجد دائماً متشككا مُعْرِضًا، يصمُّ أذنيه، ويُغْلق عقله وقلبه دون شهادة التاريخ، وأقوال المفكرين، وربما تعلل بجهله بالعربية ليبرر عجز بصيرته و ضعف إدراكه ما في القرآن من إعجاز، ولا يرى دليلا على وجود الله، ولا على إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد تصدى القرآن لهذا النوع من الحوار، وخاطب الملحدين والمشككين، والمتشككين والمرتابين، والمترددين الذين آتاهم الله نصيباً من العلم  قلَّ أو كَثُرَ، فظنوا أنهم قد بلغوا به من العلم نهايتَه!

تصدى القرآن الكريم لهم ليُقنعهم أن فوق كل ذي علم عليم ، فمهما ازداد علمهم ، وسما فكرهم ، فإنهم أمام إدراك حقائق الكون أقزام.  

 * أصل الكون:

دعوني أولا أطرح سؤالاُ على علماء الفلك القابعين في مراصدهم  يجولون بأبصارهم في الكون ، خلال أقوى ما ابتكر العلم من مجاهر (تلسكوبات):

أتدرون كيف بدأ الله خلق ما نراه من كون؟

سيجيب أحدهم باعتداد : حسنا – منذ بلايين السنين كان الكون الماديّ كتلة واحدة متماسكة ، وفجأة حدث انفجار عظيم في قلب هذه الكتلة ، فانطلقت نواتج الانفجار في كل مكان ، فتكونت منها المجرات ، التي ما فتئت تسبح في الفضاء اللانهائي!

وفي إحدى هذه المجرات تقع شمسنا وتوابعها من كواكب بما فيها الأرض التي نحيا عليها !

وهنا لا أملك إلا أن أتذكر الإشارة القرآنية إلى جرى الشمس المطرد في الكون، في اتجاه محدد لا يعلم منتهاه إلا الله، وكأن علماء اليوم قد أشربوا هذه الآيات من ” سورة يس”:

) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَاللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( [ يس 38 – 40]

ثم يتابع عالم الفلك حديثه:

” إن الكون يتمدد باطراد، فتتباعد المجرات عنا سريعاً سريعاً، مما يدعونا إلى تطوير مجاهرنا وتقويتها، لنلاحق تلك المجرات قبل أن تغيب عن العيون”

ثم يختم حديثه مؤكداً – باعتداد – ما وصل إليه العلم من دقة في الملاحظة، وإتقان في الحساب!

وهنا أفاجئه بسؤال:

أتظن أن عربيًّا أمِّيًّا في البداوة البدائية منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام يدرك ما توصلتم إليه من أفكار عن “بداية الخلق” و “تمدد الكون” و “حركة الشموس والمجرات” ؟!

فيجيبني بإشفاق واستخفاف:

“كلا أنََّى لمثله أن يفهم شيئا من هذا ؟!”

فأحسم الحوار بقولي:

إليك إذن ما أوحِيَ إلى هذا النبيِّ الأميِّ (انظر إلى ما جاء في الإنجيل عن النبي الأمي المنتظر: ” أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة، ويقول:أقرأ هذا ، فيقول: لا أعرف الكتابة “(إشعياء 29: 2)، قارن هذه العبارة بقول محمد صلى الله عليه وسلم عندما جاءه جبريل، وقال له: ” اقرأ” فقال ” ما أنا بقارئ” وانظر كتاب المؤلف “ماذا يقول الإنجيل عن محمد صلى الله عليه وسلم” ؟!) في “سورة الأنبياء” عن بداية الخلق: )أََوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ( [ الأنبياء : 30 ]

وما جاء في “سورة الذاريات” عن الاتساع المستمر للكون:

) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ( [ الذاريات :47 ]

إن المخاطَب بتعبير “الذين كفروا” في الآية الأولى هو أنتم أيها الملاحدة من العلماء، وخاصة علماء الفلك والجغرافيا الذين وضعوا أيديهم على هذه الكشوف الكونية المبهرة، وأعلنوها للملأ ثم زاغت أعينهم عن رؤية ذلك كله! (في قول مأثور لتوماس كارليل: ” في خِضَمِّ الأبحاث والتجارب نندمج في معاملنا إلى الحد الذي ننسى فيه خالق الكون الأعظم !! “)

أخبروني بالله عليكم: كيف يتأتَّى لأميًّ لم يعرف في بيئته سوى شَظَف الصحراء منذ أكثر من 1400 عام أن يعرف شيئا من هذه المعارف الكونية إلاّ بوحي من خالق الكون ذاته ومبدعه سبحانه؟!

 * الماء : أساس الحياة :

وأنتم يا علماء الحياة (البيولوجيا) يا من تكتشفون يوما بعد يوم جوانب الإبداع في خلق الكائنات وحياتها – أجيبوني: أين وكيف بدأت الحياة ؟!

سيجيب أحدهم – بثقة – كسَمِيِّه عالم الفلك من قبل:

” حسنًا، منذ بلايين السنين بدأت صورة بدائية للحياة المادية في مياه البحر تولَّد عنها البروتوبلازم (مادة البروتوبلازم هي أساس تكوين الخلايا الحية ، وفعاليتها مرهونة بوجود الماء 0وارجع في ذلك لأي مرجع في علوم الحيوان أو النبات)، الذي نشأت معه الأميبا وحيدة الخلية، ومن الماء – أيضا – نشأت كل الأنواع، أي أن الحياة لا تنشأ، ولا تستمر إلا في وجود الماء ” فنمضي في تساؤلنا: متى أدرك العلم أن الماء هو أساس الحياة ؟!

لا تخرج الإجابة عن سابقتها ” كان ذلك حديثا في القرن العشرين” فنمضي في تساؤلنا:

أكان في مقدور بشر منذ 14 قرنا، ولو كان عالماً أو فيلسوفاً، أو شاعراً – فضلاً عن أن يكون أُمِّياًّ – أن يتوصل إلى ما توصلتم إليه من مفاهيم ؟

ستكون الإجابة قطعاً – كسابقتها – بالنفي، إذًا هاكُمْ ما جاء على لسان ابن البادية صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن الكريم، في ذلك الزمان البعيد:

) أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (  [ الأنبياء : 30 ]

ويتضح التعبير أكثر وأكثر في هذه الآية التي يقول الله فيها:

) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( [ النور : 45]

لا ريب أن مثل هذه الكلمات من خالق الكون العظيم العليم منذ 14 قرناً – إنما هي موجهة أساسا إليكم يا رجال العلم والمعرفة لتجيب عن بعض تساؤلاتكم في عالم اليوم!

لقد كان المغزى العلمي لهذه الكلمات بعيداَ تماماً عن ذهن من جرت على لسانه صلى الله عليه وسلم بوحى من الله في ذلك الزمان البعيد !

إن هذه الكلمات ما هي إلا دعوة لكم يا علماء اليوم لتبادروا بالإيمان ، ولتكونوا في طلائع المؤمنين، وإلا : فما أضلَّكم إذا أزاغتكم أهواء النفس عن المنطق السليم.

* زوجية النبات :

ثم يجيئ دور علماء النبات والحيوان بصفة خاصة ، والعلوم الطبيعية بصفة عامة؛ الذين وإن تبحروا وتعمقوا في طبيعة الأشياء والكائنات – ما زال منهم من ينكر وجود خالق كل شيء ! فنسألهم أن يفسِّروا لنا: من أين جاء الرسول الأميّ بهذه الآية وأمثالها ؟!

) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأََزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأََرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّالاَيَعْلَمُونَ( [ يس : 36]

يقول “عبد الله يوسف علي” في ترجمته الإنجليزية مفسراً هذه الآيات:

” إن ظاهرة زوجية الكائنات تنطبق على كل الخلائق: الإنسان، والحيوان، والنبات، والمخلوقات الأخرى التي قد لا تتبادر إلى الذهن، فهناك أزواج من القوى المضادة في الطبيعة كالشحنات الكهربائية السالبة والموجبة …إلخ ، بل إن ذرات المواد جميعاً من نواة موجبة تحيطها ” إلكترونات” سالبة، أي أنها هي الأخرى أزواج”.

     ×        المسلمون و الإعجاز :

وبعد … فآيات الكتاب الحكيم تتحدث عن نفسها، وتنطق بالإعجاز العلمي الذي لا يخطئه عقل عالم فطن، وهذه شهادة عالم فرنسي معاصر:

” … مقولة أن القرآن من تأليف محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يقبلها عقل؛ إذ كيف يتصور عاقل أن إنسانا أمِّيََّا يتحول فجأة لينطق بأعظم النصوص الأدبية العربية إلى يومنا هذا ؟!، ثم كيف يأتى في القرآن بحقائق وإشارات علمية يتعذر إدراكها لكل أهل زمانه، ويعبر عنها بدقة علمية تامة ” (موريس بوكاي في كتابه: “القرآن والإنجيل و التوراة والمعارف الحديثة” ).

لقد بدأ اهتمامي بدراسة الإعجاز إثر محاضرة سمعتها وأنا طالب غَضّ عام 943 ، ألقاها العلامة والداعية المفوه عبد العليم صِدَّيقي أثناء جولته في جنوب إفريقيا ، ثم نُشِرَت المحاضرة بعنوان: “دور المسلمين في إحياء العلوم” (كتيب للاتحاد العالمي لجمعيات الدعوة الإسلامية بكراتشي) فأعادت إلى ذهني من جديد ما أثارته أول مرة من حماس لدراسة الموضوع!

وأقتبس هنا فقرات من تلك المحاضرة ، في معرض الدعوة إلى دراسة القرآن من منظور العلم ، وفاء وتقديراً لذلك الداعية العظيم.

” إن تأكيد القرآن الكريم على ضرورة دراسة العلوم الكونية لَظاهرة فريدة في عالم الأديان ، فآياته تلفت أنظارنا مرارا إلى تنوع الخلق وروعته، وتحضُّنا على اكتساب المعرفة لنزداد إيماناً ، وتنبه الإنسان لأول مرة في تاريخ العقائد المعروفة إلى أن العالم مسخر له ، وأن عليه أن يكدّ ويسعى للانتفاع بنعم الله.

وهو يحثنا على التأمل في خلق الإنسان : تركيبا وسلوكاً وأنواعاً، وكذلك النبات: شكلا وخواصَّ وأنواعاً؛ أي أنه يدعونا لدراسة “علوم البيولوجيا”.

كما يدعونا لدراسة نظام الكون وما به من موادّ وطاقة، وذلك مجال “علوم الفيزياء”.

وإلى التأمل في خواصِّ المواد وتفاعلاتها، وذلك مجال “علوم الكيمياء”.

وإلى التعرف على طبقات الأرض وما حوت من معادن، وما طرأ عليها، وذلك مجال “علوم الجيولوجيا”.

وإلى استكشاف الأرض، وما بها من بحار وأنهار وجبال وسهول، وما يعمرها من حيوان ونبات، وذلك مجال “علوم الجغرافيا”.

وإلى التدبر في تعاقب الليل والنهار، وتغير الفصول، وحركات الكواكب، ومواقع النجوم، وذلك مجال “علوم الفلك”.

وأخيرا يحثنا على ملاحظة تقلب الرياح، وإثارة السحب، ونزول الأمطار وما إليها، وذلك مجال “علم الأرصاد الجوية”.

ثم يمضى العلامة صِدِّيقِي ليقول:

“لا غَرْوَ إذن أن كان المسلمون – لقرون عدة – رواد العلوم والمعارف، حتى دار الزمن دورته، فغفلوا وتهاونوا، فأفلت منهم زمام القيادة إلى الغرب الماديّ الذي  اندفع ليواصل ما بدأه المسلمون”.

” لقد كان فضل المسلمين على المعارف الإنسانية “ثورة كبرى” لم تدع جانباً من جوانب المعرفة إلا أيقظته من سُبات، وحازت فيه قصب السبق، فرسالة المجتمع الإسلامي – كما حددها القرآن – هي اكتساب العلم ونشره؛ ليصبح المؤمن الحق هو العالِم المثقف، ولولا  المسلمون ما بزغ في الغرب عصر النهضة، ثم عصر العلم”.

“إن كل ما نتلقاه اليوم من علوم الغرب ما هو إلا نتاج مباشر لجهود العلماء المسلمين، والبشرية كلها مَدينة بما قدموه”.

ثم يختم العلامة المفوه محاضرته القيمة بقوله:

“أؤكد أخيراً أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يقوم على الإسلام، وبالتالي يستمد تصوره من الوحي القرآني، ومن هنا لا يكون المرء مسلماً إلا إذا آمن بالقرآن، واتبع تعاليمه، تلك التعاليم التي توجب على المسلم أن يتأمل العالَمَ حوله، حتى يقوده ما كشف من حقائق إلى توثيق الإيمان بالخالق الأعظم، فالعلم والدراسة في الإسلام ليسا غاية في ذاتهما، بل هما وسيلة إلى غاية، وتلك بحق هي الغاية الأسمى للإنسانية في نهاية الأمر، والتي تتمثل في: )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)   [ البقرة : 156]

 * الدعاة والإعجاز:

لقد مَنَّ اللهُ عليَّ بتلقِّي هذه الكلمات الطيبات من العلامة صِدَّيقي في محاضرته عام 1934م، وفي أواخر الثلاثينيات كنت أحفظها، وأستعيدها، وأُدخل عليها بعض التعديلات، وتحمست لدعوة الناس إلى ما جاء بها، فاتفقت مع معهد تبشيري على إلقائها في مناظرة مع الطلبة والأساتذة، ولم أكن أدرك في ذلك الوقت جسامة مهمتي كداعية مبتدئ يدخل في مناظرة مع مبشرين محترفين، ولقد أنجاني من تلك المواجهة تدخُّل رئيسي المسلم في العمل ( كنت أعمل وقتها في محل بمحطة للسكك الحديدية بجنوب إفريقيا)، هدَّدَني رئيسي بالفصل إن مضيت قُدُماً في إلقاء المحاضرة، فآثرت السلامة، ولم أدر وقتها فداحة ما ارتكبته بهروبي من مواجهة الباطل، ولا ريب أن رئيسي المسلم كان هو الآخَر غافلا عما تحمله الآيات التالية من الوعيد:

) قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( [ التوبة : 24]

ولا شك – للأسف – أن هناك الملايين من المسلمين الذين يُلجمهم الخوف على مصالحهم ومتاعهم الدنيوي عن المجاهرة بالدعوة إلى الإسلام، وما يعرفون من الحق، بل إن منهم من يتصدى لتثبيط الدعاة، وإخماد دعواتهم تحت شعار:”مقاومة التطرف”، ثم يدعون الإيمان والتقوى، أولئك الذين وصفهم الله بالقوم الفاسقين.

وبعد … لقد لفت العلامة صِدِّيقي انتباهنا في محاضرته إلى ضرورة الاهتمام بالإعجاز العلمى للقرآن الكريم ، في علوم الحياة ، والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والأرصاد وغيرها.

وفي السنوات الأخيرة تناول الكثيرون هذه الموضوعات من أمثال ” موريس بوكاي” و “كيث مور” و “الشيخ الزنداني” وغيرهم، ولكن المجال لم يزل رحباً ممتداّ، فالقرآن بحر من العلم، وفي زمن التخصص هذا ينبغي على العلماء المسلمين – كل في تخصصه – أن يسعوا لاكتناه جوانب الإعجاز ، وتقديمها في دراسات تشبع نَهَم شباب المؤمنين وشيوخهم حتى تكون لدينا – بإذن الله – موسوعات للإعجاز القرآني.

وختاماً أترك الحديث عن الإعجاز العلمي للعلماء المتخصصين، لا من المسلمين فحسب، بل من غير المسلمين أيضا إن التزموا الحيدة ، وأوجِّه اهتمامي في الفصول التالية إلى صور أخرى واضحة مباشرة لإعجاز القرآن، يدركها بسهولة كل من يقرأ القرآن، أو يستمع إليه بأذن صاغية، وحس مرهف، وعقل مفتوح.