يقول الله تعالى :

)قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا( [الإسراء : 88]

في هذه الآية يتحدى الله العالمين أن يأتوا بمثل معجزة القرآن ، والمعجزة أمر خارق للعادة يُظهره الله على يد نبي تأييداً لنبوته.

وتتفاوت المعجزات في قدرها ، فشفاء المرض العُضال قد يكون معجزة ، ولكن رد البصر معجزة بلا جدال ، أما إحياء الموتى فذلك معجزة كبرى!

* المعجزات والأديان :

أرسل الله تعالى -منذ فجر الخليقة – الأنبياء والمرسلين، مُبَشِّرين ومُنْذِرين، وما من أمة جاءها البشير النذير إلا حاولت وكابرت – عدا قلة آمنت به – وما كانت لتؤمن إلا أن ترى الخوارق والمعجزات ، تلمسها وتراها رَأي العين!

كان ذلك شأن ” بنى إسرائيل” مع نبيهم موسى عليه السلام ثم كان ذلك شأنهم مع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي جاء أساساً ليصحح ما انحرف ، ويُقَوِّم ما اعْوَجَّ في عقائد وأفعال بنى إسرائيل (المترجم: جاء على لسان السيد المسيح عليه السلام: “لم أُرْسَل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة” [إنجيل متى 15/24]. ولقد أشار القرآن الكريم إلى رسالته إلى بني إسرائيل فقال: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ  وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ( [آل عمران: 48 – 49])، فما كان منهم إلا المجادلة التي تعبر عنها هذه الفقرة من إنجيل متى:

” حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين : يا معلم! نريد أن نرى منك آية ، فأجاب ، وقال لهم : جيل شرير وفاسق ، يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي” [ إنجيل متى 12/38-39]

( انظر كتاب المؤلف: ”  “What was the Sign of Jonah)

ومع ذلك أيد الله  تعالى نبيه عيسى عليه السلام بالعديد من الخوارق والمعجزات التي روتها الأناجيل ، وأثبتها القرآن الكريم حيث يقول :

)إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنِاَتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرُُ مُّبِينُُ( [المائدة: 110]

أيد اللهُ سبحانه وتعالى رسولَه عيسى عليه السلام بهذه المعجزات لئلا تكون لبنى إسرائيل حجة على الله بعد رسوله إن هم لَجُّوا  في عنادهم ، وتمادَوْا في كفرهم!.

* معجزة الإسلام :

وبعد قرابة نحو ستة قرون بعث اللهُ رسوله محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمكة ليجهر بدعوته إلى العالمين كافة إلى آخر الزمان (ويتضح عموم رسالته من قوله تعالى: (وَمَا أََرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ) [ سبأ : 28]، وقوله تعالى: (قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسِ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف :158]،وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسَولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : 40]، وفي الحديث الشريف: ” كان كل نبي يبعث في قومه خاصة وبُعِِِثْتُ إلى كل أحمر وأسود”)، فإذا بالتاريخ يعيد نفسه ، ويقف مشركو مكة ومعهم اليهود والنصارى مواقف بنى إسرائيل من عيسى عليه السلام فيطلبون منه الخوارق والمعجزات! سنة الله في خلقه التي لا تتبدل ولا تتحول!.

بل سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم آيات بعينها:

) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً( [الإسراء:90 – 93].

وعلى قدر سفاهتهم في مطالبهم كان رَدُّ السماء توجيهاً للرسول صلى الله عليه وسلم بالاستعلاء على جدل أولئك المنافقين ولجاجتهم، فالمعجزة الكبرى ماثلة بين أيديهم ألا وهي: ” القرآن الكريم “، وفي طياته آيات بينات، كل منها دليل على صدق الرسالة أمام كل الأجيال إلى قيام الساعة: )أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( [العنكبوت : 51]

* القرآن هو المعجزة :

يسوق لنا المولى سبحانه وتعالى البراهين الدالة على إعجاز القرآن، وأبلغها جميعاً أمران:

    ×        الأمر الأول: أمية الرسول صلى الله عليه وسلم :

نجد ذلك في قوله تعالى: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ([العنكبوت : 48 ]

فلم يكن الرسول الكريم ليعرف القراءة والكتابة ، ولا مجرد التوقيع باسمه الشريف !؛ ولو عرف عنه شيء من ذلك ما سكت عنه المشركون ، ولا المرجفون في زمانه ، وحتى يومنا هذا ، ولأقاموا الحجة على أنه ربما أَلَّف القرآن بما لديه من علم وثقافة واطلاع ، أو ربما اقتبسه من دراسات اليهود والنصارى ، أو ربما اطلع على التوراة والإنجيل والزبور (المترجم: التي اختفت مصادرها الأصلية تماماً)، أو ربما تعمق في فلسفات أرسطو وأفلاطون ، ولكن أشد أعداء الإسلام ونبيه لم يَدَّع عليه مثل هذا الادعاء ، وقد أجمع على أميته المؤرخون من غير المسلمين ، كما لا ننسى أنه من الثابت أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لم يترجم إلى العربية قبل القرن العاشر الميلادي ، أي : الرابع الهجري.

    ×        الأمر الثانى: تجانس النص القرآني (أكثر من 6000 آية)

اقرأ القرآن، وتدبره، وقَلِّبه من أي وجهة تريد، تصل دائما إلى نفس النتيجة: ” أنه ليس بقول بشر”، فلا يمكن لبشر أن يواصل تأليف كتاب، ويستغرق جمعه 23 عاماً من بداية الوحي إلى إتمام الرسالة، يُبْتَلَى خلالها بأشق ما مَرَّ به نبي مُرْسَل، دون أن تتقلَّب أفكاره، وتتبدَّل مشاعره، وتختلف أفكاره، وتتفاوت تعبيراته، وما كان هذا شأن النصِّ القرآنيّ، فعلى الرغم من نزول آياته مُنَجَّمة، أي مُفَرَّقة، في شتى الأوقات والمناسبات، فقد اجتمع القرآن عند اكتماله، بترتيب سُوَرِه، وترتيب آياته في السور – كما هو الحال في المصحف – فما اختلف السياق والجَرَِس المميز لكل سُوَرِه، ولكل سورة على حِدَة، بما اجتمع فيها من آيات نزلت في أوقات ومناسبات متفرقة، وما تضاربت الحقائق والأفكار والتشريعات بين سورة وأخرى، بل تكاملت مع بعضها البعض، وفسر بعضُها بعضا، وليس هذا شأن أي كتاب بشري يُكتب، ويُجمع بهذه الكيفية، وطوال تلك المدة.

وصدق الله العظيم إذ يقول:

 )أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا( [النساء : 82 ].

* ناحية أخرى :

ومن ناحية أخرى– كما سنرى في الفصل الثاني – يعرض القرآن ويشير إلى أمور تتصل بمعارف كونية، لم تكن معروفة وقت نزوله، ثم أظهرها وأكدها التطور والكشوف العلمية!

ولو كان القرآن من صنع بشر أُمِّيّ، أو حتى متعلم في ذلك الزمان البعيد لنَضَح بأفكار وخُزَعْبلات بدائية متضاربة!

لا غَرْوَ إذن أن يكون القرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة المشركين، بل هو “معجزة المعجزات” التي يُدرك قدرها كل ذي حكمة وبصيرة وذوق  أدبي، وصدق مع النفس!: ) بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ( [ العنكبوت : 49 ]