يعرف أهل الاختصاص أن الفقه ينقسم إلى قسمين: واقعى، وافتراضى، والواقعى يراد به بيان حكم الشرع فى مسائل حدثت بالفعل، ويحتاج فاعلها أو قائلها إلى معرفة حكم الشرع فيها ليمتثل له، وهذا النوع لا خلاف بين الفقهاء عليه، فقد كان هو الشائع فى عهد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكذا فى عهد خلفائه رضوان الله عليهم أجمعين،
أما الفقه الافتراضى فيراد به إظهار أحكام الشرع فى مسائل لم تقع بعد، ولكن يتصور وقوعها، وهذه المسائل الافتراضية مسائل يولدها الفقيه غالبا من مسألة واقعية تعرض عليه، فبعد إجابته السائل بما يظهر له من حكم المسألة الواقعة، يقلبها على وجوهها العقلية المحتملة، ثم يضع للمسائل المفترضة الناتجة أجوبة، وكأنها حدثت بالفعل.
وبين الفقهاء القدامى خلافا فى تبنى هذا النوع من الفقه، وأكثرهم قناعة به وإنتاجا له هو الإمام أبوحنيفة، صاحب المذهب الحنفى، وقد عاب عليه كثير من معاصريه هذا المسلك ورأوه مسلكا لم يسلكه رسوله الله ولاصحابته، لكن الإمام انطلق فى مسلكه هذا وترك كما كبيرا من الفتوى لمسائل افتراضية، وقد برر مسلكه فى النص التالى للخطيب البغدادى «لما دخل قتادة – رحمه الله – الكوفة، قال: والله الذى لا إله إلا هو ما يسألنى اليوم أحد عن الحلال والحرام إلا أجبته، فقام إليه أبا حنيفة – رحمه الله – فقال: يا أبا الخطاب ما تقول فى رجل غاب عن أهله أعواما، فظنت امرأته أن زوجها مات فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول ما تقول فى صداقها؟ وقال لأصحابة الذين اجتمعوا إليه: لئن حدث بحديث ليكذبن، ولئن قال برأى نفسه ليخطئن، فقال قتادة: ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، قال: فلم تسألنى عما لم يقع؟
قال أبوحنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه».
وحقيقة الأمر، أن فكرة الفقه الافتراضى ليست اختراعا اخترعه الإمام أبا حنيفة ومن سلك مسلكه من الفقهاء، ففى كتاب الله:«يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ..»، والساعة لم تقع قبل السؤال ولا بعده ومع ذلك أمر رب العزة رسوله أن يبلغ إجابة محددة، كما أن الفقه الافتراضى له جذور فى السنة النبويّة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِى؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِى؟ قَالَ:
«فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِى النَّارِ»، وما روى عن المقداد  قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِى فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَى بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ لَاذَ مِنِّى بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْتُلْهُ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَطَعَ يَدِى ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِى قَالَ»، فهذا نصٌّ قاطع على جواز فرض المسائل المحتملة الوقوع قبل وقوعها، وبيان حكمها إذا وقعت، فقد سأل الصحابى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لم يقع، وقلب المسألة على وجوهها المحتملة، وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل الوجوه ولم ينهه.
وتجدر الإشارة إلى أن النصوص الواردة فى كتاب الله أو سنة رسوله ليست من الفقه أو الفتوى، فالفقه متعلق بنظر المجتهدين فى القرآن والسنة وما تفرع عنهما من مصادر الاستدلال لاستنباط الحكم الذى يفتون به، أما ما ورد فى كتاب الله وسنة رسوله، فهى أحكام تأسيسية تقتصر مهمة الفقيه على بيان ما فيها من أحكام، واستنباط أحكام لمسائل فرعيّة يُسْأل عن أحكامها أو يفترضها هو ويجيب عليها، غاية الأمر أن ما ذكر من النصوص وغيرها كثير يدل على مشروعية السؤال عن وقائع لم تقع للسائلين، ولذا يكون افتراض العلماء لمسائل لم تقع والاجتهاد فى بيان أحكامها التى يفتى بها إذا حدثت بالفعل أمرا مشروعا، وأيّا كان رأى العلماء القدامى فى ممارسة هذا النوع من الفقه، فقد ظهرت أهميّة الفقه الافتراضى بعد انقراض المجتهدين من الطبقة الأولى أصحاب المذاهب الفقهيّة المختلفة، فالأجيال التى جاءت بعدهم لم تكن بمنزلتهم وقدرتهم على الاجتهاد، ومن امتلك درجة من درجات الاجتهاد، فهى حتمًا أقل بكثير من درجتهم، حيث إن طبقات المجتهدين متعددة وليست واحدة، فبعد صاحب المذهب وهو المجتهد المطلق تأتى طبقة المجتهد فى المذهب، وهذا يملك القدرة على الاجتهاد كشيخ المذهب، ولكنه لم يضع لنفسه طريقة خاصة به، بل يجتهد على طريقة شيخه صاحب المذهب، وبعده المجتهد فى الأبواب الفقهية، وهو يملك القدرة على الاجتهاد فى بعض الأبواب، وليست له قدرة على الاجتهاد فى أبواب أخرى، ثم المجتهد فى بعض مسائل الأبواب، ثم المرجِّح الذى لا يستطيع الاجتهاد ولكنه يستطيع الموازنة بين أقوال الفقهاء فى المسألة، ويرجح رأيًا يفتى به، وهذه المنزلة مع تأخرها فى طبقات المجتهدين لا يقوى عليها إلا الراسخون فى علوم الشريعة، ولما كان فقهاء العصور المتأخرة قدرتهم على الاجتهاد ليست كقدرة السابقين، كانت المسائل الافتراضية التى لم تظهر الحاجة إليها فى زمن المجتهدين أحد مصادر علماء عصرنا لمعرفة أحكام هذه المسائل متى وقعت، فالرجوع إلى اجتهاد فقيه من أهل الاجتهاد له قول فى المسألة أقوى بكثير من نظر من هو أدنى منه منزلة فى الاجتهاد والقدرة على النظر، فقد يجد المفتى فى زماننا قولًا فى مسألة عرضت عليه للإمام أبوحنيفة، ومن سلك مسلكه فى الفقه الافتراضى، فيفتى بقوله وكأن الذى أفتى فيها هو الإمام أبا حنيفة أو غيره، ممن قالوا بالفقه الافتراضى، وإذا كان الفقه الافتراضى الذى تركه السابقون قد أفادنا فى زماننا فى الحصول على الفتاوى المنضبطة من أهل الاجتهاد، فإنها أفادت أيضًا فى فتح آفاق التفكير العقلى المنضبط للعلماء المعاصرين، فالمسائل الفقهية الفرعية فى زماننا أكثر بكثير مما كانت عليه فى الأزمنة السابقة نتيجة تطور العصور، وما جدَّ فيها من مخترعات وما طرأ على أنماط حياتهم، ومعاملاتهم المعاصرة فى شتى المجالات، لذا فإنه من المفيد بعد اجتهاد المعاصرين لمعرفة أحكامها أن يتطرق التفكير إلى تقليب المسائل على أوجهها المحتملة، وما يمكن أن يتفرع عنها ثم يقررون أحكامها، وذلك إن ترك لهم زحام المسائل الواقعة المتلاحقة وقتا للتفكير والبحث عن أحكام ما يتصور وقوعه من مسائل جديدة.
رحم الله سلفنا الصالح وجزاهم خيرا على ما تركوه لنا من تراث فقهى أفادنا فى حياتنا، وما زلنا نغترف من معينه، وجعلنا من السائرين على دروبهم المنضبطة بعيدا عن الانفلات والتحرر من قواعد النظر.