السلطان نور الدين الشهيد محمود بن زنكي

حامل راية تحرير القدس الشريف

في فترة كانت من أشد الفترات على الأمة الإسلامية ضعفًا وفرقة، وهي الفترة التي استطاع الفرنجة أن يستولوا على الساحل الشامي، وعلى عدد كبير من المدن العربية الإسلامية، ومنها القدس الشريف، وأن يقتلوا ويستبيحوا أهلها.

 

وفي هذه الفترة كان تمزق البلاد الإسلامية، وتفرق أهلها وحكامها إلى دويلات صغيرة، حتى كان في كل مدينة حاكم يحرص على سلطته، ويكيد لإخوته أو أبناء عمومته من حكام المدن الأخرى؛ من أجل أن يتسلط على أكبر قدر ممكن من الأرض، هكذا كان حال الأمة قبل أن يتولى السلطان نور الدين محمود بن زنكي الحُكم؛ فقد كان حالها كحال اليوم، كما وصف ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، قيل: يا رسول الله، فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت)؛ (رواه الإمام أحمد وغيره).

 

في هذه الفترة، أكرم الله الأمة بحاكم عادل وعلماء مخلصين، جمعوا الأمة تحت راية واحدة؛ للجهاد في سبيل الله، ولتحرير القدس وتطهير البلاد من المغتصبين.

 

كان هذا الحاكم العادل هو السلطان نور الدين محمود بن زنكي الشهيد، ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي، وسار العلماء لهذه الغاية في الدعوة للجهاد في سبيل الله؛ فهيؤوا الناس روحيًّا وفكريًّا وعلميًّا، ونبهوا إلى الخطر المحدق بهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر؛ ليستولوا على دمشق، وليفعلوا بها كما فعلوا في القدس الشريف وغيرها.

 

وتحقيقًا للنصر والفتح، كان العلماء – وعلى رأسهم الحافظ ابن عساكر – بدمشق يهيئون الأمة لخوض المعركة تحت راية نور الدين، الذي أحبه الناس وتفاءلوا بأن النصر حليفه، فكانوا دائمًا يرددون في هتافاتهم:

نور الدين يا منصور ♦♦♦ وبسيفك فتَّحنا السور

محراب الجامع الأموي بدمشق

وبقي هذا الهتاف سائدًا في دمشق حتى يومنا هذا.

 

نور الدين زنكي:

سلطان بلاد الشام ومصر والحجاز، الإمام العادل العابد، سادس الخلفاء الراشدين، صاحب منبر المسجد الأقصى.

لقد اجتمعت صفات الحاكم العادل في شخص نور الدين، الذي حقر الدنيا، وزهد في أبهة الحكم، ونذر نفسه لله، للغايتين اللتين سعى إليهما: وحدة المسلمين، وقهر الفرنج، كان قائدًا فذًّا، له قلب امتلأ إيمانًا وثقة بالله؛ فلا يعرف الجزعُ الطريقَ إليه، وكان يقول: لو كان معي ألف فارس لا أبالي بعدو، والله لا أستظل بظل جدار.

 

باب المدرسة العادلية، أسسها السلطان نور الدين.

لقد سمع أهل دمشق عن جهاده وبطولاته، وتناقلوها، ومنها: أنه سجد يوم معركة حارم منفردًا يمرغ وجهه بالتراب، يناجي ربه، ويسأله النصر، ويرفع صوته، ويتضرع ويقول: اللهم انصر دينك، لا تنصر محمودًا – أي نفسه – فنصره الله، وكان يأسف على أنه لم يُرزق الشهادة في الحرب.

 

لقد أيقن العلماء وأعيان البلاد والعامة أن السلطان نور الدين هو الحاكم الذي يجب أن تقف الأمة كلها وراءه، وكان له ذلك؛ فحقق الله ما تمناه من توحيد الأمة؛ فتوحدت بلاد الشام ومصر والحجاز تحت رايته.

 

وكان إذا دعا الناس للجهاد كان الناس كلهم معه، فأيقن بنصر الله له، بل رآه قريبًا، ولثقته بالله وبنصره أمر بصُنع منبر بحلب، هيأه ليحمله إلى المسجد الأقصى بعد فتحها، وحقق الله النصر وفتح بيت المقدس، ولكن بعد وفاته، على يد خليفته السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي كان أحد قواده، فكان له شرف وضع هذا المنبر في المسجد الأقصى؛ تنفيذًا لرغبة أستاذه نور الدين.

 

وُلد نور الدين محمود بن زنكي يوم الأحد 17 من شوال سنة 511هـ بحلب، ونشأ برعاية والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، وتعلَّم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا، ذا همة عالية، وحرمة وافرة، وديانة بيِّنة، فلما قُتل أبوه سنة 541هـ وهو محاصرٌ جعبر، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين، وأخذ أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم نور الدين فافتتح دمشق في صفر سنة 549هـ، فأحسن إلى أهلها، وبنى بها المدارس والمساجد والرُّبط، ووسع الطرق، وبنى عليها الأرصفة، ووسَّع الأسواق، وأسقط المكوس، وكان حنفي المذهب، يحب العلماء والفقراء، ويكرمهم ويحترمهم ويُحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالعدل واتباع الشرع المطهَّر، ويعقد مجالس العدل، ويتولاها بنفسه، ويجتمع في ذلك القاضي والفقهاء والمفتون من سائر المذاهب، ويجلس يوم الثلاثاء في المسجد المعلق الذي بالكشك؛ ليصل إليه كل من المسلمين وأهل الذمة حتى يساويهم.

 

وأظهر بالبلاد السنَّةَ، وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بـ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأقام الحدود، وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارًا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، وأقطع الأعراب إقطاعات؛ لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق بيمارستانًا لم يُبنَ في الشام قبله مثله ولا بعده، وجعل من شروط وقفه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه، فلا يُمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه، فلا يُمنع من شرابه؛ ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله، وقيل: إنه لم تُخمد منه النار منذ بني إلى قرن قبل اليوم.

 

وبنى أيضًا الخانات في الطرق؛ فأمن الناس، وحفظت أموالهم، وباتوا في الشتاء في ستر من البرد والمطر، وبنى أيضًا الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج، وجعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي، فإذا رأوا من العدو أحدًا، أرسلوا الطيور؛ فأخذ الناس حذرهم، واحتاطوا لأنفسهم، فلم يبلغ العدو منهم غرضًا، وكان هذا من ألطف الفكر وأكثرها نفعًا.

 

ووقف الأوقاف على من يعلِّم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين، وله أوقاف دارَّة على جميع أبواب الخير، وخاصة على الأرامل والمحاويج.

 

وكان الجامع الأموي بدمشق قد أصابته أمور، فولَّى نظره القاضي كمال الدين الشهرزوري، وولاه قضاء دمشق، فأصلح أمور الجامع، وفتح المشاهد فيه التي أغلقت منذ حريق 461هـ، وأضاف إلى أوقاف الجامع أوقافًا كثيرة.

 

بيمارستان نور الدين بدمشق.

وبنى بدمشق دار الحديث دار السنة النورية ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفًا كثيرة، وجعل شيخها الحافظ الكبير ابن عساكر، وهو أول من بنى دارًا للحديث، وأصلح الكثير من المساجد التي تحتاج إلى إصلاحٍ أو تجديد.

 

وأمر بإكمال سور المدينة المنورة، واستخراج العَيْن التي بأُحد، وبنى الرُّبط والجسور والخانات، وبنى أسوار مدن الشام جميعها، وقلاعها، وحصَّنها، وأحكم بناءها، وبنى المدارس في بلدان الشام للشافعية والحنفية، وبنى الجوامع في جميع البلاد، فجامعه في الموصل إليه النهاية في الحسن والإتقان، وبنى أيضًا بمدينة حماة جامعًا على نهر العاصي، من أحسن الجوامع وأنزهها.

 

وبنى الربُط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأما ما كان يُهدى إليه من الهدايا من الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرف في شيء منه، بل إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي، يحصل ثمنه ويُصرف في عمارة المساجد المهجورة، وكان يزور المقادسة الحنابلة في جبل قاسيون، وبنى لهم المدرسة الصغيرة والمصنع والفرن.

 

وأما زهده وعبادته وعلمه، فقال فيه الإمام أبو شامة: إنه مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها، لا يأكل ولا يلبَس ولا يتصرف فيما يخصُّه إلا من ملك كان قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك، فأخذ ما أفتَوْه بحلِّه، ولم يتعدَّه إلى غيره البتة، ولم يلبَس قط ما حرَّمه الشرع من حرير أو ذهب، ومنع من شرب الخمر، وبيعها في جميع بلاده، ومن إدخالها إلى بلد ما، وكان يحدُّ شاربها الحدَّ الشرعي، كلُّ الناس عنده فيه سواء.

 

وكان يصلي كثيرًا في الليل، ويدعو ويستغفر ويقرأ، ولا يزال كذلك إلى أن يركب صباحًا، وكان عارفًا بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ليس عنده تعصُّب، بل الإنصاف سجيته في كل شيء، وسمع الحديث وأسمعه؛ طلبًا للأجر، وعلى الحقيقة، فهو الذي جدَّد للملوك اتِّباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك؛ فإنهم كانوا قبله كالجاهلية، حتى جاء الله بدولته، وكان حسن الخط، كثير المطالعة للكتب الدينية، مُتتبعًا للآثار النبوية، مواظبًا على الصلوات في الجماعات، عاكفًا على تلاوة القرآن، حريصًا على فعل الخير، عفيف البطن والفَرْج، مقتصدًا في الإنفاق، لم تسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا ضجره، وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سُنَّة يتَّبعها.

 

قال ابن الأثير:

قد طالعت تواريخ الملوك والمتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز ملكًا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يُوليه، وإنعام يسديه، وكان نور الدين إذا جاء إلى زوجته الخاتون عصمة الدين ابنة معين الدين أنر – وكانت صاحبة خيرات ومبرات كثيرة – يجلس في المكان المختص به، وتقوم في خدمته، لا تتقدم إلا أن يأذن في أخذ ثيابه عنه، ثم تعتزل عنه إلى المكان الذي يختص بها، ويتفرَّد هو، يطالع رقاع أصحاب الأشغال، أو في مطالعة كتاب أتاه، ويجيب عنهما، وكان يُصلي فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء ونام، يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة إلى بكرة، فيظهر للركوب، ويشتغل بمهام الدولة.

 

وكانت عادته في الصدقة أن يُحضر جماعة من أماثل البلد في كل محلة، ويسألهم عمَّن يعرفون في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم.

 

وكذلك كانت زوجته خاتون تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وِردِها، فأصبحت وهي غضبى باكية، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوَّت عليها وردها، فأمر نور الدين منذ ذلك الوقت بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر؛ لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرًا جزيلًا وجراية كثيرة.

 

وإذا أقبل أحد العبَّاد والزهاد يقوم له مذ تقع عينه عليه، ويجلسه معه على سجادته، وكذلك كان أيضًا يفعل بالعلماء من التعظيم والتوفير والاحترام، ويجمعهم عند البحث والنظر، فقصدوه من البلاد الشاسعة.

 

وبالجملة، كان أهل الدين عنده في أعلى محل وأعظمه، وكان أمراؤه يحسدونه على ذلك، وكان الحافظ ابن عساكر يحدِّث أن مجلس نور الدين عليه الهيبة والوقار، بحيث كان الحضور كأنما على رؤوسهم الطير، إذا تكلم أنصت الجميع، وإذا تكلم أحد العلماء استمع له.

 

وأمَّا عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة، وأعدلهم حكمًا، فمن عدله أنه لم يترك في بلد من بلاده ضريبة ولا مكسًا ولا عُشرًا، وكان يتحرى العدل، وينصف المظلوم من الظالم، كائنًا من كان، القوي والضعيف عنده في الحق سواء، وكان يسمع شكوى المظلوم، ويتولى كشف حاله بنفسه، ولا يَكِلُ ذلك إلى حاجب ولا أمير.

 

ومن عدله: أنه كان يُعظم الشريعة المطهرة، ويقف عند أحكامها، ولو على نفسه؛ فمن ذلك أن رجلًا خاصمه في ملك، فأرسل إلى القاضي يقول له: إنني قد جئت محاكَمًا، فاسلك معي مثل ما تسكله مع غيري، فلما حضر ساوى خصمه، وخاصمه وحاكمه، فلم يثبت عليه حق، وثبت الملك لنور الدين، فقال نور الدين حينئذ للقاضي ولمن حضر: هل ثبت له عندي حق؟ قالوا: لا، فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا الملك الذي قد حاكمني عليه، وهو له دوني، وقد كنت أعلم أن لا حق له عندي، وإنما حضرتُ معه؛ لئلا يُظن بي أني ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لي وهبته له.

 

ومن عدله: أنه أمر ببناء دار العدل، وهو أول من بنى دارًا للكشف، وسماها دار العدل، فلما فرغت دار العدل، جلس نور الدين فيها لفصل الحكومات والخصومات، وكان يجلس في الأسبوع مرتين وعنده القاضي والفقهاء، بقي كذلك مدة.

 

ومن فضائله: أنه جلس يومًا يفكر طويلًا، فسئل عن ذلك؟ فقال: إنني أفكر في والٍ وليته أمرًا من أمور المسلمين، فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك، فبالله عليكم – وإلا فخبزي عليكم حرام – لا ترون قصة مظلوم لا ترفع إليَّ أو تعلمون مظلمة إلا وأعلمتموني بها، وارفعوها إليَّ.

 

وأما جهاده: فقد استرجع نيفًا وخمسين مدينة من الصليبيين، وكان قد هيأ العدة لفتح بيت المقدس، فتوفي قبل أن يحقق ذلك على يديه.

 

وأما شجاعته: فقد كانت النهاية إليه فيها؛ فإنه أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأيًا، وبه كان يُضرب المثل في ذلك، وكان إذا حضر الحرب باشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرَّضت للشهادة فلم أدركها.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/89917/#ixzz6DIdbezgi