يقترن تاريخ الحضارية البشرية منذ أقدم العصور باستقرار الأمن والسلام، فالسلام في مقدمة الحاجات الأساسية التي لا سبيل إلى تقدُّم الفرد والمجتمع قبل إشباعها، ومن ثم فقد استقرَّ في ضمير الإنسان هدفًا أصيلاً يسعى إلى بلوغه، وقيمة دينية واجتماعية، يضحي بالكثير من وقته وجهده وماله – بل بنفسه أحيانًا – في سبيل تثبيتها، فلقد خُلق الإنسان اجتماعيًّا بالطبع، وأدركَت الجماعاتُ البشرية منذ فجر التاريخ أن إقرار الأمن والسلام بينها هو الدعامة الأولى لتعاونها، في سبيل تحقيق مصالحها المشتركة، التي تكفل لها الاستمرار في البقاء، والسير في مضمار الرقي والنهوض؛ ذلك أنها وعَت بالتجربة أن الشِّقاق والتنازع من شأنهما أن يُضعِفا الروابط بين بعضها وبعض، وقد يستفحلان حتى يقطعا هذه الروابط، فتشن إحداهما الحربَ على الأخرى، الأمر الذي يؤدِّي إلى إلحاق أضرار بالغة بالمنتصر والمنهزم على السواء.

 

فلا غَرو أن كان السلام من أهم المبادئ التي دعَت إليها الرسالات السماوية، وأن يؤكد الدين الإسلامي هذا المبدأ كهدفٍ من أهدافه السامية وكوسيلة – من الوسائل في نفس الوقت – لتحقيق سائر الأهداف، وليس ثمةَ دليل على أَولوية السلام بين القيم الإنسانية التي أرساها الإسلام من أن الله تعالى سمَّى به ذاتَه سبحانه، فكان اسمًا من أسماء الله الحسنى.

 

﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ ﴾ [الحشر: 23]، كذلك فقد سمى الله دينه الحق بالإسلام، وسمى أهله بالمسلمين:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

ومن الواضح أن مصدر هذه التسمية هو نسبتها إلى السلام، وهو نقيض العدوان، كما تدل على ذلك أرجح التعاريف، ولتأكيد معنى السلام كفاية أساسية في العقيدة اتَّخذه الإسلام شعارًا لأهله من مختلف أنحاء العالم، فهو تحية المسلم التي يرددها حين يلقى أخاه المسلم أو يودعه، وهو كلمة الختام التي يكرِّرها مرتين في صلواته الخمس كل يوم، وليس ثمة تعظيم للسلام أكبر من أن ينص عليه في شعائر إحدى الفرائض الإسلامية الخمس جنبًا إلى جنب مع ذكر الله ورسوله، ترسيخًا له في نفوس المسلمين، وتعميقًا لمعناه في أذهانهم، وحثًّا لهم على انتهاج طريقه.

 

إن النفس الإنسانية بطبيعتها أمَّارة بالشر، وهي في سبيل تحقيق مطامعها قد تنحرفُ عن الطريق السويِّ، فيعمد الفرد أو الجماعة إلى التنازع مع الآخرين لتنفيذ أغراضه الذاتية، وقد يصل التنازع بين الجماعات المختلفة إلى حد الالتجاء إلى البطش والعدوان، فتثور الحروب ويتسع نطاقها حتى تشمل كثيرًا من بِقاع الأرض؛ مما يؤدِّي إلى انهيار المدنيات التي شادتها الشعوبُ بعد تضحيات، وإلى عودتها القهقرى إلى مرحلة التخلُّف، واضطرارها مرغمة إلى دفع الثمن غاليًا في سبيل تعويض هذا التخلف والتقدم إلى الأمام، ولم تغب هذه الحقيقة عن الإنسان في كافة المراحل التي خاضتها البشريةُ منذ نشأتها الأولى، فكان العمل على إقرار السلام عن طريق إقامةِ العلاقات الودِّية وعقد المواثيق والمعاهدات بين العشائر والقبائل والشعوب – من أهمِّ الأغراض التي سعَت إليها الجماعات، ومن أجل ذلك أيضًا كثرت التفسيرات حول مفهوم السلام وتحديدِ مقوماته، كما يدل على ذلك استعراض تاريخ الأديان والفلسفات والمذاهب الفكرية المختلفة.

 

وقد ظل السلام معنًى شائعًا غير محدد، يختلف تفسيره باختلاف الزمان والمكان وطبائع الشعوب، فكان هناك سلامٌ روماني، وسلام مسيحي، وأنواع أخرى من السلام، حتى جاء الإسلامُ في القرن السابع الميلادي؛ فحدَّد مضمونَه، وأرسى له – لأول مرة – قواعد وأسسًا واضحة لا تحتمل الاختلاف في التأويل، فالسلام في الدين الإسلامي ضرورة لا غِنى عنها لصلاح العالم وخيره وتقدُّمه، ومن ثَم فهو غاية ينبغي أن تحتل مكانتها في الصدارة بين الغايات الحميدة التي يدعو إليها، أما جوانبه فلقد حدَّدها في السلام بين العبد وبين نفسه، ثم السلام بينه وبين الله تعالى، ثم السلام بينه وبين سائر الناس.

 

فلكي يعيش المرءُ في أمن، يكفل له التفرُّغ لبناء حياته، والإسهام في بناء العقيدة والمجتمع وتنميتهما؛ يجب أن يُؤمن بالسلام سبيلاً لذلك، وأن يدعم إيمانه بالسلوك والعمل الإيجابي، فإذا جاءه أخٌ له في الإنسانية يبتغي التعارف والألفة والتعاون، فليمد له يدَه وليمنحه ثقته وليتعاون معه، وبذلك تصلح النفوسُ ويزايلها القلق، فينصلح المجتمع وتتقدم البشرية.

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقول السلام في الشريعة الإسلامية واجب على المسلم كلما جاءه أحد المؤمنين بدين الله الحق: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 54].

 

بل إن قولة السلام واجبة حتى لمن اتَّسم بالفظاظة وسوء الخُلق؛ حتى لا يتحول الأمرُ إلى صِراع ينتهي بالخصومة والعدوان، وتترسب عنه أحقاد كامنة، لا تلبث أن تشعل الحرب من جديد للأخذ بالثأر، وتتوالد بذلك العداوات، وتستمر الحروب التي كانت بدايتها الأولى لا تَعْدُو لفظًا جارحًا أو سلوكًا نابيًا؛ ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾[الفرقان: 63].

 

على أن السلام في الإسلام لا ينصرف إلى معنى الضعف والاستسلام، فالمؤمن القويُّ خير من المؤمن الضعيف؛ لذلك كان انتهاج سبيل السلام وقفًا على رغبة الطرف الآخر غير المسلم وعلى سلوكه؛ فإذا كان متمسكًا به، عاملاً على إقامته، وجب معاملته بالمثل، أما إذا لجأ إلى القوة، فإن الحرب مشروعة؛ لأنها حرب دِفاع لا عدوان: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

 

﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194].

 

﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8، 9].

 

ويتبين بجلاء من هذه الآيات الكريمة أن السلامَ مبدأٌ جوهري في الإسلام، يلتزم به المسلمون جميعًا، ولا يجوز لهم الخروج عليه إلا في حالتين تصبح فيهما الحرب ضرورة شرعيَّة لا مفر منها؛ وهُما محاربة المشركين إقرارًا لدين الله، وردُّ العدوان دفاعًا عن النفس.

 

ولما كان السلام هو الأصل، والحرب هي الاستثناء؛ فلقد أمر اللهُ بإنهاء القتال إذا عدل العدوُّ عن العدوان، وأفصح بقوله وفعله عن رغبته في السلام؛ ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الأنفال: 61].

 

والتاريخ الإسلامي حافلٌ بالوقائع الثابتة، التي تؤكد هذا المبدأ العظيم من المبادئ الإسلامية، وما أشد حاجتنا في عالم اليوم الذي تفرَّقَت فيه المذاهب وانقسمت الدول إلى معسكرين متطاحنين، يخشى أن تؤدي حدة الصراع بينهما إلى انغماس العالم بأسرِه في أَتون حربٍ مدمِّرة، وتهديد الحضارة الإنسانية، بل الجنس البشري قاطبة بالفناء – ما أشد حاجتنا إلى أن نعود إلى تعاليمنا الأصيلة، وأن نبشر بها التزامًا بقواعد الشريعة الغراء، ونشرًا لمبادئ جمهوريتنا الناهضة في الدعوة إلى نبذ الحرب، وحل المشكلات عن طريق الوسائل الودية، وهي مبادئ تستلهم دينَنا القويم، وتستقي أصولها من ينابيعه الخالدة.