الدين والتدين (2)

د. محمد حسين الذهبي

وقف البشر من الديانات ومدى تمسكهم بها

وبعد فما هو موقف البشر من الديانات، وما مبلغ تمسكهم بها؟

هل استجابت كل أمة لرسولها؟. وهل وقف أتباع كل دين عند حدوده والتزموا بتعاليمه التي دعا إليها، وتشريعاته التي نص عليها؟، أو أنهم ارتكسوا في حمأة الغي والضلال، ونكصوا على أعقابهم عائدين إلى نزعات أهوائهم ونزوات شهواتهم؟

 

الواقع: أن البشر أمام هذه الديانات فرق شتى:

ففريق لزم الجادة فاتخذ دينه الذي هداه الله إليه سبيله في الحياة، لا يحيد عنه ولا يميل، فسعد وشق طريقه إلى ما فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة.

 

وفريق ثان آمن بدينه الذي أرشده الله إليه، ولكنه رغم إيمانه به انحرف عنه في سلوكه ظاهرًا وباطنًا، وجاهر بالمخالفة، وبارز الله بالمعصية في غير مبالاة ولا حياء، فشقي في حياته الدنيا، وعرَّض نفسه لسخط الله وعقابه.

 

وفريق ثالث آمن بدينه الذي ارتضى الله له، ولكنه نافق واتخذ التدين شعارًا زائفًا يموه به على العامة، ويخدع به من ينطلي عليهم زوره وبهتانه، وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المنافقين، وبين مآلهم وعاقبة أمرهم فقال: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون – أي يطلبون – الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل: أبي يغترون؟ أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيران[1]»[2].

 

وفريق رابع جحد الأديان كلها، وزعم أنها جميعا أوهام وأباطيل مستحدثة، يقول أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه “الدين” (ص 73 وما بعدها): ” ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر الذين مهدوا للثورة الفرنسية إلى أن الديانات والقوانين ما هي إلا منظمات مستحدثة، وأعراض طارئة على البشرية، حتى قال (فولتير): إن الإنسانية لا بد أن تكون قد عاشت قرونًا متطاولة في حياة مادية خالصة، قوامها الحرث، والنحت، والبناء، والحدادة، والنجارة… قبل أن تفكر في مسائل الديانات والروحانيات، بل قال: إن فكرة التأليه إنما اخترعها دهاة ماكرون، من الكهنة، والقساوسة الذين لقوا من يصدقهم من الحمقى والسخفاء “.

 

ثم بين [الدكتور دراز] -رحمه الله- أن هذه النظرة الساخرة إلى الأديان ليست مبتكرة، وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان، وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات. ثم قال: ” إنه لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم: حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوربا، واكتشفت العوائد، والعقائد، والأساطير المختلفة، وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية “. ثم قال: “… ولسنا ننكر أن تكون هناك عقيدة معينة قد استحدثت في عصر ما، أو أن يكون ثمة وضع خاص من أوضاع العبادات قد جاء مجلوبًا مصنوعًا، فذلك سائغ في العقل، بل واقع بالفعل، أما فكرة التدين في جوهرها، فليس هناك دليل واحد على أنها تأخرت عن نشأة الإنسان “.

 

وأخيرا هناك فريق خامس: هو فريق العلمانيين الماديين، الذين لم يستطيعوا أن ينكروا أن هناك ديانات عريقة في القدم، ولكنهم زعموا – زورًا وبهتانًا – أنها شاخت بمرور الزمن، ولم تعد صالحة في وقت بلغت البشرية فيه ما بلغت من تقدم في العلم ورقي في الحضارة.

 

يقول أصحاب هذا المذهب وعلى رأسهم (أوجست كونت): ” إن العقلية الإنسانية قد مرت بأدوار ثلاثة: دور الفلسفة الدينية، ثم دور الفلسفة التجريدية، ثم دور الفلسفة الواقعية، وهذا الدور – في نظره – هو آخر الأطوار وأسماها، فبعد أن كان الناس يعللون الظواهر الكونية بقوة أو قوى إرادية خارجة عنها، انتقلوا إلى تفسيرها بمعان عامة، وخصائص طبيعية كامنة فيها، كقوة النمو، والمرونة، والحيوية… إلخ، ثم انتهوا إلى رفض كل تفسير خارجي أو داخلي، واكتفوا بتسجيل الحوادث كما هي، ومعرفة ما بينها من ترابط وجودي، بقطع النظر عن أسبابها وغاياتها، وعلى هذا يكون دور التفكير الديني يمثل الحال البدائية التي تلهت بها الإنسانية في مرحلة طفولتها، فلما شبت عن الطوق خلعتها لتستبدل بها ثوبا وسطا في دور مراهقتها، حتى إذا بلغت أشدها، واكتمل رشدها أخذت حلتها الأخيرة من العلوم التجريبية “[3].

 

ويعلق على هذا المذهب أستاذنا المرحوم الشيخ محمد عبد الله دراز فيقول: ” نقطة الخطأ البارزة في هذا المذهب التطوري، هي أن أنصاره جعلوا منه قانونًا يستوعب التاريخ كله في شوط واحد، قطعت الإنسانية ثلثيه بالفعل، ونفضت أو كادت تنفض يدها منهما إلى غير رجعة، فلن تعود إليهما إلا أن يعود الكهل إلى طفولته وشبابه “[4].

 

ثم يمضي في مناقشة هذا المذهب مبينا أن الأدوار الثلاثة المذكورة ” لا تمثل أدوارًا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائمًا على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوسٍ وسعود[5]“.

 

مستحيل أن تزول الديانات وتتلاشى ظاهرة التدين أمام تيار المادية:

كل ما يقوله الماديون من أن الديانات سوف تزول، وأن ظاهرة التدين سوف تتلاشى أمام تيار المادية الجارف، وإعصار العلم العاصف، ليس إلا وهمًا باطلا وخيالًا صوره لهم خداع الغرور العلمي الذي غطى على كثير من العقول.

 

قال العلماء الماديون ما قالوا في تقرير هذه الفكرة الحمقاء وتبريرها، ونقول لهم: أي دليل مادي أو عقلي أمكنكم أن تقيموه على صحة ما تدعون؟ ليس هناك إلى اليوم دليل واحد يؤيد ما تقولون من أن العلم والدين نقيضان لا يجتمعان فلا بد أن يزول الثاني بوجود الأول، بل على العكس من ذلك قامت أدلة كثيرة مادية وعقلية على أن الدين يساير العلم ولا يناقضه.

 

بل كلما تقدم العلم خطوة كان الدين عندها، وكلما كشف العلم عن سر من أسرار الكون، كلما برزت حقيقة الألوهية المبدعة جلية واضحة، وازداد العقلاء المتدينون إيمانًا فوق إيمانهم، بل وكثيرًا ما رجع المفتونون بالعلم والمادة عن فتونهم فآمنوا بأن للكون مبدًعا يجب أن تتعلق به القلوب وتذل له الجباه.

 

ولقد أشار القرآن في وضوح إلى أنه لا تنافي بين العلم والدين، بل نراه في أكثر من آية يوقظ العقول من رقدتها، وينبه القلوب من غفلتها ويصيح بالناس في لهجة الآمر الصارم أو المنكر اللائم: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 20، 21]، ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 185]. وأخيرًا يفتح أمامهم كتاب الكون بما حواه من أسرار العلم وعجائب المعرفة التي لا يزال يظهر منها كل يوم جديد وغريب فيقول: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].

 

ولقد أنصف بعض علماء الغرب وفلاسفتهم فأكدوا أن هذه النظرية القائلة باضمحلال الدين والتدين أمام تقدم العلم، نظرية باطلة، وقرروا أن العلم يخدم الدين ويدعمه، يقول الدكتور (ماكس نوردوه) عن الديانات: ” أنها ستبقى ما بقيت الإنسانية، وستتطور بتطورها، وستتجاوب دائمًا مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة[6]“.

 

ويقول (آرنست رينان): ” إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطل حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية[7]“.

 

ويعلق المرحوم الأستاذ محمد فريد وجدي على قول رينان السابق فيقول: ” نعم مستحيل أن تتلاشى فطرة التدين في الإنسان، لأنها أشرف ميول النفس، وأكرم عواطفها،… ففطرة التدين ستلازم الإنسان ما دام ذا عقل يعقل به القبح والجمال، وروية يجيلها في الكون والكائنات، وستزداد فيه هذه الفطرة حياة وقوة على نسبة علو مداركه، وسمو معارفه[8]“.

 

وبعد فقد انتهى المبشرون بالمذهب المادي إلى الحقيقة الناصعة، وقعدوا يلهثون بعد ما أتعبوا أنفسهم في تدعيم مذهبهم والترويج له، وإذا بهم يرون أنفسهم وعلومهم لا شيء أمام هذا المذهب المحجب بحجب كثيفة وكثيرة، فلا يكاد العلم يرفع لهم حجابًا إلا ويجدون من ورائه حجبًا، ولا ينفك البحث يصل بهم إلى حقيقة إلا ويلمحون من وراء الغيب حقائق أخرى وأعظم… وأخيرًا يستسلمون لمن هو وراء هذه الحجب والمغيبات، يديرها بعلمه وعلى مقتضى حكمته.

 

نعم رأينا زعماء هذا المذهب المادي يستسلمون أخيرًا لواهب الوجود، ويلوذون برواق الدين هربًا من ماديتهم المتخبطة، وعلمانيتهم المحيرة، فهذا (كونت) الذي كان يتنبأ بأن فناء الديانات سيكون هو النهاية الحتمية لتقدم العلوم، قد عاد في آخر أمره متصوفًا عجيبًا، وكلّل حياته بوضع ديانة جديدة طبعها على غرار النظام الكنسي للديانة الكاثوليكية: في عقائدها، وطقوسها، وأعيادها، وطبقات قساوستها، رواية كاملة أعاد فصولها ولم يغير إلا أشخاصها[9].

 

” وهذا سبنسر، ينتهي بأن يقول عن المجهول: (إنه تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول، بل هي مبدأ كل معقول، وهي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود)… أليس هذا المجهول هو بعينه موضوع الديانات، يجيئنا الآن باسم آخر على لسان العلم؟ “[10].

 

أثر الدين في حياة الفرد والمجتمع:

قلنا فيما تقدم: أن نزعة الدين في النفوس نزعة فطرية، ونقول الآن: إن ما فطرت عليه النفوس لا يمكن لها بسهولة أن تنفك عنه، ولو انفكت عنه لكان معنى ذلك أنها انتكست وتردت إلى مستوى الحيوان الأعجم الذي لا يملك عقلا ولا نظرًا ولا بصيرة.

 

وإذا كنا نرى أناسًا قد انحرفوا عن الدين، فليس معنى ذلك أنهم انسلخوا من فطرتهم، وإنما هو مجرد ضعف طارئ أمام مغريات المال أو الجسد تارة، ونزعات العقل تارة أخرى، ووساوس الوهم تارة ثالثة، ثم لا يلبث أن يزول هذا العرض الطارئ عن جوهر الفطرة فإذا بها نقية طاهرة على نحو ما فطر الله الناس عليها.

 

ولقد نعلم أن القرآن الكريم أشار في أكثر من آية إلى أصالة هذه الفطرة في جميع بني الإنسان وأن ما طرأ عليها ليس إلا انحرافًا، لا يلبثون أن يرجعوا عنه عندما تكتنفهم الخطوب، وتنزل بهم الكروب، يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 67] “، ويقول: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [يونس: 22، 23].

 

معنى ذلك أن الدين يحقق الكمال الإنساني للبشرية، فإذا هي حادت عنه، أو تنكرت له فقد حادت عن الكمال إلى النقص، وتنكرت لما هو مصدر خيرها ومورد سعادتها.

 

نعم إن الدين يحقق الكمال ويوفر الخير والسعادة للبشرية كلها أفرادًا وجماعات، ونوضح ذلك فيما يلي:

أما بالنسبة للفرد:

1 – فالدين عنصر ضروري لتكميل القوة النظرية في الإنسان، فهو يخرج بالعقل والفكر عن سجن الماديات والمحسوسات إلى مجال الغيب الفسيح الذي يجد العقل فيه متعته ولذته من غير حدود ولا قيود، وبهذا تتسع مدارك الإنسان ويتفتح عقله على معارف شتى تشق أمامه الطريق إلى ما فيه خيره وسعادته.

 

2 – والدين عنصر ضروري لتكميل الوجدان، حيث يدعو إلى تعلق المخلوق بالخالق، وعرفان ماله عليه من فضل ومنه، ومراقبته في السر لاعتقاده أنه يراه، وبهذا تقوى عند الإنسان عاطفة الحب، والشكر، والإخلاص، والحياء، والأمل، وغيرها من العواطف التي قد لا تجد لها في دنيا الناس معينًا يغذيها وينميها. وبهذا تسمو عاطفة الإنسان نحو الخير دائما، فيستقيم على الجادة، ويمضي في حياته طاهر القلب نقي الوجدان.

 

3 – والدين عنصر ضروري لقوة الإرادة عند الإنسان، فهو يمدها بأعظم البواعث والدوافع لعمل الواجب، ويحصنها بأقوى الوسائل لدفع اليأس ومقاومة القنوط، وبهذا يمضي الإنسان في طريقه إلى ما تطمح له نفسه من أماني وآمال وهو لا يلوي على شيء.

 

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه *** ونكب عن ذكر العواقب جانبا

 

وأما بالنسبة للمجتمع:

1 – فالدين بما حواه من هداية إلهية وتشريعات سماوية، يكفل للمجتمع الإنساني كل عوامل السعادة والأمن والاستقرار، ولا يكون ذلك أبدا عن تشريع وضعي وضعه فرد أو جماعة لأمة معينة؛ ذلك لأن الإنسان مهما سما فكره ونضج عقله لا يمكن أن يحيط خبرًا بكل ما يوفر للإنسانية سعادتها وأمنها واستقرارها، لأنه – لاعتبارات وملابسات شتى- قد يرى الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًا، وقد يظن النافع ضارًا، والضار نافعًا، وقد يشرع على وفق ميوله وهواه دون مراعاة للمصلحة العامة، وينتهي به الأمر إلى تشريع يقوض ولا ينظم، ويدمر ولا يعمر، ومن وراء ذلك ضياعه وضياع الجماعة التي يعيش بينها.

 

والله الذي خلق الإنسان، وركّب فيه طبائعه ونوازعه، وآماله وآلامه، وإيثاره وأثرته، ورغباته وشهوته، هو الخبير بكل علله وأدوائه، والعليم بوسائل شفائه، وناجع دوائه، فهو وحده الذي يقدر أن يضع للجماعات الإنسانية من الشرائع والقوانين ما يحقق لها أسباب السعادة، ويوفر لها عوامل العزة والمنعة، ويهيئ لها كل وسائل الأمن والاستقرار، وذلك يكون في نطاق دين يدعوها إليه على لسان رسول منها، ويتعبدها به على أنه الدين الحق الذي لا يحيد عنه إلا هالك.

 

2 – والدين بعد ذلك هو السلطان المهيمن على نفوس المؤمنين به، يحملهم على الأخذ بتعاليمه، ويدفعهم إلى القيام بما سنه لهم من تشريع وتنظيم، ويدفعهم إلى التحلي بالفضائل، ويحول بينهم وبين ارتكاب الرذائل، وليس هناك وراء الدين شيء يهيمن على النفوس، فلا العقوبات المادية تغني، ولا سلطان الحاكمين يجدي، وحرمة النظم والقوانين أيا كانت لا يكفلها شيء من ذلك، وإنما يكفلها ويرعاها شيء واحد هو الضمير الديني الذي ينبع من قرارة النفوس المؤمنة التي تراقب الله في سرها وعلنها.

 

3 – والدين يجعل الجماعة الإنسانية على قلب رجل واحد، يجمعهم على الخير والبر، ويؤلف بين قلوبهم حتى يكونوا إخوة متحابين متناصحين، متعاونين، متكافلين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

 

هذه الأخوة الدينية هي الأخوة الشاملة الكاملة، التي تجمع بين أجناس شتى؛ تباعدت أوطانهم، وتباينت لغاتهم، وتعددت ألوانهم.. أما الأخوة التي تقوم على وحدة الوطن أو وحدة اللغة، أو وحدة اللون أو الجنس فتلك أخوة ضئيلة هزيلة، بل هي في الواقع محض عصبية وعنجهية، ومجرد تكاتف على الأثرة والأنانية وحب الذات وكراهية الغير!!.

 

والخلاصة: ” أن الدين – كما يقول أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز -: ” يضع للإنسانية المنهج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة، ويضفي عليه صبغة القدسية، بحيث يصبح سلوك هذا المنهج ضربًا من ضروب الدين، وبابًا من أبواب القربات والعبادات، فضلا عن كونه تحقيقًا لمبدأ العدالة، وتلبية لداعي الفطرة السليمة “.

 

” وليست قوانين الجماعات، ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة، تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط، أو السجن، أو العقوبة المادية، لا يلبث أن يهمله عن اطمئنان إلى أنه سيفلت من طائلة القانون “.

 

” ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضًا عن التربية والتهذيب الخلقي، ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي، يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد، ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان “.

 

” غير أن الإيمان على ضربين: إيمان بقيمة الفضيلة، وكرامة الإنسانية، وما إلى ذلك من المعاني المجردة، التي تستحيي النفوس العالية من مخالفة دواعيها ولو أعفيت من التبعات الخارجية والأجزية المادية. وإيمان بذات علوية رقيبة على السرائر، يستمد القانون سلطانه الأدبي من أمرها ونهيها، وتلتهب المشاعر بالحياء منها، أو بمحبتها، أو بخشيتها، ولا ريب أن هذا الضرب هو أقوى الضربين سلطانًا على النفس الإنسانية، وهو أشدهما مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواصف وأسرعهما نفاذًا في قلوب الخاصة والعامة “.

 

” من أجل ذلك كان هذا الدين خير ضمان لقيام التعاون بين الناس على قواعد العدالة والنصفة، وكان ذلك ضرورة اجتماعية، كما هو فطرة إنسانية[11]“.

 

المصدر:
مجلة البحوث الإسلامية – العدد الأول رجب 1395هـ

[1] رواه الترمذي عن أبي هريرة.

[2] التصرف هنا يوهم أن النفاق يكون في آخر الزمان فقط والواقع أن النفاق قد تم منذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وذد ذكر الله سبحانه بين الأصناف الثلاثة أول سورة البقرة: ومن الناس من يقول آمنا ….. الآية بل إن للمنافقين سورة خاصة بهم في القرآن. ( تعليق المجلة ).

[3] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 77.

[4]الدين ص 77.

[5] المرجع السابق ص 78.

[6] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 80.

[7] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 80

[8] دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ محمد فريد وجدي، في مادة (دين).

[9] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 87.

[10] المرجع السابق .

[11] الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص 92 93.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/136046/#ixzz64O0ifzAM