الحكمة من تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم

لقد أباح الإسلام تعدد الزوجات كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ﴾ [النساء: 3-4].

إن العلاقة بين الشرط وجوابه في صدر الآية لها دلالة دقيقة وعظيمة، فإن بداية الآية تبين أن من خاف أن لا يعدل في حق اليتيمة التي تكون في حجره وهو وليّ أمرها، يرغب في مالها وجمالها فيريد الاستئثار بها لنفسه أو لولده. ولكنه يجد مشقة في دفع الصداق لها كاملاً ومعاملتها في قضايا النفقة والسكنى كالنساء الأخريات فيما لو تزوج بغريبة منه، فالآية الكريمة تبين أن من كان هذا حاله مع اليتيمة فلينصرف عنها إلى غيرها ولينكح ما طاب له من النساء إن شاء بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع بشرط أن يشعر في نفسه العدل والقيام بحقوقهن، أما إذا خشي على نفسه العجز أو الجور والظلم فليقتصر على واحدة على أن تكون غير اليتيمة التي انصرف عنها خوف الظلم.

أي أن الرجل لا ينبغي له أن يهرب من ظلم ويقع في ظلم آخر.

وجاء تأكيد مبدأ العدل والابتعاد عن الظلم بأمرين آخرين في الآية الكريمة قوله: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3] عند الخوف من الوقوع في الظلم لليتيمة أو الخوف من الوقوع بالظلم عند التعدد الاقتصار على الواحدة أو ملك اليمين، هذا الانصراف أقرب إلى الابتعاد من الجور أي إلى القرب من العدل. والتأكيد الثاني النصي على إعطاء الصداق للمرأة هبة طيبة بها نفسه فهو مظهر العدل ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4] ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بطيب نفسها.

لذا قال العلماء إن من يتيقن من نفسه عدم العدل بين النساء لا يجوز له التعدد. والعدل يلزمه في ثلاثة أمور:

الأول: العدل في المبيت بحيث يخص كل واحدة منهن بالمبيت ليلة عندها أو حسب الاتفاق بينه وبينهن، وتراعى في ذلك ظروف عمل الرجل وإقامته.

الثاني: العدل في الإنفاق بحيث يسد حاجة كل واحدة منهن من النفقة ولا يفضل إحداهن على الأخريات. وإن كان لإحداهن أولاد أكثر فيقدر إنفاقهم أيضاً ويضمه إلى نفقة والدتهم.

الثالث: العدل في السكنى، بحيث يكون لكل واحدة سكن يتناسب مع مستواه الاجتماعي وإمكاناته المادية سواء كان سكناً مستقلاً لكل واحدة، أو سكناً مشتركاً لكل واحدة ما يكفي حاجتها ويريح إقامتها فيه.

ومن شروط التعدد القدرة على الإنفاق على نسائه، فإن كان عالماً بضيق ذات يده بحيث لا يغطي حاجياتهن الأساسية من مطعم وملبس ومسكن، وسيعرضهن للحرمان أو الاستجداء فيأثم في التعدد.

وكذلك من شروط التعدد: القدرة على الإحصان، بحيث يقطع استشرافهن إلى الحرام.

ولا يلزم الرجل المساواة بين الزوجات في الحب، والميل الجنسي، لأن القلب ليس ملكه ولا يستطيع توزيع عواطفه ومشاعره بينهن بالتساوي.

لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقسم النفقة بين أمهات المؤمنين يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك، يشير بذلك إلى الناحية القلبية فالعدل في القضايا المادية الظاهرة. وهذه الحقيقة أشار إليها القرآن الكريم﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [النساء: 129].

وإذا كانت الآية تشير إلى عدم إمكان التساوي في الميل القلبي والرغبة، إلا أنه لا بد من توفر الحد الأدنى لكل واحدة منهن ما دامت على عصمته, وهو أن يشعرها بالاحترام والتكريم وأن يحصنها بحيث لا تشعر كأنها معلقة أقرب إلى المرأة المطلقة التي لا زوج لها.

زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم والحكمة في تعددهن:

كما وجه أعداء الإسلام سهامهم إلى تشريع التعدد في الإٍسلام فقد حاولوا تشكيك المسلمين في رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم، بالزعم أنه شرّع لأمته التعدد إلى أربع من النساء، وأباح لنفسه أكثر من ذلك فقد توفي وفي عصمته تسع من النساء. وحاولوا أن يلقوا في روع المسلمين أن الدوافع الشهوانية والنزوات الجنسية كانت وراء ذلك، – “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا” – ونحن نناقش هؤلاء بالعقل وبالوقائع التاريخية وبموضوعية علمية لإبراز الحكمة في تعدد الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع.

والرد العام والأولي الذي ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا:

أولاً: إن الرجل يكون في أعلى حالات طاقاته الشهوانية عندما يكون في سن الشباب من الخامسة عشرة إلى سن الكهولة في الأربعين من عمره، وتقل حدة الشهوة عنده بعد سن الخمسين بالتدريج ولو نظرنا إلى واقع زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم نجده تزوج بخديجة بنت خويلد وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يتزوج عليها إلى أن توفيت وكانت تكبره بخمسة عشرة عاماً أي كانت في الأربعين من عمرها عند الزواج واستمرت معه خمسة وعشرين عاماً فتوفيت وهي في الخامسة والستين ورسوله الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين. ثم تزوج بسودة بنت زمعة وكانت أكبر منه عمراً فقد كانت تكبره بخمس سنوات أي كانت في الخامسة والخمسين من عمرها. وسنفصل القول فيما بعد لبيان الحكمة في زواجه بكل واحدة منهن.

ثانياً: إن الذي يتزوج لإشباع رغبات شهوانية وسعياً وراء نزواته الجنسية يختار لنفسه فتيات صغيرات السن أبكاراً فاتنات جميلات. وواقع زيجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجد بين زوجاته بكر سوى عائشة رضي الله عنها فكلهن ثيبات منهن المطلقات ومنهن الأرامل توفي أزواجهن عنهن وكان بعضهن أكبر منه سناً، وكل ذلك يستبعد الدافع الشهواني، وإنما تكون هنالك حكم نبينها فيما يلي إجمالاً:

الحكمة الأولى: حكمة دعوية:

إن القائم بالدعوة إلى الله ينبغي أن يوجد الثقة بينه وبين أتباعه، ويرعى شؤونهم فيكون كالأب الحنون ومثل رب الأسرة في رعاية الضعفاء والمرضى والمحتاجين فإنه برعايته يورث المحبة في قلوب الأتباع، فالرجل يشعر بأن أسرته لن تضيع من خلفه إن هو قضى نحبه، وتدرك المرأة أنها لن تتعرض للفتنة إن دخلت دعوة الله وفارقت الأهل والأقرباء المشركين.

وهكذا كان واقع حال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين به. فلما توفيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة أرملاً ثم ذكرت له سودة بنت زمعة وكانت قد هاجرت مع زوجها السكران بن عمرو الأنصاري، فلما رجعا من الحبشة توفي الزوج، وكان أهلها وأقرباؤها من المشركين المعاندين المعادين لله ولرسوله، ولم تجرؤ سودة إلى العودة إلى أقربائها خوف الفتنة على دينها، وبقاؤها بدون معيل وراع لها يؤدي إلى ضياعها فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للزواج بها إنقاذاً لها من الفتنة أو الضياع، وكانت تكبره حينها بخمس سنوات حيث كانت في الخامسة والخمسين من عمرها.

وكذلك زواجه عليه الصلاة والسلام بأم سلمة، وجويرية بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة.

2- حكمة قريبة من الحكمة الأولى الدعوية:
فالمصاهرة مدعاة لتآلف القلوب وتوثيق الصلات، وفي أحداث التاريخ كم توقفت حروب بين القبائل والشعوب بسبب زواج أحد الطرفين من الآخر، وكم أزيلت إحن من القلوب بسبب الترابط والتزاوج. وكان هذا الدافع ما يرغب برسول الله صلى الله عليه وسلم من الزواج بكريمات بعض زعماء القبائل. فزواجه من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان روعي فيه جانب دعوي لتعويضها عن الزوج الذي فقدته عند هجرتها إلى الحبشة، وتكريم لها لصبرها وجهادها في غربتها ثم ليتألف قلب أبي سفيان الذي آلت إليه زعامة قريش بعد هلاك أبي جهل لذا عندما قيل له إن محمداً تزوج ابنتك من غير مشورتك – وكأنهم يريدون إثارته وتأليبه على رسول الله- قال هذا الفحل لا يقدع أنفه، فشعر بنوع من الاعتزاز بهذه المصاهرة، وكذلك زواجه بجويرية بنت الحارث من بني المصطلق حيث كان هذا الزواج سبباً في تحرير بني قومها من الرق والأسر فدخل بسبب زواجها البركة والفرحة إلى أكثر من مائة بيت من بني قومها، لأن الصحابة رضوان الله عليهم عندما سمعوا زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية وكانت ابنة سيد قومها، قالوا أصهار رسول الله كيف نسترقهم فأعتقوهم جميعاً. وصار بنو المصطلق بعد ذلك من أشد جند الله حيث أبدلوا المحبة والنصرة بالعداوة والبغضاء.

وكذلك زواجه بصفية بنت حيي بن أخطب ليكف شر اليهود من جهة وليدرك الناس أن دعوته للناس جميعاً وإرادة الخير لجميع الفئات والملل وليس القصد من دعوة الإسلام إذلال أقوام والتعالي عليهم بدون حق.

3- حكمة اجتماعية:

كما قلنا سابقاً إن المصاهرة توثق العلاقات بن الأسر والقبائل والأقوام، ويزيد من التآلف بين القلوب، فزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة بنت الصديق وبحفصة بنت عمر بن الخطاب كان فيه تكريم لوالديهما فهما الصاحبان الوزيران المجاهدان في سبيل الله من أقرب الناس إلى قلب رسول الله ودعوته ونصرته.

بل هناك نوع من التكريم حتى بعد استشهاد الرجال في معارك الإسلام لانتشال أسر الشهداء من الضياع والعوز، فزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت خزيمة وهي أرملة شهيد الإسلام (عبيدة بن الحارث ابن عبدالمطلب) أحد أبطال المسلمين الذين استشهدوا في بدر، وكانت الزوجة من المجاهدين تسعف الجرحى في المعركة، فكان زواجه بها مواساة لها وتكريماً لها ولزوجها المجاهد الشهيد بعد وفاته.

وكذلك فزواجه بأم سلمة بعد استشهاد زوجها أبي سلمة في غزوة أحد، وبقيت مع أطفالها الأربعة لا معيل لهم، فضمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عياله.

4- حكمة تعليمية:

لقد كانت أمهات المؤمنين – زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم- مرجعاً لنساء الصحابة رضوان الله عليهم في الفتيا والتعليم وخاصة ما يتعلق بقضايا النساء وأعذارهن والأسرة ومشاكلها لنقل الصورة المثالية للبيت المسلم، وكيفية التعامل بين أفراد الأسرة فحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أفراد أسرته الأنموذج والقدوة للاقتداء والتأسي ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ [الأحزاب: 21].

5- حكمة تشريعية:

ويتجلى ذلك في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، فعندما أراد الله سبحانه وتعالى إبطال عادة التبني التي كانت شائعة في الجاهلية، أمر الله رسوله أن يزوّج زيد بن حارثة مولاه ومتبناه من زينب بنت جحش، وعندما تردد أهلها لأنها الحسيبة النسيبة وهو المولى المحرر نزل قوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ﴾ [الأحزاب: 36]، فخضعت زينب وأهلها للأمر الرباني وقبلت الزواج من زيد، ولكن لم يشعر زيد بالسكن في بيت الزوجية للفارق الاجتماعي بينهما وجاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلاقها المرة تلو المرة ورسول الله يأمره بإمساكها والصبر عليها إلى أن أوحى الله إليه أنها ستكون زوجته في المستقبل لإبطال عادة التبني، فلما تردد رسول الله في التنفيذ جاء العتاب الإلهي فلم يكن أمامه إلا أن يأذن لزيد بطلاقها، فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول السيدة عائشة لو كان رسول الله كاتماً شيئاً مما أوحي إليه لكتم قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [الأحزاب: 37].

لقد كان هذا الزواج مفروضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنفذه رسول الله تطبيقاً والتزاماً لأمر الله تعالى على الرغم من الحرج الذي شعر به، لأن المشركين والمنافقين أطلقوا ألسنة السوء حول هذا الزواج ولا زالت شبهات المستشرقين وتلامذتهم المستغربين تلوك هذه الحادثة إلى يومنا هذا.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/social/0/130196/#ixzz62HDy0v2E

موضوعات لها علاقة بالموضوع

https://www.youtube.com/watch?v=WNGVeyOWyrI

https://www.youtube.com/watch?v=YYYokgrL4Yg

https://www.alukah.net/sharia/0/9982/

https://www.alukah.net/sharia/0/45703/

https://www.alukah.net/sharia/0/110696/