الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد، وعلى وآله وصحبه، أما بعد:

فما أن يدخل على الناس شهر ذو الحجة من كل عام حتى يدور نوع من الخلاف حول صيام تسع ذي الحجة الأول، فمن قائل بسُنيَّة الصوم فيها، ومن قائل: لا نعلم دليلًا للصوم في هذه الأيام، إلا ما ورد بشأن صوم يوم عرفة لغير الحجاج، والخلاف ذلك لورود حديثين ظاهرهما التعارض في ذلك الشأن.

أولهما: حديث مثبت للصوم وهو حديث أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها؛ ففي سنن أبي داود (2437)، وأحمد (22334) (26468) (27376)، والنسائي في الكبرى (2739) عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ».

وأخرج النسائي في “الكبرى” (2737)، وفي “السنن الصغرى” (2416) عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرُ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَينِ قَبْلَ الْغَدَاةِ»، وفي الصغرى كذلك برقم (2418) عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ».

وثانيهما: حديث ينفي صوم النبي صلى الله عليه وسلم لعشر ذي الحجة؛ وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1176) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ».

توجيه العلماء والمحققين لحديث عائشة رضي الله عنها:

(1) أنها نفت علمها ولم تنفِ علم غيرها.

قال المناوي في “فيض القدير” (5 /474): وأما خبر مسلم عن عائشة لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا العشر قط، وخبرها ما رأيته صامه، فلا يلزم منه عدم صيامه؛ فإنه كان يقسم لتسع فلم يصمه عندها وصامه عند غيرها؛ كذا ذكره جمعٌ، وأقول: ولا يخفى ما فيه؛ إذ يبعد كل البعد أن يلازم في عدة سنين عدم صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الحاسم لعرق الشبهة أن يقال: المثبت مقدم على النافي على القاعدة المقررة عندهم، وزعم بعض أهل الكمال أن الرواية في خبر عائشة (يُرَ) بمثناة تحتية وبنائه للمجهول، ثم إن هذا الحديث عورض بخبر البخاري وغيره: ما العمل في أيام أفضل منها… انتهى.

(2) أنها نفت صيامه صلى الله عليه وسلم على وجه الوجوب:

قال الأثرم: فأما حديث عائشة الأول، فإنه ليس فيه بيان مذهب، وذلك أنها لما حكت أنها لم تره صائم العشر، فقد يكون ذلك على أنها لم تره هي، ورآه غيرها، وذلك أنه إنما كان يكون عندها في الأيام يومًا، وقد يكون ذلك على أن يكون لم يصم العشر على أنه ليس بواجب، ومن صامه فله فضل، فليس في هذا بيان؛ [ناسخ الحديث ومنسوخه ص (180)].

وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مَا لَفْظُهُ: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، قَالَ: وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ.

(3) أنها نفت صيامه لعذرٍ عارض:

قال النووي: فَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهَا لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ من ذَلِكَ عَدَمُ صِيَامِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ؛ انتهى؛ [شرح مسلم للنووي (8 /72)].

(4) المثبت مقدم على النافي:

قال البيهقي بعد تخريج الحديثين: “والمثبتُ أَولى من النَّافي”؛ [السنن الكبرى للبيهقي (4/ 285) ].

قال الملا علي القاري في “مرقاة المفاتيح” (4 / 1413): إِذَا تَعَارَضَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ أَوْلَى عَلَى فَرْضِ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِهِ فَلَا مَعَ بُعْدِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ أَوْقَاتُ نَوْبَتِهَا وَقَوْلُهَا قَطُّ يَنْفِي الْقَوْلَ بِحَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَيْضًا عَدَمُ صِيَامِهِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا سُنَّةً لِأَنَّهَا كَمَا تَثْبُتُ بِالْفِعْلِ تَثْبُتُ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغَّبَ فِي صِيَامِهَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ، وَلِذَا مَا كَادَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْضُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ الْحِجَّةِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا أَحْيَانًا؛ انتهى.

(5) نفي عائشة رضي الله عنها لصيام التسع كلها لا لبعضها:

قال السندي في حاشيته على ابن ماجه (1 /527): قَوْلُهُ: (صَامَ الْعَشْرَ قَطُّ) لَا يُنَافِي صَوْمَ بَعْضِهَا.

قال الشيخ أبو الحسن المباركفوري في “مرعاة المفاتيح “(7 /52): وقيل: المراد نفي جميع العشر وفيها يوم العيد، وهذا لا ينافي صوم بعضها، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل في بعض الأحيان، وهو يحب أن يعمله خشية أن يظن وجوبه.

وقال الحافظ ابن رجب في “لطائف المعارف” (ص 262): إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات، أخذ بقول المثبت؛ لأن معه علمًا خفي على النافي، وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملًا، يعني وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه، فينبغي أن يصام بعضه ويفطر بعضه، وهذا الجمع يصح في رواية من روى ما رأيته صائمًا العشر؛ انتهى.

(6) تأويل حديث عائشة رضي الله عنها على لفظ: لم يُرَ أو “ما رُئيَ “، ويكون معناه: ما رآه غيري صائمًا؛ جاء في “العرف الشذي” للكشميري (2 /180): وقيل: إن في رواية عائشة تصحيفًا، والأصل ما رُئيَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي ما رآه صائمًا غيري؛ أي: غير عائشة، والله أعلم.

قلت: وهو تأويل بعيد لا تسانده الرواية.

(7) صام النبي فاطلعت حفصة وحفظته، وخفي عن عائشة، أو نسيته:

جاء في “مجلة البحوث الإسلامية” (55 /110) في الجمع بين الحديثين: كان يصوم العشر في بعض الأحيان، فاطلعت حفصة على ذلك وحفظته، ولم تطلع عليه عائشة، أو اطلعت عليه ونسيته.

(8) صام بعضها في بعض السنوات، وصامها كلها في بعض السنوات، وتركها في بعض السنين لعارض.

قال في المجموع شرح المهذب ( 6/ 388): كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الأحاديث؛ انتهى، وقال الحافظ في “فتح الباري” (2 /460): وَاسْتُدِلَّ بِهِ([1]) عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتَشْكَلَ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ؛ كَمَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا؛ انتهى، وقال ابن الملك الكرماني في “شرح المصابيح” (2 /539):

وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صائمًا في العشر”؛ أي: من أول ذي الحجة.

“قط”: وهذا لا ينفي كونه سنة؛ لأنه جاز أنه عليه الصلاة والسلام صامها قبل تزوُّجِهِ بعائشة رضي الله عنها، أو لم يصمْ في نوبتها، فإذا تعارضَ النفيُ والإثباتُ، فالإثباتُ أولى.

قال أبو العباس القرطبي: وترك النبي صلى الله عليه وسلم صومه إنما كان والله أعلم لما قالته عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشيةَ أن يعمل به الناس، فيُفرض عليهم، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يوافق عشرًا خاليًا عن مانع يمنعه من الصيام فيه، والله تعالى أعلم؛ [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (10 /27)].

(9) تأويل حديث حفصة رضي الله عنها المثبت للصوم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة » بأن المراد به اليوم التاسع فقط.

ويجاب عنه بأن الحديث عند النسائي بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ»؛ سنن النسائي (2418).

وقال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري: ويمكن أن يكون مراد عائشة رضي الله عنها من نفي صومه صلى الله عليه وسلم في العشر، نفيه في جميع العشر، لا في بعض يوم منه، ويكون مراد حفصة من التسع اليوم التاسع خاصة، وكذلك يكون مراد بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من العشر اليوم المعهود الذي يهتم بصيامه في العشر، وهو اليوم التاسع يوم عرفة، والله أعلم؛ [منة المنعم في شرح صحيح مسلم (2 /211)].

(10) حمل حديث عائشة على صوم تسع وإفطار العاشر، وهو يوم النحر، ويصدق على عدم الصوم في العشر مطلقًا، وهذا مقصود عائشة ليتوافق مع الرواية الأولى؛ [“فتح المنعم بشرح صحيح مسلم” للدكتور موسى شاهين (5 /78)].

والله تعالى وحده من وراء القصد

——————————————————————————–

[1] يعني حديث ابن عباس رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟»، قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»؛ أخرجه البخاري (969).