ليس بوسع أي عالم مُنصف من علماء الجيولوجيا أو الجغرافيا، إلا أن يشهد أن القرآن حق، وذلك حينما يتدبر كلام القرآن عن الجبال، ففي القرآن الكريم نجد أدق وصف للجبال، ونجد أيضًا الكثير من الحقائق عن الجبال التي لم يكتشفها العلماء إلا في القرن العشرين، وحديث القرآن عن الجبال يشير إلى أقدم الجبال وأطوار نشأتها، وينتهي بالإخبار بمآل الجبال بين يدي الساعة، فتلك أقدم الجبال جعلها الله رواسي للأرض من فوقها؛ لتثبيت الأرض وحفظها من الاضطراب، والجبال بصفة عامة تعمل على اتزان الأرض، ومن ثم كانت الجبال أوتادًا تثبت الأرض، حقًّا الجبال خلق عظيم، ولعظم شأنها حثَّ القرآن على التفكر فيها؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 – 20].

 

والجبال تقرن في آيات القرآن مع السماء والأرض؛ يقول تعالى: ﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ﴾ [مريم: 90 – 92] .

 

والجبال كالكائن الحي تنفعل وتخر هدًّا من هول جريمة ادعاء الولد إلى الله، بل إنها أشفقت من حمل الأمانة؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].

 

الجبال الشم الرواسي تشارك المخلوقات في سجودها وتسبيحها للخالق عز وجل، ومع ذلك يستنكف الكثير من الناس أن يشاركوها في سجودها؛ يقول تبارك تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾ [الحج: 18].

 

وتسبيح الجبال شيء لا يدركه العقل البشري، وقد تفضل الله على عبده داود، فجعل الجبال تسبح معه؛ يقول تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 17 – 18 ]، ويقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10].

 

وفي الوقت الذي كان فيه داود شاكرًا لأنعم ربه، جحدت عاد نعمة ربهم الذي سخر لهم الجبال ينحتون منها البيوت بحذق ومهارة؛ يقول تعالى: ﴿ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ﴾ [الحجر: 82 – 83].

 

والجبال منظومة كونية يرد ذكرها في القرآن بصيغة الجمع، فإذا ما وردت الكلمة بصيغة المفرد “جبل”، فإنها تحمل إيحاءً مخصوصا، فهي جبال شهدت مع إبراهيم عليه السلام كيف يحيي الله الموتى، أو جبل دُك في الأرض حينما تجلى الله له، أو جبل يخشع ويتصدع من حمل الأمانة، أو جبل ينتق فوق بني اسرائيل؛ ليأخذوا ما آتاهم الله بقوة، أو جبل يعتقد ابن نوح جهلًا منه أنه يعصمه من الغرق؛ [البقرة – 260، الأعراف: 143، الأعراف:171، هود: 43، الحشر: 21].

 

وفي القرآن إشارة علمية شغلت العلماء قديمًا وحديثًا حول وظيفة الجبال، وما معنى أنها رواسي؟ وعلى أي شيء ترسو؟ وحقيقة الجبال الأوتاد، وما هي العلاقة بين شموخ الجبال وتصريف الرياح، وإنزال المطر، وطبيعة العلاقة بين مد الأرض وإنقاصها من الأطراف والرواسي؟ وهل الجبال تتحرك في الدنيا؟ ولسوف نوضح تلك الإشارات؛ ليتبين لنا سبق القرآن في كشف ظواهر الجبال، ونشير إلى مآل الجبال في الآخرة، ولسوف نفصل الحديث في النقاط التالية:

 

الإشارات العلمية:

وفيما يلي بيان العطاءات العلمية لآيات الجبال في القرآن الكريم:

1- كلمات تهدي وآيات تكشف:

أ- الكلمات الهاديات:

رواسي، رواسي شامخات، الجبال أوتاد، ألقى فيها رواسي، جعل فيها رواسي، نَصْب الجبال، مد الأرض، تميد الأرض، الجبال أكنان، جُدَد بيض وحمر مختلف ألوانها، غرابيب سود، تسيير الجبال،. دك الجبال، نسف الجبال، قاع صفصف، تسيير الجبال، الجبال كالعهن، الجبال كالعهن المنفوش، الجبال كثيب مهيل.

 

ب- الآيات الكاشفات:

1- الرواسي الأصيلة:

﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 10].

 

2- الرواسي بين الجعل والإلقاء:

﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 31].

 

﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 15].

 

3- مرور الجبال:

يقول تعالى: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ النمل: 88].

 

4- وتدية الجبال: يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴾ [النبأ:7].

 

2- أقدم الجبال [شكل: 1]:

يقول تعالى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ﴾  [فصلت: 10].

 

كانت الأرض في مهد نشأتها مضطربة غير مستقرة، فجعل الله فيها جبالا ثوابت لئلا تميد، وللعلم أن أكثر الأقاليم استقرارًا هي الرواسخ [الكريتونات: “Cratons”، وتمثل الدروع [Shields] وهي أقدم صخور الأرض أنوية القارات، فالدرع العربي على سبيل المثال يمثل ركيزة شبه الجزيرة العربية، والدرع الإفريقي يمثل أساس القارة الإفريقية، وهكذا تمثل الدروع القاعدة التي تستند عليها عجائب العالم: Basement Foundation]]

 

والجدير بالذكر أن الرواسي الأصيلة في الأرض جعلت فيها من مادة الأرض من خلال نشاط داخلها صيَّرها رواسي، ولهذا لا يفهم ﴿ مِن فَوْقِهَا ﴾ على أنها أنزلت من السماء.

 

نصب الجبال:

يقول تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 – 20 ].

 

 

ويلزم الإحاطة من فروع علوم الأرض؛ لكي نفهم كيف تنصب الجبال، إنها عملية غاية في التعقيد، تتطلب معرفة أنواع صخور الجبال وبنياتها، ومكونات الصهارة [المجما] التي تصعد من جوف الأرض، والعوامل التي تؤثر على الأرض؛ سواء من داخلها، أو على سطحها، وأخيرًا معرفة تفسر الآلية التي تبرز فيها الجبال في ضوء نظرية ألواح الغلاف الصخري، وكلما نمت المعارف الجيولوجية، بدأنا نفهم توجيه قوله تعالى: ﴿ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾، وكلما ارتفعت سلاسل الجبال، كانت الجبال أحدث عمرًا، فجبال الهيمالايا التي تحوي على أعلى قمة في العالم اليوم بدأ نصبها منذ 45 مليون سنة، بينما توقف رفع جبال الأبلاش منذ 250 مليون سنة.

 

ولا تبرز فجأة، بل يستغرق تكوين الجبال ونصبها ملاليين السنين عبر رحلة شاقة ضاربة في أعماق الزمان. وفى أثناء تلك الفترات تتراكم الرواسب ثم يعتريها التشوه والتصدع ثم ترفع الجبال. وقد تنصب الجبال بأن تصطدم قارة بقارة أخرى.

 

وإليك على سبيل المثال قصة نصب سلاسل جبال الهيمالايا [شكل:2]، فالهند كانت تقع على الحافة الجنوبية لبحر قديم لا وجود له اليوم اسمه بحر التيثي [Tethyan Ocean]، بينما كانت تقع التبت عند الحافة الشمالية لذلك البحر العظيم، كان ذلك منذ قرابة المائة مليون سنة، وقطعت الهند مسافة حوالي 1500 كم في أثناء زحزحتها باتجاه آسيا، إلى أن أتى وقت اختفى البحر وابتلعه جوف الأرض، وجاءت لحظة التصادم المحتومة، وعند نطاق التصادم دكت الهند دكًّا، وسُحِقت التبت سحقًا، ركبت الأخيرة فوق الهند، وحينئذ نصبت جبال الهيمالايا.

 

حقًّا إنها أشبه بقيامة صغرى تعلو فيها قارة فوق قارة، والأعجب أن تبرز الجبال من رحم المحيط، وجبال عمان الشمالية خير مثال على ذلك، فحول العاصمة مسقط، يمكن أن ترى قاع بحر قديم قد ألقى على اليابسة، نتيجة تصادم قاع ذلك البحر بيابسة العربية، وامتطى قاع البحر سطح الأرض، وأثناء التصادم – ذلك التصادم المريع – نقلت جبال من أماكنها بالكامل لمئات الكيلو مترات.

 

وتنشأ جبال وتنصب من جراء تصادم قارة بقارة مجاورة، أو قارة وفاع بحر، أو قاع بحر ينطبق من منتصفه، وأيضًا من رحم البحر المشقوق من منتصفه، أو القارة المنشطرة، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً، وتبقى كلمات القرآن حافزًا للعقل البشري؛ ليبحث في قوله تعالى: ﴿ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾، ويثبت العلم الحديث أن الجبال تنشأ بفعل حركة قطع الأرض المتجاورات؛ حيث تتصادم القطع المتجاورة أو تتباعد، ومن تصادمها وتباعدها تبرز سلاسل الجبال؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا.. ﴾ [الرعد: 31 ].

 

هذا وقد أشرنا من قبل إلى تقطيع الأرض ومرور الجبال.

 

الْجِبَالَ أَوْتَاد:

يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 6-7 ].

 

يبدو للعيان أن الجبال ظاهريًّا تشبه الوتد، ولكن ما اكتشف حديثًا يجزم بأن الجبال أوتاد، فلنأخذ جبال الهيمالايا على سبيل المثال؛ حيث تعلو قمتها ثمانية كيلو مترات، وبضع مئات الأمتار عن سطح البحر، والمدهش أن المسح الجيولوجي أثبت أن قاعدة الهيمالايا تضرب لمسافة 65 كيلو مترًا تقريبًا في جوف الأرض؛ حيث تطفو الجبال في وشاح الأرض اللدن [شكل: 3]، وبصفة عامة، فإن الجزء المختفي من الجبال تحت السطح يعادل على الأقل ثمانية أضعاف الجزء البارز فوق سطح الأرض، حقيقة وتدية الجبال لم يعرفها بشر عند نزول القرآن، ولا حتى بعد نزوله، بقرابة ألف عام، حقًّا إنه الوحي الذي أخبر محمد بذلك في قرآن يتلى إلى يوم القيامة.

 

وقد أجمع المفسرون على أن ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ بمعنى جعل للأرض أوتادًا، أرساها وثبتها وقرَّرها؛ لتسكن ولا تميد بأهلها، والجبال من الناحية الشكلية أشبه بأوتاد الخيمة التي تُشد إليها، ويرى الدكتور محمد أحمد الغمراوي [رحمه الله] أن الجبال تساند عمل الجاذبية الأرضية للاحتفاظ بهواء الأرض، والحقيقة أن الجبال في الأقاليم المتزنة تؤدي إلى نمطية الجاذبية، ويطرح الدكتور الغمراوي سؤالين يتطلبان بحثًا علميًّا، وهو: أكانت جاذبية الأرض كافية للاحتفاظ بهواء الأرض، لو أن كتلتها نقصت بقدر كتلة الجبال؟ وهل لارتفاع الجبال دخل في احتفاظ الأرض بجوها؟ ويمكن صياغة السؤال الثاني: هل لو أصبح سطح الأرض قاعًا صفصفًا مستويًا مع احتفاظ الأرض بكتلتها غير منقوصة، تكفي جاذبيتها عندئذ للاحتفاظ بالهواء؟

 

 

ويؤكد علم الجيوفيزياء أن تضاريس الأرض بما فيها الجبال، تؤثر على توزيعات الجاذبية الأرضية، والجزء البارز من الجبال له وظيفة تساعد في الإمساك بما فوقه، وبينما الجزء المغمور في الأرض له وظيفة تعمل على تثبيت الأرض، ومن روعة النص القرآني أن [أوتادًا] تشير إلى وظيفة الأوتاد، وأيضًا اختلاف ماهية الأوتاد؛ سواء في الأبعاد، أو المكونات، أو العمق؛ وفقًا لاختلاف أنواع الجبال.

 

الجبال بين الإلقاء والجعل:

يستخدم الفعل “جعل” في خمس آيات قرآنية، وفي أربع آيات أخرى يستعمل الفعل “ألقى”، وذلك عند الحديث عن رواسي الأرض، ومن اللافت للنظر أن الكلمة ترد دائمًا بدون ألف ولام “رواسي”، وذلك لحكمة، فالرواسي يختلف عددها من زمن إلى زمن، وتشكل الجبال العمود الفقري لقارات العالم قديمًا وحديثًا؛ لتحفظ حفظ الأرض؛ لئلا تميد (شكل: 4)، وتوجد علاقة قوية بين مد الأرض وإلقاء وجعل الرواسي، والقرآن وهو يتحدث عن جعل الرواسي في الأرض يذكر في موضع واحد أن هناك رواسيَ من فوقها، وفي جميع الآيات الخمس يذكر الرواسي في الأرض إلا في موضع واحد، يذكر فيه أن الرواسي للأرض ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾.

 

وتلك هي مواضع ذكر جعل وإلقاء الرواسي:

آيات جعل الرواسي آيات إلقاء الرواسي
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ﴾ (الرعد: 3) ﴿ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ (الحجر: 19 ).
﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ (الأنبياء: 31 ). ﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ ( النحل: 15).
﴿ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ﴾ (النمل: 61 ). ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ (لقمان: 10).
﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت: 10 ). ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ (ق: 7 ).
﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا ﴾ (المرسلات: 27 ).
والموضع الوحيد الذي جمع الجبال والإرساء هو: ﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾ (النازعات: 32 ).

 

وتعلو الجبال عما حولها، فالجبل يعلو فوق الأرض بما لا يقل عن 300 متر فوق مستوى سطح البحر، وبحسب مادة الجبل، هناك جبال يتكون أصل صخورها من صهير (مجما)، يصعد من جوف الأرض، وفي أثناء صعوده يبرد ويتبلور، وإذا ما تكونت الصخور على أعماق من سطح الأرض، سُمِّيت بالصخور الجوفية؛ لأنها تتكون على أعماق كبيرة تحت السطح، أما إذا شق الصهير طريقه للسطح، فعند برودته يتجمد؛ ليُكوِّن الصخور البركانية، وتنشأ منه الجبال البركانية وغيرها من الأشكال، والمختفي تحت السطح يبرز على السطح نتيجة حركات ترفعه أو عوامل تزيل ما علاه من مادة الأرض والصخور، فالجبال التي بمكة المكرمة مثلاً من ذلك النوع، وقيل: إن أقدم موضع في الأرض هو الكعبة المشرفة بيت الله الحرام، ثم دُحيَت الأرض من تحته؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

وبروز الجبال فوق سطح الأرض عملية معقدة كما أشرنا من قبلُ، وأقدم الجبال هي الرواسي، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا ﴾، ولما كانت تلك الرواسي من فوق الأرض وهي في نفس الوقت فيها، فإن نشأتها ونموها يعد موضوعًا محيرًا لدارسي معالم الزمان الباكر، المعروف بزمان ما قبل الكمبري، وفي البداية غطى بحر النار (الصهارة) سطح الأرض، ولما بردت الصهارة، تكونت قشرة المحيط، أما كيف نشأت الرواسي؟

 

ويبدو أن الجبال جاءت نتيجة عمليات معقدة أدت إلى تكوين الرواسي في الأرض فوق سطحها، وبرزت الجبال الأصيلة الأولية، وتعرضت خلال آماد طويلة من الزمن لعوامل الهدم، ونقلت مكوناتها لتلقي في المناطق المنخفضة، ثم تُزال تلك الجبال لتنشأ جبال أخرى نتيجة إلقاء مكونات الجبال السابقة، وهنا يتضح عطاء القرآن في الحديث عن جعل الرواسي في الأرض تارة، وعن إلقاء الرواسي فيها تارة أخرى، وعلى علماء العربية أن يبحثوا في عطاء نظم القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ وقوله أيضًا ﴿ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ﴾.

 

الجبال واتزان الأرض:

توازن مدهش أبدعه الخالق في الأرض؛ حيث جعل الغلاف الصخري للأرض يطفو فوق غلافه اللدن المسمى بالغلاف الطيع (الأثينوسفير)؛ لأن كثافة الغلاف الأول أقل من كثافة الغلاف الثاني؛ لهذا تطفو القارات وقيعان البحار على وشاح الأرض، كما يطفو جبل الجليد فوق الماء، وتضرب القارات جذورها في وشاح الأرض (شكل: 5)، ويلاحظ أن الجذور أسفل سلاسل الجبال أكثر عمقًا من الجذور تحت المناطق المستوية، هذا ما اكتشفه العلم، ولكن القرآن الكريم سجل ذلك قبل العلم بأكثر من ألف سنة؛ حيث يقول الحق ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾، وبالتأكيد لفظ الوتد لا يعدله في الدقة اللفظ العلمي الجذر، وكلام الله لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، وتشير كلمة “رواسي” في حد ذاتها إلى أن الأرض تطفو على نطاق تحتها توجد به الصخر في حالة سائلة (Mobile)، ويتأكد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾، وتلك إشارة علمية قرآنية أثبتها العلم الحديث، فالغلاف الصخري (Lithosphere) الذي يشمل القشرة وآخر جزء من الوشاح، والذي يبلغ سمكه 100 كم يرتكز على الغلاف الطيِّع أو غلاف المور، والغلاف الطيع يمتد من قاعدة الغلاف الصخري عند عمق 100 كم، حتى عمق 350 كم بسمك قدره 250 كم، ويشبه في مظهره أسفلت الطريق في يوم صائف، وهذا الغلاف الأخير رقيق تحت المحيطات وسميك تحت القارات.

وتقوم الجبال بضبط اتزان الأرض، فتبرز الجبال حينما يخف الثقل على سطح الأرض، فعلى سبيل المثال أدَّى تكوين الغطاء الجليدي إلى هبوط الإقليم الإسكندنافي ببطء أثناء العصر الجليدي، ثم بدأ الإقليم يرتفع بعد ذوبان هذا الغطاء الجليدي منذ 10.000 سنة، وما يزال الإقليم يحاول الوصول إلى حالة التوازن؛ حيث ترتفع الأرض بمعدل 1 سم في السنة، وأيضًا تمر الجبال بدورة طويلة من التآكل، وتنقل مكوناتها، فتترسب في الأماكن المجاورة، فتضغط على قشرة الأرض؛ حتى تعيد التوازن مرة أخرى، ويؤدي الضغط إلى سريان مادة الوشاح اللينة باتجاه قاعدة (وتد) الجبال فترفعها، ويستمر تآكل الجبال من قمتها ورفعها من قاعدتها؛ حتى ينكشف الجزء الذي كان مختفيًا ويتآكل، وتصبح الجبال قاعًا صفصفًا، والأرض متزنة اتزانًا عجيبًا، وتتوزع الجبال على الأرض بنظام عجيب، يجعل الأرض لا تميد بأهلها.

 

جدد الجبال (شكل: 6):

يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ (فاطر: 27 )، وتفسر الآية على أن الله خلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو الشاهد أيضًا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جُدة مختلفة الألوان، ولكي نفهم العطاء العلمي لتلك الآية، لا بد من أن نعرف أن مادة الصهير التي هي مادة حجارة الأرض تتكون في غرف في باطن الأرض تسمى غرف الصهارة (Magma Chamber)، توجد على أعماق من باطن الأرض، وأثناء صعود الصهارة تخترق الصخور وتتداخل على أعماق بعيدة أو قريبة من سطح الأرض، وتأخذ تلك المتداخلات النارية أشكالاً عدة؛ منها: ما يأخذ شكل طرائق على هيئة ألواح تتوازي أو تتقاطع مع الطبقات التي تخترقها، وفي حالة توازيها تسمى السدود (Sills)، وفي حالة عدم توازيها تسمى القواطع (Dikes)، وليس هناك أدق من التعبير القرآني “جٌدَد” لوصف هذه المتداخلات النارية، والجدد لا توجد في كل جبال العالم، بل توجد في بعضها، وبهذا تتضح دقة نظم القرآن في قوله: “ومن الجبال”؛ حيث مِن تفيد التبعيض، ولم يكن الناس عند نزول القرآن ولا بعد نزوله بأكثر من ألف عام، قد تدارسوا جميع جبال العالم؛ حتى يتحققوا من أنه ليس كل جبال تقطعها جُدد، أما قوله: ” وَغَرَابِيبُ سُودٌ “، فتشير إلى ظاهرة شديد السواد، فالعرب يصفون شديد السواد بأنه غربيب؛ ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية من المقدم والمؤخر بمعنى أن ” وَغَرَابِيبُ سُودٌ “، هي “سود غرابيب”، وفيها نظر، وإذا قلت: سود غرابيب تجعل السود بدلاً من غرابيب؛ لأن توكيد الأوان لا يتقدم، ومن ثَمَّ فنحن أمام ظاهرة في الجبال اسمها غرابيب ولونها أسود، والغامق في الصخور النارية هي الصخور فوق القاعدية أو المافية (Mafic)؛ مثل: الجابرو، والبازلت، فإن عادت غرابيب سود على جُدد، فهذا يعني جددًا من صخور غامقة اللون من الجابرو أو البازلت، أو غيرهما من الصخور القاعدية وفوق القاعدية، وإذا عطفناها على “ومن الجبال”، أصبحنا أمام ظاهرة اسمها “غرابيب”، ولونها أسود، قد تكون صورة من صور المتداخلات النارية التي يعرفها الجيولوجيون؛ مثل: اللاكوليت، أو اللابوليث، أو قد تكون طفوحًا من البازلت، أو قد تكون شيئًا آخر سيصل العلم إلى تعريفه في المستقبل والله أعلم.

 

أما اللفتة العلمية المبهرة في الآية السابقة أيضًا، فهي الإشارة إلى ألوان الجدد وألوان الجبال بصفة عامة، فإذا قيل: إن الألوان تعود على الجدد، فهذا يمثل عطاءً علميًّا يعكس التركيب الكيميائي والمعدني لصهارة الأرض التي تمثل مصدر الجدد، فمنها الصهارة الحامضية التي تعطي الصخور الفاتحة اللون كالجرانيت ومجموعته، ومنها الصهارة المتوسطة التركيب التي تعطي صخورًا ألوانها بين اللونين الأبيض والأحمر من جهة، والألوان الداكنة من جهة أخرى، والتي يغلب عليها اللون الرمادي، وتضم عائلة الديواريث، وتقع تحت وصف “مختلف ألوانها”؛ (د. زغول النجار – 2002 )، ومنها الصهارة القاعدية (Basic)، والتي ينتج عنها صخور غامقة اللون حتى السواد، ومنها الصخور الغامقة (Mafic)، أو القاعدية وفوق القاعدة التي تضم عائلتي الجابرو والبريدوتيت، وأما إذا عادت الألوان على الجبال، فألوان الجبال مهما تعددت أصولها؛ رسوبية كانت، أو نارية، أو متحولة، فلا تزيد عن بيض وحمر وسود بدرجاتها المختلفة، وسبحان من أعطى وصفًا دقيقًا يشير إشارة جامعة إلى التركيب الكيميائي والمعدني لجبال الأرض، مع وصف ظاهرة الجدد والغرابيب، وذلك في آية واحدة من آي القرآن الكريم.

 

مرور جبال الدنيا (شكل 7):

يقول تعالى: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ (النمل: 88 ).

هذه الآية فهِمها المفسرون على أنها من علامات الساعة، باعتبار أن سير الجبال علامة من العلامات التي تسبق الساعة، وأيضًا لأن تلك الآية تقع بين آيتين تتحدثان عن مشهد من مشاهد يوم القيامة (النمل: 87 –89 )، والحقيقة أن القرآن الكريم حينما تحدث كما سنرى فيما بعد عن مآل الجبال يوم القيامة، استخدم ألفاظ صريحة لا تحتمل التأويل؛ حيث ذكر أن الجبال في الآخرة تسير سيرًا، وتُنسف نسفًا، وتُدَك دكًّا… إلخ، أما هذه الآية هنا، فتشير إلى مرور الجبال، وتتحدث عن جبال يحسبها المرء جامدة، بينما جبال الآخرة ليست جامدة، بل كثيب مهيل وعهن منفوش.. إلخ.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/72873/#ixzz65nodaDXG