المعجزة في خلق عيسى عليه السلام

        أنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية حُجَّة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين جاؤوا يحاجُّونه في عيسى عليه السلام([1])، فقد كان النصارى يدَّعون ألوهية المسيح، وما كان حجتهم في ذلك إلا أنَّه ولد من مريم العذراء بلا أب، قال ابن كثير: “أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم قوله إنَّ عيسى عبد الله وكلمته، فقالوا: أرِنا عبدا خُلق من غير أب”([2]) فأنزل الله عزَّ وجلَّ الآية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]

        وقد كان استدلال القرآن وحُجَّته في هذه المسألة قائمة على أنَّ كيفيَّة خلق المسيح تشابه كيفيَّة خلق آدم –عليهما السلام-، فآدم خلق من تراب، ولم يكن ثمة أب ولا أم، فإذا كان هذا أمرا ممكنا فالمسيح عيسى مثله، إذ ولد من أُمٍّ بلا أب، ولو اقتضى خلق المسيح من غير أب أن يقال بألوهيَّته؛ لاقتضى خلق آدم ذلك، وبما أنَّهم (النصارى) لا يقولون بذلك في آدم، فوجب ألَّا يقولوا به في عيسى عليه السلام.

        والمشابهة بين آدم وعيسى –عليهما السلام- في الخلق في بعض الأوصاف دون بعض، يقول االقرطبي: “والشيء قد يُشبَّه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد، فإنَّ آدم قد خُلق من تراب ولم يُخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما أنَّهما خُلقا من غير أب.”([3])

        وهناك جهة أخرى للشبه بين آدم وعيسى –عليهما السلام- وهي أنَّهما وُجدا وجودا خارجا عن العادة المستمرة، فهما في ذلك نظيران، ومع أن وجود آدم من غير أب ولا أمٍّ أكثر غرابة وإعجازا، إلا أنَّ القرآن هدف إلى تشبيه الغريب بالأغرب، ليقطع حُجَّة المجادلين، يقول الزمخشري: “الوجود من غير أب وأُمٍّ أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشُبِّه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادَّة شبهته”أهـ([4]). ويقول محمد جابر الفياض: “”إنَّ خلق عيسى كان وما يزال موضع خلاف شديد، وكان لهذا الخلاف ما كان من أثر في عقائد الناس، فذهب بعضهم إلى عدِّه خالقا أو ابنا للخالق، وليس كغيره من المخلوقين من عباد الله، فكان لا بد لمن يهمه أن يبطل هذا الاعتقاد أن يبرهن أنَّ طريقة خلقه ليست مدعاة لاتخاذه إلها أو ابنا للإله، ولا يتسنَّى له ذلك إلا بالإتيان بواحد من المخلوقين –غيره- كان قد خُلق من غير أب، ومن أجل هذا جيء بآدم في الآية الكريمة.”([5]) فالذي خلق آدم من تراب من غير أب ولا أُمٍّ، قادر من باب أولى أن يخلق عيسى من أُمٍّ بلا أب، بل هو أهون وأمكن، وهو –جلَّ شأنه_ لا يعجزه شيء، وما من شيء أهون عليه دون شيء، ولكن هذا من باب التقريب إلى الأذهان، وفيما يجب بين الناس، وتقتضيه عقولهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الروم : 27].

([1])  انظر الطبري: جامع البيان (ج 3 ص293). 

([2])  ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (ج4 ص103). 

([3])  القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (ج4 ص103). 

([4])  الزمخشري: الكشاف (ج1 ص176) 

([5])  محمد جابر الفياض: الأمثال في القرآن الكريم ص(125).