التوحيد في دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام (2)

عيسى عليه السلام يقر بالعبودية لربه عز وجل

قصة الميلاد

كانت مريم ابنة عمران امرأة صالحة تقية، واجتهدت في العبادة حتى لم يكن لها نظير في النسك والعبادة، فبشرتها الملائكة باصطفاء الله لها: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 42 – 43]

–  ثم بشرت الملائكة مريم بأن الله سيهب لها ولداً يخلقه بكلمة كن فيكون، وهذا الولد اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وسيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً إلى بني إسرائيل، ويعلم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وله من الصفات والمعجزات ما ليس لغيره، كما قال تعالى: {إذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 45-47].

ثم أخبر الله تعالى عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام فقال عن تشريف عيسى, وتأييده بالمعجزات: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 48 – 51].

والله سبحانه له الكمال المطلق في الخلق، يخلق ما يشاء كيف يشاء، فقد خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم من أب بلا أم، و جعل نسل بني آدم من أب وأم،  وخلق عيسى من أم بلا أب، فسبحان الخلاق العليم !

وقد بين الله في القرآن كيفية ولادة عيسى بياناً شافياً فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 16 – 21].

فلما قال لها جبريل ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ جبريل في جيب درعها: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم /22 – 23].

ثم ساق الله لمريم الماء والطعام، وأمرها أن لا تكلم أحداً: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم : 24 – 26].

ثم جاءت مريم إلى قومها تحمل ولدها عيسى، فلما رأوها أعظموا أمرها جداً واستنكروه،  فلم تجبهم، وأشارت لهم اسألوا هذا المولود يخبركم، قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم/27 – 29].

فأجابهم عيسى على الفور وهو طفل في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:30 -33].

ذلك خبر عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، ولكن أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال هو ابن الله، ومنهم من قال هو ثالث ثلاثة، ومنهم من قال هو الله، ومنهم من قال هو عبد الله ورسوله وهذا الأخير هو القول الحق قال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم: 34 -37](1).

الإقرار بالعبودية لله رب العالمين

إن أول كلمة نطق بها المسيح عيسى عليه السلام هي قوله {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}، يقول القرطبي: قيل: “كان عيسى عليه السلام يرضع، فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، وقال إني عبد الله، فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه”(2)

وقال ابن كثير: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأ الله عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه”(3) .

وقال البغوي: “قال مقاتل: بل هو يوم ولد : إني عبد الله، أقر على نفسه بالعبودية لله عز وجل أول ما تكلم لئلا يتخذ إلها.”(4)

وقال ابن عاشور: “كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها، وهو طي يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة، فأطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون إنه ابن الله .”(5)

ويقول محمد الأمين الشنقيطي: “ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله أو ابنه أو إله معه، وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر، كقوله تعالى: {وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} [ 5 72 ]، وقوله في “آل عمران”: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [ 3 51 ]، وقوله في ” الزخرف” {فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [ 43 62 – 64 ]، وقوله هنا في سورة “مريم”: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [19 39]، وقوله: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم}، إلى غير ذلك من الآيات.”(6)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)            انظر: أصول الدين الإسلامي: تأليف فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم التويجري.

(2)            تفسير القرطبي: (11/29)

(3)            تفسير ابن كثير (5/222)

(4)            تفسير البغوي (5/230)

(5)            التحرير والتنوير (17/28)

(6)            أضواء البيان: (3/416)