التنصير وترجمة معاني القرآن الكريم

يُعيدُ الدارسون ترجمة معاني القرآن الكريم المتقدمة تاريخيًّا، إلى دوافع تنصيرية بالدرجة الأولى، وهذا مبني على القول بأن الاستشراق قد انطلق من الدافع التنصيري، والديني بصورة أعمَّ.

يقول بلاشير عن بوادر ترجمة معاني القرآن الكريم التي انطلقت من بطرس الذي يلقِّبونه بالمحترم سنة (1141 – 1143م): “كانت المبادرة قد انبثقتْ عن ذهنية الحروب الصليبية، هذا ما تثبته الرسالة التي وجهها بطرس الذي يلقبونه بالمحترم إلى القديس برنار، مرفقة بنسخة من الترجمة التي كانت قد أُعدت، كما انبثقت في الوقت ذاته عن الرغبة الشديدة لإزالة كل أثر للإيمان الأول، من أذهان المسلمين المهتدين، وفي رأينا أن الأهمية التي اتخذها القرآن في هذا المجال قد تجلَّت في الروح العسكرية التي استمرت حميتها حتى بداية القرن الرابع عشر، دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون لول المتوفى في بورجي سنة 1315م”[1].

يقول يوهان فوك حول هذا الارتباط أيضًا: “ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية، فكلما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوة السلاح، بدا واضحًا أن احتلال البقاع المقدسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدى إلى عكس ذلك، وهو تأثُّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر”[2].

تنطلق ترجمة معاني القرآن الكريم، بعد أفول حملات الصليبيين، وبالتحديد من دير كلوني، بأمر من رئيس الدير بطرس الذي يلقبونه بالمحترم، كما مر ذكره، ويؤكد محمد ياسين عريبي في كتابه: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، ارتباط ترجمات معاني القرآن الكريم بالتنصير[3]، كما يؤيده في هذا محمد عوني عبدالرؤوف في أن “الفكرة من الترجمة إذًا قد كانت من الكنيسة بعد أن اقتنعت أن النصر لن يكون بالسلاح”[4].

يؤكده كذلك، الباحث الدكتور محمد بن حمادي الفقير التمسماني، في بحث له بعنوان: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها؛ إذ يجعل “حملات التبشير النصرانية، أحد أسباب بداية نشأة الاستشراق”[5].

يؤيده على هذا التوجه الأستاذ الدكتور محمد مهر علي، في بحث له بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية؛ حيث يؤكد الأستاذ الباحث أن ترجمات معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين لم تلقَ إقبالًا إلا لدى الدوائر التنصيرية[6].

يؤيدهما كذلك الدكتور عبدالراضي بن محمد عبدالمحسن في بحث له بعنوان: مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، الذي يرى أن التنصير كان وراء ترجمة معاني القرآن الكريم؛ إذ انطلقت الترجمة في رحلتها الأولى والثانية من الأديرة، وعلى أيادي القسُس، وأن فكرة التنصير كانت وراء ترجمة معاني القرآن الكريم[7].

تأتي هذه البحوث الثلاثة ضمن أكثر من ثمانية وخمسين بحثًا حول ترجمة معاني القرآن الكريم، قام بها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.

هذا يؤكد أهمية اضطلاع المسلمين أنفسهم بمهمة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما قام به بعض أبناء هذه الأمة مؤخرًا، وكما تقوم به مؤسسات علمية عربية وإسلامية، لها اعتباراتها المرجعية، ومنها؛ على سبيل المثال: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، فقد وصلَت ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة عن هذا المجمع إلى أكثر من أربعين لغة، وهذا جهد يذكر ويشكر.

الأصل أن تكون هناك ترجمة واحدة قابلة للمراجعة، مُعتمَدة لمعاني القرآن الكريم لكل لغة، قصدًا إلى الحيلولة دون الاختلاف في المعنى باختلاف اللفظ، وهذا يأتي في ضوء وجود أكثر من مائة وعشرين ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، بعضها مكرَّر في لغة واحدة، قام بها عدد من المستشرقين، وبعض المسلمين؛ كالإنجليزية التي زادت عدد الترجمات بها على (80) ترجمة[8]، وصلت طبعاتُها سنة (1423هـ / 2002م) إلى ما يزيد على (890) ترجمة، بعد أن كانت قد وصلت سنة (1400هـ / 1980م) إلى ما يزيد على (269) ترجمة، “سُجلت تفاصيلها المرجعية بدقة الببليوجرافيا العالمية لترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة”[9].

ثم تتركز الترجمة في اللغة الواحدة بترجمة واحدة، بفضل من الله تعالى، الذي تكفَّل بحفظ هذا الذكر العظيم: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ثم إلى هذه الثلة من علماء المسلمين، مدعومين من الحكومات العربية والإسلامية، ومنها المملكة العربية السعودية، التي يُعدُّ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، من مآثرها المحمودة المأجورة.

لنا أن نتصور الآثار التي يجنيها المسلمون، وغير المسلمين، من هذه الجهود المباركة المخلصة في إخراج هذه الترجمات الأصلية، البعيدة عن اللمز، الذي اتسمت به ترجمات معاني القرآن الكريم، التي قام بها المستشرقون، ثم لنا أن نتصور ما سيناله المعتنون بكتاب الله تعالى من الأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة، كلما اتسع نطاق الإفادة والاستفادة من كتاب الله تعالى الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].

——————————————————————————–

[1] انظر: بلاشير القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره (ص: 15).

[2] انظر: يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق (ص: 16 – 17).

[3] انظر: محمد ياسين عريبي: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي (ص: 144 – 148).

[4] انظر: عبدالرؤوف، محمد عوني: فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي (ص: 67).

[5] محمد حمادي الفقير التمسماني: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها، (ص: 51).

[6] انظر: محمد مهر علي: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية، (ص: 50).

[7] عبدالراضي بن محمد عبدالمحسن: مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، (ص: 64).

[8] انظر: عادل بن محمد عطا إلياس: تجربتي مع تقويم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، (ص: 28).

[9] انظر: عبدالرحيم القدوائي: مقدمة في الاتجاهات المعاصرة في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، ترجمة: وليد بن بليهش العمري، مجلة البحوث والدراسات القرآنية – مج1 ع 1 (1 / 1427هـ – 2 / 2006م)، (ص: 217 – 229)، والنص من (ص: 218).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/web/dr.alnamlah/0/128735/#ixzz624n0mpAS