التنصير والاستعمار

لقد حاول المؤتمرون المنصرون أن يفصلوا بكل ما أوتوا من قوة بين التنصير والاستعمار، ذلك لأنه قد تأكد لهم بأن المسلمين ما يزالون يرفضون التنصير لأنه في نظرهم قرين الاستعمار، ولأن الاستعمار كان معبراً للمنصرين، مما جعل التنصير يفشل في معظم أنحاء العالم الإسلامي الذي ذاق وما يزال يذوق الويلات من الاستعمار بكل أشكاله وألوانه.

وفي محاولة منهم لكسب المسلمين فإنهم في هذا المؤتمر يريدون أن يقولوا للناس بأن التنصير هو المحبة والأخوة… وما إلى ذلك، وأن الربط بينه وبين الاستعمار ليس صحيحاً.

إن هذه الطريقة ساذجة وبسيطة ذلك لأن ذاكرة التاريخ تحفظ ولا تنسى، إنها تحفظ الحملات الصليبية الحاقدة، وتحفظ حقد الجنرال غورو الذي قدم إلى سوريا إثر احتلالها على يد الفرنسيين حيث توجه إلى المسجد الأموي في دمشق ودلف من الباب الشمالي إلى قبر صلاح الدين الأيوبي ليركله بقدمه ويقول له: ها قد عدنا يا صلاح الدين. إنها قضية واحدة، استعمار، وصليبية، ونصرانية، واستشراق، كل ذلك يمر من فوهة واحدة ولهدف واحد، بعضها يخدم بعضاً، ومثل ذلك كثير، حتى لقد ارتبط التنصير بالاستعمار ربطاً لا يدع مجالاً لشاك، ولئن كان هؤلاء المنصرون يريدون التفريق بين هذين العنصرين فإن عليهم أن يعلنوا عن براءتهم من ذلك الإثم الاستعماري الظالم، لقد أعلنوا في يوم من الأيام لليهود بأن اليهود بريئون من دم المسيح وأنهم لم يقتلوه، إنهم فعلوا ذلك مع اليهود، وقد أصدر الفاتيكان قراره الشهير بذلك، فلماذا لا يصدرون قراراً مماثلاً تتبرأ فيه الكنيسة والفاتيكان من الاستعمار ومن الحروب الصليبية حتى يكون ذلك القرار مصداقاً لما يقولون… إنهم لا يفعلون ذلك، لقد فعلوا ما فعلوه مع اليهود لأن اليهود أصحاب سطوة ونفوذ، وإنهم يحجمون عما يحجمون عنه مع المسلمين لأن المسلمين ضعفاء ومفرقون، إنهم إذن يدورون مع القوة دون الحق، ومع النفوذ دون العدل، ومع الرهبة دون القسط واليقين.

أولاً: هارفي. م. كون في موضوعه (المسلم المتنصر) ص139 يقول:

(وهكذا نرى أن شهادات المتنصرين المدونة تبيِّن أن المسلم لا ينظر إلى النصرانية على أنها بكل بساطة كفر ديني، بل إنه يراها أيضاً نظيرة للاستعمار وللحضارة والثقافة الغربية) وتعقيباً على هذه العبارة لنا عدة ملاحظات:

1- إنه لا يراها أيضاً نظيرة للاستعمار وللحضارة والثقافة الغربية بل إنها هي ذاتها الاستعمار بعينه فضلاً عن كونها كفر ديني وردة وخروج عن الملة.

2- هذه الشهادة شهادة حق وعلى الفاتيكان وعلى المنصرين أن يعوها قبل أن يتقدموا باسم المحبة والأخوة الإنسانية والرأفة والصلب والفداء والصلوات والمزاعم التي تخفي وراءها كل ألوان الاستعمار والحقد الصليبي.

ثانياً: يقول تشارلس. هـ. كرافت في موضوعه (كنائس ملائمة للمتنصرين الجدد في المجتمع الإسلامي) ص169 ما يلي:

(نحن نحتاج مع ذلك أن ننظر واقعياً إلى بعض العقبات الرئيسة والتي يجب أن نتغلب عليها، وهناك الاحتمال الواضح بأننا (كأمريكيين – أوربيين) لنا علاقات تاريخية مؤسفة مع المسلمين قد تجعلنا غير مؤهلين للشهادة المباشرة في كثير من المناطق، ونحتاج إلى أن ننظر بحرية أكثر مما سبق نحو الأثر المضعف للشهادة النصرانية بسبب الكراهية النظرية التي تنتشر كثيراً بين المسلمين لأولئك الذين يمتون بصلة للحروب الصليبية إضافة إلى قيام إسرائيل وإلى ما يعتبره المسلمون ضلالاً لاهوتياً، وعليه فقد نحتاج إلى أن نطرق أساليب غير مباشرة).

ويلاحظ على هذا القول ما يلي:

1- الاعتراف بأن علاقات (الأمريكيين – الأوربيين) مع العالم الإسلامي تجعلهم يخجلون من ممارسة التنصير وسط الشعوب التي ذاقت الأمرين من كيدهم وحقدهم وما تزال تعيش ألاعيبهم.

2- كراهية المسلمين للغربيين الذين يمتون بصلة وثيقة للحروب الصليبية، أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء للبرهنة عليه ذلك لأن الجيوش الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية.. وغيرها كلها قد توجهت تحت ستار الصليب لتعيث فساداً في ديار المسلمين.

3- وقوفهم الحالي إلى جانب إسرائيل جليٌّ واضح، فإن بريطانيا كانت أولاً وراء تأسيسها، ومن ثم احتضنتها أمريكا، مروراً بألمانيا، وبمساندة معظم دول أوروبا، إن العالم الغربي برمته يقف وراء قيام هذا الكيان الغريب، وهم يشعرون بأن نظرة المسلم إليهم إنما هي نظرة تحقير وتأنيب، فكيف تفعلون هذا ثم تتقدمون إلينا في ثياب الكنيسة وفي هيئة الحمل الوديع لتدعونا إلى النصرانية التي تقدمونها للبشرية، على أنها البلسم الشافي للروح المعذبة…؟.

4- يقول: (وعليه فقد نحتاج إلى أن نطرق أساليب غير مباشرة) ما الأساليب غير المباشرة؟ مرة أخرى يعودون إلى اللف والدوران، ألم يكن الأجدى والأنفع لهم أن يعترفوا بكل شيء ويحفظوا ماء وجوههم حتى يفتحوا صفحة جديدة نظيفة من العلاقات، إن ذاكرة الشعوب لا تنسى.

ثالثاً: يقول شارلي. ر. تيبر في موضوعه (الظرفية والتحول والتأصيل) في الصفحة 210 ما يلي:

(إن تاريخ العلاقة بين الإسلام والنصرانية تاريخ حافل بالحروب التي لم تنقطع، فهناك فتوحات المسلمين في شمال أفريقيا وإسبانيا، والحروب الصليبية، والحروب التي دارت بين الطرفين في العصور الوسطى، وفي عصر النهضة في وسط وشرق أوربا، والتوسع الاستعماري للقوى النصرانية الغربية داخل أراضي المسلمين، هذا بالإضافة إلى المواجهات الراهنة حول الصهيونية ولبنان والنفط، وعبر هذا التاريخ الطويل تصرف النصارى بصورة لا تمت إلى تعاليم النصرانية بصلة، وكان لتلك التصرفات أثرها في تشويه رسالة الإنجيل وإحباط مراميها، وبالطبع فإن كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي له تجربته الخاصة في هذه المواجهات، فتجربة الجزائر مثلاً تختلف عن تجربة أفغانستان).

إن هذا القول كسابقه يبرز تلك العلاقة الدموية بين الإسلام والنصرانية وهو يضيف على التصريح السابق إضافات جديدة تتمثل فيما يلي:

1- تعليقه على (فتوحات المسلمين في شمال أفريقيا وإسبانيا) وقرنها بالحروب الصليبية، ولكن شتان ما بين الأمرين (فإن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب) وكلمة العرب هنا تعني (المسلمين) فإنهم كانوا من الرحمة بحيث فتحت لهم القلوب، وسلمت لهم مفاتيح المدن، لا كما حصل في الهجمات البربرية الهمجية التي قادها الصليبيون ضد المسلمين.

2- وقوفهم إلى جانب الصهيونية، وخلقهم الفتن والمشكلات في لبنان، ومحاولاتهم اليائسة للتسلط على النفط إما تهديداً باحتلال منابعه وإما محاربة لأصحابه بتحطيم أسعاره، والعمل بكل وسيلة على ابتزازه واستنـزافه.

3- (كان لتلك التصرفات أثرها في تشويه رسالة الإنجيل وإحباط مراميها) عجيب قولهم! فما كانت الحروب الصليبية إلا لتحقيق مرامي الإنجيل حسب زعمهم، وما كان الاستعمار إلا حماية للتنصير، والآن يتنصَّلون من كل ذلك محاولين التفرقة بين هذه الأصناف من العداوات وبين دعاويهم الإنجيلية.

4- ملاحظة الفوارق بين تجاربهم العدوانية الحاصلة على بلدان العالم الإسلامي بغية معالجة الموقف الماضي بصورة مختلفة تكون متوافقة مع تاريخ كل جزء من أجزاء هذا العالم. فالبلد الذي عانى كثيراً منهم يعامل الآن معاملة تختلف عن البلد الذي لم يعان منهم إلا القليل، ولكن الحق يدعونا لأن نلفت أنظارهم إلى أن أي جزء من أجزاء العالم الإسلامي حلت به مصيبة فإن الأثر النفسي السلبي ينتقل إلى العالم الإسلامي كله ولو لم يتضرر جميعه بشكل مباشر بهذا المصاب.

رابعاً: وللتدليل على العلاقة الوثيقة بين كل الألوان الاستعمارية والعدوانية التي وقعت على المسلمين وبين التنصير نسوق الدليل التالي، فقد ألقى كريكوري. م. ولفنكستون موضوعه وهو (مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في شمال أفريقيا) ذاكراً فيه بأن التنصير في هذه المنطقة ضعيف حتى ليكاد يكون معدوماً، وهنا جاء قول أحدهم معقباً على المحاضرة وذلك في الصفحة 387 بما يلي:

(قرأت ذلك والأسف يملأ نفسي، فماذا كان يفعل الفرنسيون والإيطاليون عندما كانوا هناك)؟؟ نعم ماذا كانوا يفعلون، يستعمرون فقط؟ إنهم لم يفلحوا في تقديم النصرانية لأهالي تلك البلاد، فماذا كانوا يفعلون إذن؟

خامساً: شارلي. ر. تيبر في موضوعه: (الظرفية والتأصيل) يقول في الصفحة 205 مايلي:

(كيف يمكننا أن نفصل أنفسنا عن مواقف الحكومات الغربية من النـزاع الإسرائيلي الفلسطيني؟ وأهم من ذلك كيف يمكننا أن نتفادى الاعتقاد السائد بين المحافظين من النصارى بأن قيام دولة إسرائيل إنما هو تحقيق وعد الرب لأبراهام ذلك الاعتقاد الذي يبرر جميع تجاوزات إسرائيل على أنها تحقيق لتلك النبوءة، ما الوسيلة التي نتجاوز فيها سيطرة الضمير الغربي السييء في التعامل مع اليهود على حساب الفلسطينيين؟).

1- إن هذا القول يمثل صحوة من نوع ما، إنه الإحساس بالذنب، وهذا أول مراحل الصدق مع النفس إن كانت هناك خطوات تالية.

2- إن اليهود هم الذين جعلوا هذه النبوءة تأخذ من أنفس الغربيين مكان اليقين وإلا فأين هو هذا الوعد الذي قطعه إبراهيم عليه السلام لهذه الفئة القادمة من الآفاق والتي احترفت على مر الدهر القتل والإرهاب والمؤامرات والدسائس، لا يوجد ثمة نبوءة، لكنها الدعاية اليهودية التي انطلت على الغربيين فصدقوها.

3- نعم، إن جميع دول الغرب تقف إلى جانب إسرائيل دون استثناء ويوافقهم في ذلك دول المعسكر الشرقي بكافة.

4- حاول المحاضر أن يزعم بأن النـزاع إنما هو إسرائيلي – فلسطيني بغية تحجيم القضية وتضييقها، لكنه في الحقيقة نـزاع يهودي – إسلامي لا غير، ومحاولته تلك محاولة مكشوفة ساذجة.

5- يتساءل المحاضر عن الوسيلة التي يتجاوز فيها سيطرة الضمير الغربي السييء في التعامل مع اليهود على حساب الفلسطينيين، ولعل الجواب البسيط على ذلك هو الدعوة للتحرر من سيطرة الإعلام اليهودي عليهم وعلى كنائسهم وعلى الفاتيكان، وحتى على مؤتمرهم المنعقد في كولورادو، ومواجهة اليهود الذين يريدون تدمير البشرية جميعاً وإيقافهم عند حدهم، والأخذ على أيديهم، وتحجيم دورهم في الإساءة للمسلمين بخاصة وللإنسانية بعامة.

سادساً: وهنا تأتي أهم وثيقة صادرة عن هذا المؤتمر، بل هي أهم ملحوظة قيلت فيه، تلك هي كلمة شارلي. ر. تيبر في موضوعه (الظرفية والتحول والتأصيل)، وذلك في الصفحة 214 والتي هي:

(انطلاقاً من الحقائق المذكورة أعلاه ما الأمور الملحة التي تحتم اتباع منهج سليم للتنصير بين المسلمين؟.

إن الشرط الأساسي في نظري هو أن نتوب من طبيعة علاقتنا (الغربية النصرانية) التاريخية والحالية مع العالم الإسلامي، وإذا لم نخط هذه الخطوة فإنني لا أرى أية جدوى من التقدم إلى الإمام، ولن يفيدنا هنا التنصل من مسئوليتنا عن الجرائم البشعة التي ارتكبها الصليبيون ضد المسلمين، ولا عن الإرهاب الصهيوني ضد الفلسطينيين، فالاعتقاد السائد بين المسلمين هو أننا نشترك في المسئولية عما ارتكبه أسلافنا وحلفاؤنا أبناء جلدتنا إذا لم نشجب تلك الأعمال ونتصرف بطريقة مختلفة عنها، إن (الظرفية) تلزمنا أن نبدأ العمل وفق شروطهم وليس وفق شروطنا، وبمعنى آخر فإن الموقف يتطلب منا أن نرتكب عن عمد أنواعاً من أعمال (الخيانة) لأممنا ومجتمعاتنا، علينا أن نتخلى عن الروح الانتصارية وأن نكون أكثر احتراماً وحساسية للمسلمين ولعقيدتهم وطريقة حياتهم، فالتنصير الذي يتسم بأي موقف مغاير إنما يشوه الكتاب المقدس ويسيء إليه).

1- هذه الصرخة قوية وواضحة وصادقة.

2- إنهم يجب أن يعترفوا بمسئوليتهم عن كل تلك الجرائم البشعة التي اقترفوها بحق الإسلام والمسلمين على مدار التاريخ، والتي ما يزالون يقترفونها إلى اليوم دون حياء أو خجل.

3- إن المسلمين يوم قدروا عليهم لم يفعلوا بهم ما فعلوه هم بالمسلمين يوم أن قدروا عليهم.

4- إنهم أصدروا تبرئة لليهود من قتلهم عيسى المسيح، وهذا مخالف لكل حقائق التاريخ، ولكنهم فعلوا ذلك إرضاء للسيطرة اليهودية العالمية، إن الثابت في هذا الأمر هو أن اليهود قد لاحقوا المسيح بغية قتله. ولكن الله رفعه إليه، ولو أنهم قبضوا عليه لقتلوه كما قتلوا يهوذا الإسخريوطي الذي شُبِّه لهم، فإن النية وسبق الإصرار والقيام بالفعل قد تم، على الرغم من اعتقادنا بأنهم لم يقتلوه حقيقة ولكن شُبِّه لهم، فإن الفاتيكان قد أصدر تبرئة لساحة اليهود من هذا الفعل الشنيع فما بال الفاتيكان وما بال النصارى يحجمون عن إصدار قرار يدين كل تلك الجرائم التي اقترفوها واقترفها آباؤهم وأجدادهم من المستعمرين والصليبيين وما يزالون يقترفونها، مرة بمساندة اليهود في فلسطين، ومرة بالتدخل الاستعماري في قضايا لبنان، وفي قضايا النفط، وفي قضايا الاقتصاد إلى آخره من عشرات الجرائم، إن عليهم إن يصدروا قراراً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض مستنكرين تلك الجرائم كلها، بعدها يحق لهم أن يحملوا عقيدة المسيح ليقدموها للبشرية تقديماً بريئاً. ولكن شيئاً من ذلك لن يحدث لأن الاستعمار والصليبية والتنصير والاستشراق كلها مسميات مختلفة لهدف واحد، وأساليب متنوعة لقصد مشترك.

5- يجب أن نلاحظ هنا بعض العبارات المهمة: أن نتوب – إذا لم نخط هذه الخطوة فإنني لا أرى أية جدوى من التقدم إلى الأمام – التنصل من مسئولياتنا – الجرائم البشعة – إننا نشترك في هذه المسئولية عما ارتكبه أسلافنا وحلفاؤنا – نشجب – أن نرتكب عن عمد أنواعاً من أعمال الخيانة – فالتنصير الذي يتسم بأي موقف مغاير إنما يشوه الكتاب المقدس ويسيء إليه.

6- في الفصل الرابع (كيف نحضر من أجل الحوار) من كتاب (إرشادات إلى الكاثوليك في العالم من أجل حوار بين المسلمين والمسيحيين) الصادر عن الفاتيكان (سكرتارية غير المسيحيين) الذي صدرت طبعته الأولى بالإنجليزية عام 1969م ونشرته دار نشر (انكورا بروما) وقام بتعريبه[1] الدكتور صبحي الطويل جاء فيه:

(ويحتاج الأمر مدة طويلة لوضع قائمة بكل سوء التفاهم والتحيزات والمظالم التي أفسدت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في الماضي والتي تجعل هذه العلاقات صعبة حتى يومنا هذا، وتطلب منا وثيقة المجمع (الإعلان الفاتيكاني الثاني) NOSTRA Aetate بالتحديد أن ننسى المشاجرات السابقة والتطلع إلى المستقبل رغم المشاجرات الكثيرة والعداوات التي قامت عبر القرون بين المسيحيين والمسلمين، يحث هذا السنيودس (المجمع) الأقدس الجميع على نسيان الماضي والاجتهاد بإخلاص لبلوغ تفاهم متبادل، وباسم البشرية كلها ليتوحد الهدف من أجل حماية واحتضان العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والحرية) (الوثيقة 3/ 2).

لقد أوردنا النص السابق لندلل على أن الذي صدر عن الفاتيكان ليس هو اعترافاً بالجرائم السابقة التي كيلت للمسلمين، وليس هو تنصلاً منها، بل هو دعوة لنسيان الماضي، هكذا، على علاته وفتح صفحة جديدة، أي هو خياطة الجرح دون تنظيف وتطهير وتعقيم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو دعوة لنسيان العداوات السابقة، وذلك يعني بأن ثمة اعتداءات تمت من المسلمين ضد النصارى، واعتداءات من النصارى تمت ضد المسلمين، على قدم المساواة، وهذا النص دعوة لنسيان تلك العداوات، وهذا أيضاً اتهام وإجحاف في حد ذاته، إذ إن الاعتداء كان من طرف واحد، هم النصارى، والمعتدى عليهم هم المسلمون، ويأتي هذا السنيودس ليدعو كلا الطرفين إلى نسيان الاعتداءات، دون أن يجرم المجرم، ودن أن يعترف المعتدي بعداوته، ودون أن يلقى جزاءه، حتى دون أن يعتذر، فضلاً عن أن يتحمل كافة التبعات، وعلى المعتدى أن يقبل هذه الدعوة لفتح صفحة جديدة على الرغم من أن آثار اللطم والضرب والكدمات التي ما تزال على ملامحه، يفتح صفحة جديدة، وينطلق في صحبة هذا العاتي المتكبر وجسده مضمخ بالجراح، فأية صحبة هذه! وأية صفحة جديدة هذه! وأي اعتراف هذا! وأية دعوة إلى حوار محترم! إنها لا تعني إلا شيئاً واحداً فقط هو سيادة من طرف واستعباد واستزلام من طرف آخر…

7- إن إقدامهم على اعتراف من هذا النوع، وبشكل عملي لا قولي فقط، سيكون هو المحك الحقيقي لمصداقيتهم، وحتى مجرد القول وإطلاق الاعترافات لا يكفي في هذا الصدد، إذ أننا – نحن المسلمين – نريد منهم مواقف فعلية عملية من مثل تخليهم عن مساندة اليهود، وتوقفهم عن ممارسة الضغوط والتدخل في الشئون الداخلية للعالم الإسلامي.

8- ينبغي أن لا يتصور المنصرون بأن مجرد إعلان هذه التوبة سيكون سبباً لأن يفتح العالم الإسلامي ذارعيه لبعثاتهم التنصيرية لتعمل ما تريد عمله في ديار المسلمين، إنها ستكون فقط سبباً في فتح صفحة جديدة من العلاقات المتبادلة القائمة على الاحترام والثقة، وأما مسألة دخول المسلمين في النصرانية أو دخول النصارى في الإسلام فهذا أمر آخر تحكمه ظروف خاصة من حرية انتشار الدعوة، وصاحب الحق الأقوى هو الذي يثبت في الساحة آخر المطاف.

سابعاً: جاء في التعقيب على محاضرة شارلي. ر. تيبر الآنفة الذكر في الصفحة 216 التعقيبات التالية:

1- (أبدى البعض تقديرهم لإصرار الكاتب على وجوب توبة النصارى عن طبيعة علاقتهم التقليدية بالمسلمين، وعبر بعضهم الآخر عن احترامهم وتقديرهم فقط للاقتراحات المحددة التي قدمها).

2- (إن الشعور بالذنب يمكن أن يكون مبالغاً فيه).

3- (يجب أن لا نخدع أنفسنا ونقع فريسة للشعور بالذنب، فالإسلام ليس خالياً من الذنب).

والتعليق على ذلك يدور حول ما يلي:

1- القول الأول يدل على سعة أفق.

2- القول الثاني يدل على استهانة واستهتار، لأن ما فعلوه من جرائم بحق المسلمين أقوى ألف مرة من مجرد الشعور بالذنب، فكيف بهم وهم يحجمون عن مجرد الاعتراف بالذنب؟

3- القول الثالث يريد أن يحمل الإسلام ذنباً، فأي ذنب يتحمله الإسلام؟ وأي ذنب يتحمله المسلمون؟ وهل الفتوحات التي لم يعرف التاريخ أرحم منها تحمل ذنباً؟

ثامناً: تأكيداً لما سبق فقد ورد في محاضرة عنوانها (مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في الشرق الأوسط) قدمها نورمان. هـ. هورنر، تحدث فيها عن وضع التنصير في مصر وشمال السودان وسوريا والأردن والعراق والجزيرة العربية عدا اليمن الشمالي والجنوبي، وقد أبرز في هذا الموضوع الحالة الضعيفة للتنصير في هذه البلدان، والمهم في هذه المحاضرة هو أن المحاضر قد تبنى أحد التعقيبات وذكره نصاً في ص404 وذلك على النحو التالي:

يقول المحاضر: (هنالك تعقيب واحد سررت به سروراً عظيماً وهو يتعلق بموضوع لم يحظ بمعالجة حقيقية لا في بحثي ولا في البحوث الأخرى، كما لم يبرز بما فيه الكفاية من خلال مداولات المؤتمر، يقول التعقيب: أنا أعتقد ضرورة إصدار بيان في هذا المؤتمر ليقرأه الجميع وهو أننا بصفتنا دعاة للكتاب المقدس نعترف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي، ويجب أن لا يتم هذا لأننا نريد أن نكسبهم ونكسب المتعاطفين معهم إلى النصرانية بل لأنهم قطعاً يستحقون هذا الحق… أرجو أن لا نتجاهل هذا الموضوع لجبن منا خلال هذا المؤتمر الخاص بتنصير المسلمين).

وليس ثمة تعليق على هذا القول سوى مطالبتنا بأن يوضع هذا القول موضع التنفيذ الفعلي حتى نرى مصداقية تخليهم عن مناصرة اليهود، وعن مناصرة الاستعمار، وتخليهم عن الروح التي تحمل بين جنباتها أحقاد التاريخ.

تاسعاً: في محاضرة قدمها شخص اسمه محمد اسكندر وهو مسلم متنصر، وموضوعها (مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في تركيا) في الصفحة 423 من خلال رد الكاتب على التعقيبات التي تلت محاضرته جاء قوله:

(ينظر الأتراك إلى تاريخهم بمثابة إخضاع ناجح للإمبراطورية البيزنطية الفاسدة والعاجزة التي أعقبتها الإمبراطورية العثمانية الرائعة والتي أفل نجمها تدريجياً عبر القرون، وبصورة عامة نتيجة للتدخل الأجنبي، والتي بلغت أوجها بالانتصار الذي أحرزه أتاتورك في دفع اليونان الكريهين نحو البحر.

هنالك رأي يقول بأن تركيا قد بدأت في عصر الجمهورية الحديثة إلا أن جذورها بالطبع من الناحية العاطفية مغروسة بعمق في الإمبراطورية العثمانية، إن الطابع العام والمشترك في كل من الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية هو أن النصرانية والمؤامرات الخارجية والغزوات كانت دائماً مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً).

ولنا أن نعلق على ذلك بما يلي:

1- يعترف المحاضر بأن الإمبراطورية البيزنطية كانت مليئة بالفساد عندما وصل إليها المسلمون.

2- يعترف كذلك بأن الإمبراطورية العثمانية التي أخضعت الإمبراطورية البيزنطية إنما كانت إمبراطورية رائعة.

3- ثم يعترف كذلك بأن أفول نجم الإمبراطورية العثمانية الرائعة إنما كان بسبب التدخل الأجنبي بصورة عامة.

4- ملاحظته بأن تركيا الحديثة إنما هي موصولة بأصولها العثمانية وذلك على الرغم من مسيرتها العلمانية من وقت زوال الخلافة العثمانية وسيطرة كمال أتاتورك على مقاليد الحكم إلا أن تلك العلمانية لم تتجاوز القشور الخارجية للدولة التركية الحديثة حيث إن الشعب التركي بعاطفته الدينية بقي مشدوداً وبكل قوة إلى جذوره الإسلامية.

5- الإحساس بأن الشعب التركي يقرن دائماً في ذاكرته وفي مشاعره بين النصرانية من جهة وبين المؤامرات الخارجية والغزوات وأنها كانت مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً، إن هذا الاعتقاد يعتقده الأتراك سواء في العهد العثماني أم في العهد الجمهوري.

6- إن مهمة التنصير إذن تتمثل في أن يفصلوا في حس التركي بين التنصير ويبن المؤامرات الخارجية والغزوات حتى يستقيم لهم الأمر وحتى يتقبل الأتراك نصرانيتهم.

بادئ ذي بدء فإن هذا الإعلان قد يكون البداية الجيدة لتلك المصالحة بين الطرفين، ثم يمر زمن طويل من المعاملة الحسنة التي يفترض بالمنصرين والغربيين بعامة أن يقوموا بها تجاه المسلمين، تثبت هذه الفترة الطويلة حسن نوايا الغربيين، وتثبت احترامهم لمشاعر المسلمين وحساسيتهم، إن عليهم خلال هذه الفترة أن يمارسوا ضبطاً للنفس إلى أقصى درجات الضبط دون أن تبدو منهم بادرة غضب أو انـزعاج أو انفعال.

إن هذه الفترة الطويلة لابد منها حتى ينسى العالم الإسلامي تلك الإساءات وتلك الجراحات وتلك الجرائم، وبعد هذه الفترة الطويلة، وبعد أن تتغير نظرة المسلمين إلى الغربيين عندها يصبح للمنصرين الحق في أن يتقدموا إلى المسلمين بدعوتهم إلى مبادئ دينهم، وعندها سيكون تقديم النصرانية إلى الناس مثلها مثل أي دين يقدم إلى الإنسانية، مثلما تقدم للبشر مبادئ الأديان والأحزاب والأفكار والمذاهب، والناس سيختارون ما يريدون، وصاحب الحق الأقوى هو الذي سيصل إلى قلوب الناس، وهو الذي سيمتلك عليهم مشاعرهم وأحاسيسهم، وعندها سيقدم الإسلام كما تقدم النصرانية إلى الناس، وللناس أن يختاروا بحرية فكرية مطلقة، وعندها سنرى من الذي سيتقدم على الآخر، هل سينصر المنصرون المسلمين أم سيدخلُ المسلمون النصارى في الإسلام؟.

عاشراً: في محاضرة ألقاها ديفيد كاشن عنوانها: (مقارنة بين وضع النصرانية والإسلام في إيران) جاء في الصفحة 434 ما يلي:

(إن الكنيسة في إيران صغيرة وتعيش في حالة صراع من أجل البقاء، لكن ربما يهيئ الانفتاح الجديد في أوساط المسلمين فتح باب هام نحو العمل الكنسي والتوسع فيه).

الملاحظة الأولى: على هذا القول هي أن هذا الكلام قد قيل في عام 1978م، وذلك إبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي لإيران، وبالتحديد إبان الغليان الشعبي الذي اجتاح إيران تمهيداً لعودة الخميني إليها، فقد كان ثمة توقع أشياء جديدة ستحدث في إيران، لذا فإنهم كانوا متفائلين برياح التغيير هذه معتقدين بأن أي تغيير سيكون خيراً على التنصير هناك، وقد حدثت تغييرات كثيرة بعد ذلك، وتجددت أمور تجعل هذا البحث تاريخياً إلى حد كبير ويحتاج إلى إعادة نظر وتجديد لمعرفة وضع التنصير تحت الحكم الشيعي الخميني.

والملاحظة الثانية: تتمثل في شكواهم من حالة الكنيسة في إيران أيام الشاه وأنها في حالة صراع من أجل البقاء، إنها حالة بئيسة وتعيسة، وهم يتمنون هذا التغيير الذي حصل على أمل انتعاش الكنيسة هناك.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما مدى مساهمتهم في الإطاحة بالشاه وذلك من خلال نفوذهم الدولي، ومن خلال تحريض مراكز القوى العالمية؟

وهناك سؤال آخر: إنهم كما مر سابقاً من هذا البحث يعتقدون بأنه في حالة استقرار مجتمع ما، وفي حالة استعصاء هذا المجتمع على التنصير من الضروري عند ذلك إحداث حالة عدم توازن في هذا المجتمع، ومن خلال حالة عدم التوازن هذه يتسلل المنصرون إلى هذا المجتمع حاملين لأفراده الدواء والعلاج والمواقف الإنسانية من جانب والدعوة إلى التنصير من الجانب الآخر، فما دورهم في إحداث حالة عدم التوازن الحالية في إيران؟

والسؤال الثالث الذي يطرح نفسه أيضاً هو: ما دورهم في استمرار الحرب العراقية الإيرانية؟، وما دورهم في التأثير في مراكز القوى العالمية في استمرار هذه الحرب؟ ذلك لأن سقوط الشاه، وعودة الخميني، كل ذلك لم يكن كافياً لإحداث حالة عدم التوازن اللازمة والكافية لإشعال فتيل التنصير، لكن استمرار الحرب، واستمرار المآسي والجراح… كل ذلك سيعطيهم الفرصة الكاملة لبسط نفوذهم من خلال المواقف الإنسانية التي يتخذونها سبيلاً للهيمنة والسيادة.

——————————————————————————–

[1] النسخة العربية للكتاب ما تزال مخطوطة غير مطبوعة. أما النسخة الأصل فهي صادرة عن أعلى هيئة نصرانية في العالم حالياً.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/37560/#ixzz61953cqd2

https://hidayat-alhayara.com/ موقع هداية الحيارى الدعوي