البروتستانت

الامام /محمد أبو زهرة

الفرقة الحديثة “البروتستانت”أو الإصلاح الدينيحال الكنيسة قبل الإصلاح:
شدة الكنيسة على الناس والعلماء:110- اشتد ضغط الكنيسة الكاثوليكية على المسيحيين، وبالغت في فرض آرائها عليهم مبالغة تجاوزت حد الغلو، ولم تسلك في ذلك سبيل الموعظة الحسنة، والدعوة الصالحة، والإرشاد القويم، ومخاطبة الأرواح والنفوس، وتمكينها من أن تتبعها، وهي حرة مريدة مختارة، بل سلكت سبيل العنف وركبت متن الشدة، فجعلت كل رأي في العلوم الكونية يخالف رأيها كفراً، ولا تدعو معتنقيه إلى الهداية، وترشده إلى الرشاد، كما يليق برجال الدين مع من يرونه ضالاً، بل تكفر لأوهى الأسباب، وتحرق أو تعذب من تراه كافراً بلا رفق ولا هوادة.فهذا المجمع الثاني عشر من مجامعه الكنيسة وهو المجمع المسمى بالاتيراني الرابع المنعقد سنة 1215 يقرر استئصال الهراطقة، ويعنون بذلك كل من يرى رأياً مخالفاً للكنيسة، ولو كان رأياً في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، وتكشف عن سرائر الناس بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء.وإن جهر رجل من رجال الدين بالدعوة إلى الإصلاح، داعياً رجال الكنيسة إلى أخذ الناس برفق، وحاثاً رجال الدين على الأخذ بهدية كان عقابه الحرمان والقتل.حدث في أوائل القرن الخامس عشر أن أحس أساقفة فرنسا بوجوب إصلاح حال البابوات، فانعقد لذلك مجمع مؤلف من 150 أسقفاً، و1800 من رجال الدين، ولكن هذا المجمع انتهى في قراراته بالأمر بإحراق يوحنا هوس مصلح كنيسة روما بوهيميا ورفيقه جيروم.ولقد حرق وعذب في هذا السبيل علماء استشهدوا في سبيل العلم بسبب مظالم تلك الكنيسة، وضيق صدر القوامين عليها.ومما يذكر في هذا أن أحد العلماء واسمه ابيلارد كان له رأي في تكفير المسيح عن خطيئة آدم خالف به رأي الكنيسة فقال: ليست حياة المسيح وصلبه وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلاً لإرضاء الله وإنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، وإنما لاقى المسيح ما لاقى إعلاناً لما يكنه قلبه من حب الله، وعسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فيعيدهم إلى طاعة الله. ولكنه ما أن قال ذلك القول حتى انعقد مجلس لمحاكمته، فكان نصيب كتبه التحريق، ونصيبه السجن الدائم، حتى وافته منيته.وجاليليلو يرى رأيا في الكون فيسجن لذلك الرأي، مع أن رأيه ليس من أمور الدين في شيء.
فرض سلطانها على الملوك:111- بالغت الكنيسة في شدتها، كما رأيت، ولم ينج حتى الملوك من طغيانها، فقد كان انقسام الدولة الرومانية الغربية إلى ممالك مختلفة، واعتبار كل مملكة وحدة سياسة لا تتصل بالأخرى إلا اتصال محبة وسلام، أو حرب وخصام – كان ذلك سبباًَ في أن صار البابا لا سلطان لأحد من ولاة الأمر عليه، وقد تقرر هذا من بعد كما صار تعيين البابوات باختيار المجامع، لا بتعيين ملك أو أمير، مهما تكن قوته وسطوته وصال البابوات بعد تعيينهم غير خاضعين بأي نوع من أنواع الخضوع لأي ملك من الملوك، وعلى النقيض من ذلك لهم هم السلطان الذي لا يرد على كل مسيحي، مهما تكن مكانته، يستوي في ذلك الأمير والخفير، والراعي والرعية، فليس لأي ملك سلطان على الباب، والبابا له سلطان على كل ملك، لأنه مسيحي، وله السلطان الكامل على كل المسيحيين، ولأن البابا خليفة لبطرس الرسول وبطرس الرسول أقامه المسيح رئيساً على الحواريين من بعده، فالبابا على هذا الأساس خليفة للمسيح ينطق باسمه، ويتكلم بخلافته، وينفذ بسلطانه، ومن خرج عن طاعته فقد خرج عن طاعة المسيح، وحارب دينه.
قرارات الحرمان تنال الملوك:وبهذا المنطق فرضوا أوامرهم على الملوك، كما فرضوها على سائر الناس، ولذا لم ينج بعض الملوك من قرارات المجامع بحرمانهم، وطردهم من حظيرة المسيحية، ولعنهم، فقد جاء في كتاب سوسنة سليمان: “المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا سنة 1245 بأمر البابا اينوسنت الرابع لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمانه، وهذا المجمع لم تسلم كنيسة فرنسا حتى الآن بصحته أو بسلطانه مطلقاً”.لم ينج إذن الملوك من قرارات الحرمان والطرد، وإن لذلك أثره في نفوس شعوبهم، كما إنه يحفز الملوك على العمل من جانبهم على حماية أنفسهم، وهم في ذلك لا يتمنعون عن أن يثيروا القالة في رجال الكهنوت، ويكبروا صفائرهم، ويروجوا عنهم ما يحط من قداستهم، حتى ينفردوا بالاحترام، ولا يكون سلطان لأحد غيرهم.112- هذه هي الكنيسة في معاملتها للناس، عنف وزجر وقسوة، لا إرشاد وهداية وإصلاح، وهي تضرب كل من يعترض طريقها. لا تفرق بين سائس ومسوس، وحاكم ومحكوم، وراع ورعية.وقد احتكمت لهذا بذوي السلطان، فكان لابد من مغالبة بينهما. ولم يكن الأمر مقصوراً على الأذى البدني تنزله بمن يخالفها، ولو فيما ليس بينه وبين الدين نسب، ولا يتصل به بسبب. بل تجاوز ذلك إلى إرهاق المسيحيين باتاوات ماليه يفرضونها، وضرائب كبيرة يأخذونها، وعلى ذلك صار المسيحيون قاطبة يئنون تحت نير ثقيل، سواء في ذلك من خالف ومن وافق، فالمخالف بالعذاب يهرأ به جسمه، والموافق بالمال ينقل به، وتفرض عليه ضرائب لأسباب غير معقولة وغير مقبولة أحياناً وما يجمع من أموال الفقراء والمحدودين التي حصلوا عليها بالكد واللغوب يتوزعه رجال الدين بينهم، وينفقونه إسرافاً وبداراً في سبيل تحقيق رغباتهم، وبذلك كانوا يجمعون المال من غير حله، وينفقونه في غير حله أيضاً، وبذلك انغمسوا في شر ما في هذه الدنيا، وتركوا لب الدين.