بالسائل المنوي عشرات الملايين من الحيوانات المنوية، وهذه الكائنات خلايا وحيدة متماثلة كل التماثل في كروموسوماتها الأربع والعشرين عدا واحدا: هو الكروموسوم المحدد للجنس، وهو إما مذكر يرمز له بالرمز Y أو مؤنث يرمز له بالرمز X، أما بويضة الأنثى فهي الأخرى خلية وحيدة، كروموسوماتها ثلاث وعشرون إلى جانب الكروموسوم الأخير المحدد للجنس وهودائما مؤنث X. عند التقاء الذكر بالأنثى تتدافع ملايين الحيوانات المنوية نحو البويضة، والحيوانات المنوية المذكرة Y أكثر حيوية وسرعة من المؤنثة، فإذا سبقت كان الحمل ذكرا، وإلا اجتمعت الصفات المؤنثة مع الصفات المؤنثة للحيوان المنوي X فكان الحمل أنثى، ومن هنا أثبت علم الوراثة الحديث أن جنس المولود إنما يحدده في المقام الأول الحيوان المنوي، ويتفق ذلك مع سياق الآيات التي ربطت بين المني وبين جنس المولود، بشكل يؤكد إعجازها:

)وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى  ([النجم: 45، 46[(1)

)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى( [القيامة:37-39[.

كما رأينا: تبدأ الحياة بالتقاء بويضة وحيوان منوي. تحمل الأنثى في كل دورة شهرية بويضة جديدة صالحة للإخصاب بالسائل المنوي، الذي يضم في القذفة الواحدة عشرات الملايين من الحيوانات المنوية التي قد يصل عددها إلى 350 مليونا، ومن كل هذه الملايين لا ينجح إلا واحد فقط في إخصاب البويضة، وهنا نجد روعة الدقة العلمية في اختيار القرآن لتعبير “نطفة مِنْ” مني يمنى، فالنطفة مقدار ضئيل للغاية (النطفة لغة: القطارة والقليل من الماء، ونطف الماء: قطر) من ذلك الماء – وليس كل الماء أو معظمه الذي يقوم بالإخصاب، كما عبرت بذلك الآيات، وأكد ذلك أيضا – بعلم من المولى عز وجل – المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه:

 *(ما مِنْ كُلِّ الماءِ يكونُ الوَلَدُ، وإذا أرادَ اللهُ خَلْقَ شَيءٍ لَمْ يَمْنَعْهُ شَيء) (مسلم).

ومن ناحية أخرى فإن ارتباط جنس المولود بحيوان معين ضمن ملايين الحيوانات يقطع باستحالة التنبؤ – فضلا عن التحكم – في جنس نطفة تحملها أنثى، كما ثبت أن جنس المولود الجديد لا يتحدد ولا يظهر قبل ستة إلى سبع أسابيع، مما يؤكد عجز العلم من جهة، وإعجاز قدرة الله تعالى، الذي خص نفسه بمعرفة ما تغيض الأرحام، كما جاء في أكثر من آية:

)اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(

[الرعد: 8].

)…وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ…( [الحج: 5].

)إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( [لقمان: 34[.

)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير ( [فاطر: 11].

)إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ([فصلت: 47].

 ________________________________

(1) النطفة: القليل من الماء (اللسان)، ونطف الماء: قطر، والقربة تنطف أي تقطر (الصحاح) والنطفة من معانيها القطرة (الوسيط).