قال رحمه الله….

 

يسألني القراء دائما في استغراب.. كيف وصلت إلى قرارك الذي تردده في كل كتبك و مقالاتك بأن الإنسان مخير لا مسير.

كيف يكون الإنسان مخيرا و هو محكوم عليه بالميلاد و الموت و الاسم و الأسرة
و البيئة، و لا حول له و لا قوة، و لا اختيار في هذه الأشياء التي تشكل له
شخصيته و تصرفاته.

و القراء يقعون في خطأ أولي منذ البداية حينما يقيمون علاقة حتمية بين
البيئة و السلوك.. و بين الأسرة و تقاليدها و بين الشخصية، و هو تفكير
خاطئ، فلا توجد حتمية في الأمور الإنسانية.. و إنما يوجد – على الأكثر –
ترجيح و احتمال و هذا هو الفرق بين الإنسان و الجماد و هذا هو الفرق بين
الإنسان و برادة الحديد.


برادة الحديد تطاوع خطوط المجال المغناطيسي في حتمية و جبرية و تراص في خطوط المجال حتما حينما نرشها حول المغناطيس.


أما الإنسان فإن علاقته بظروفه لا تزيد على كونها احتمالا أو ترجيحا.


الابن الذي ينشأ في عائلة محافظة محتمل أن ينشأ محافظا هو الآخر مجرد
احتمال.. و كثيرا ما يحدث العكس، فنرى هذا الابن و قد انقلب متمردا ثائرا
على التقاليد، محطما لها..


و هذا هو الفرق بين المسائل الآلية الميكانيكية و المسائل الإنسانية.. و نفس الكلام يقال في البيئة..


البيئة تشكل الإنسان.. و لكن الإنسان أيضا يشكل البيئة.


و نظرة سريعة في المجتمع العصري حولنا سوف ترينا كيف أخضع الإنسان مشاكل
الحر و البرد و المسافات بعقله و علمه و استطاع أن يسودها فهو يكيف الهواء
بالمكيفات، و هو يهزم المسافات بالمواصلات السريعة و البرق و الهاتف.


الإنسان ليس كتلة هلامية سلبية تشكلها حتميات البيئة.. و لكنه إرادة صلبة في ذاتها لها حريتها في توجيه الأحداث.


و هذا هو الإنسان الذي ولد طفلا تحكمه أسرته و بيئته و مقتضيات اسمه و
تقاليده.. ها هو ذا يهاجر و يغير اسمه و بيئته و أسرته و ينتقل إلى مجتمع
جديد فيصنع انقلابا في هذا المجتمع الجديد و يغيره من أساسه.


و ها هو ذا يموت فيترك كتابا.. فإذا بالكتاب يغير التاريخ.


و صحيح أن الإنسان قليل الحيلة في الطريقة التي يولد بها و في الطريقة التي
يموت بها.. و لكنه بين ميلاده و موته يصنع حضارة.. أعطاه الله القدرة على
أن يبني و يهدم و يحرر و يتحرر و يفكر و يبتكر و يخترع و يفجر و يعمر و
يدمر.. و سلمه مقاليد الخير و الشر و حرية الاختيار.


و حواجز البيئة و ضغوط الظروف لا تقوم دليلا على عدم الحرية بل هي على
العكس دليل على وجود هذه الحرية.. فلا معنى للحرية في عالم بلا عقبات.. و
في مثل هذا العالم الذي بلا عقبات لا يسمى الإنسان حرا، إذ لا توجد لرغباته
مقاومات يشعر بحريته من خلال التغلب عليها.


و الحرية لا تعبر عن نفسها إلا من خلال العقبات التي تتغلب عليها.. فهي تكشف عن نفسها بصورة جدلية من خلال الفعل و مقاومة الفعل.


و لهذا كانت الضغوط و العوائق و العقبات من أدلة الحرية و ليس العكس.


و الفيلسوف الغزالي يحل المشكلة بأن يقول إن الله حر مخير مطلق التخيير و
المادة الجامدة مسيرة منتهى التسيير.. و الإنسان في منزلة بين المنزلتين..
أي أنه مخير مسير في ذات الوقت.. مخير بمقدار مسير بمقدار.


و توضيحا لكلامه أقول إن الإنسان حر مطلق الحرية في منطقة ضميره.. في منطقة
السريرة و النية.. فأنت تستطيع أن تجبر خادمك على أن يهتف باسمك أو يقبل
يدك، و لكنك لا تستطيع أن تجبره على أن يحبك.. فمنطقة الحب و الكراهية و هي
منطقة السريرة منطقة حرة حررها الله من كل القيود و رفع عنها الحصار و وضع
جنده خارجها..


لا يدخل الشيطان قلبك إلا إذا دعوته أنت و فتحت له الباب.


و قد أراد الله هذه النية حرة لأنها مناط المسئولية و المحاسبة.


أما منطقة الفعل فهي المنطقة التي يتم فيها التدخل الإلهي عن طريق الظروف و
الأسباب و الملابسات ليجعل الله أمرا ما ميسرا أو معسرا حسب نية صاحبه.


(( فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) )) (الليل)


يمهد الله أسباب الشر للأشرار.. و يمهد أسباب الخير للأخيار.. ليخرج كل منا ما يكتمه و يفصح عن سريرته و نيته و يتلبس بفعله.


و بهذا لا يكون التسيير الإلهي منافيا أو مناقضا للتخيير، فالله يستدرج
الإنسان بالأسباب حتى يخرج ما يكتمه و يفصح عن نيته و دخيلته و يتلبس
باختياره.


الله بإرادته يفضح إرادتنا و اختيارنا و يكشفنا أمام أنفسنا.


و من ثم يكون الإنسان في كتاب الله مخيرا مسيرا في ذات الوقت.. دون تناقض..
فالله يريد لنا و يقدر لنا حتى نكتب على أنفسنا ما نريده لأنفسنا و ما
نخفيه في قلوبنا و ما نختاره في أعمق الأعماق دون جبر أو إكراه، و إنما
استدراجا من خلال الأسباب و الظروف و الملابسات.


و في إمكان الواحد منا أن يبلغ ذروة الحرية بأن تكون إرادته هي إرادة الله و
اختياره هو اختيار الله و عمله هو أمر الله و شريعته.. بأن يكون العبد
الرباني الذي حياته هي الناموس الإلهي، فيعبد الله حبا و اختيارا لا
تكليفا.. إنه الحب الذي قال عنه المسيح:


(( لو كان في قلبك ذرة ايمان و قلت للجبل انتقل من مكانك لانتقل من مكانه)).


كما يحدث أن نعطي من ذات نفوسنا لمن نحب كذلك يعطي الله من ذاته لأحبابه، فيحقق لهم ما يشاءون فيكونون الأحرار حقا.

فكر الدكتور مصطفي محمود من كتاب (الشيطان يحكم)

 

 

 

 

 

تحميل الكتاب من هنا

الشيطان-يحكم-kutub-pdf.net