الإستشراق في خدمة التنصير واليهودية أ. د. علي بن إبراهيم النملة
تمهيد:
الاستشراق ظاهرة شملت شتى فروع المعرفة الإسلامية، وشمولها هذا أتضح مؤخراً بعد أن تخطى الاستشراق مجرد كيل الإتهامات على الكتاب السنة والتراث العربي. وبسبب من شمولية الدراسات الاستشراقية في الآونة الأخيرة يستبعد الناهلون من الإنتاج الفكري للاستشراق أن تكون هناك علاقة بين هذه الظاهرة وبين ظواهر أخرى تختلف مع الاستشراق في الطريقة والوسائل، ويقف البعض موقف المتحفظ عندما تكون هناك إشارة لقيام رابطة بين الاستشراق والاستعمار أو التنصير أو اليهودية/ الصهيونية. ومجيء المستشرقين من دول كان لمعظمها صولات وجولات مع الاستعمار في البلاد العربية والإسلامية[1]، ومجيء المستشرقين من دول تدين بالنصرانية كخلفية دينية لم تستطع التخلص منها وإن فضلت أن تظهر للآخرين بالمظهر العلماني، ومجيء المستشرقين من مجتمعات نشأ فيها اليهود وكان لهم تأثيرهم على هذه المجتمعات سلباً أو إيجاباً، كل هذا لا يبرر قيام رابطة قوية أو علاقة متينة بين هذه الخلفيات والأحداث، وظاهرة الاستشراق، إذ أن الاستشراق في مجمله كان مجرداً من هذه الخلفيات والأحداث على اعتبار أن الاستشراق منهج علمي يدرس ظواهر علمية خلفها سلف الأمة الإسلامية ويحاول الخلف أن يكونوا امتداداً لأولئكم السلف. هكذا يرى البعض الاستشراق إلى الدرجة التي جعلت بعضهم ((يتبنى)) آراء المستشرقين في الكتاب والسنة والتراث العربي الإسلامي، مصراً على أنه لا يخرج بهذا عن الخط الإسلامي وإن قال في كتاب الله وسنة نبيه – عليه السلام – ما يصل بالمرء إلى الخروج من الملة.
والطيب في الأمر أن هؤلاء المنبهرين قلة. وهم يتقلصون مع ارتفاع نسبة الوعي الثقافي والفكري بين العرب والمسلمين، وإدراك الكثير من المفكرين أن الهروب من الدين لم يعن الأمة على الوقوف على أقدامها بقدر ما أعانها على التعثر أكثر مما تعثرت من قبل. فبحث المفكرون مرة أخرى في أسباب انحطاط المسلمين وما خسره العالم من هذا الانحطاط، فلم يكن هناك بد من الوقوف على إسهامات المستشرقين مجملة وكونها أثراً من آثار هذا الانحطاط عندما تبين أن هؤلاء المستشرقين – في مجملهم – كانوا عوناً على الحملات الاستعمارية على البلاد العربية والإسلامية، و((قاعدة المعلومات)) لحملات التنصير التي لا تزال تجتاح المجتمع العربي والإسلامي، وتبين لهؤلاء أن قسماً من المستشرقين – كانوا منصرين، كما تبين لهؤلاء أن الاستشراق مهد بطريق مباشر لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين وأن الاستشراق لا يزال يسعى إلى تسهيل مسألة قبول قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين بين المفكرين الغربيين والمفكرين العرب على حد سواء.
ولا يكفي أن يقال أن هناك علاقة ضعيفة أو قوية بين التيارات المعادية للإسلام دون اللجوء إلى إقناع بوجود هذه العلاقة مع شيء وافر من التجرد الذي تفتقر له التيارات. والتجرد ديدننا لا نستطيع الخروج عنه مغلبين جوانب أخرى كالعاطفة مثلاً وإلا خالفنا نصاً منهجياً من نصوص القرآن الكريم. وفي التجرد عدل نحن مطالبون به حتى مع أولئكم الذين لم يراعوا فينا هذه الجوانب التي تسمو بالإنسان وترتفع به إلى درجات الكمال الإنساني، قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقو الله إن الله خبير بما تعملون} الآية (8) من سورة المائدة.
ومع هذا فإن محاولات إيجاد علاقة بين هذه التيارات المعادية للإسلام لم تخل في مجملها – وليس كلها – من تغليب العاطفة في مواقف يمكن حصرها. ولأن هذه المحاولات مكتوبة قابلة للمراجعة فينتظر منها أن تعالج هذا الجانب الذي يمكن أن يفهمه ويقدره المتلقي لو كان التلقي مشافهة وارتجالاً. وعلى أي حال فإن تغليب جانب العاطفة ليس سمة يمكن تعميمها على جميع الأعمال التي سعت إلى تأكيد هذه العلاقة.
على أن الأعمال العلمية التي سعت إلى تأكيد العلاقة بين التيارات المعادية للإسلام والتي لم تقتصر على هذه التيارات الأربعة (الاستشراق والتنصير، والاستعمار، والصهيونية) لم تعالج هذه القضية بتوسع لأنها كانت ضمن أعمال عامة في مجال الاستشراق بخاصة. عدا بحث في العلاقة بين الاستشراق والتنصير نشر في ((أخبار العالم الإسلامي)) في حلقات، لعله يجمع ويصدر في كتيب واحد تعميماً للفائدة وقد ورد ذكره في هذه المحاولة لتأكيد العلاقة بين الاستشراق والتنصير.
ولا يزال موضوع العلاقة بحاجة إلى مزيد من البحث والغوص في حياة المستشرقين العلمية – وربما أنشطتهم الأخرى، يستشف منها الباحث دلالات مقنعة لقوة العلاقة ناهيكم عن تحققها، ولا يبدو أننا – هنا – بحاجة قوية لتحقيق وجود العلاقة. ولكن الحاجة قائمة لتأكيد مدى القوة في العلاقة بين مجموع هذه التيارات المعادية. وربما بحثت العلاقة بين الاستشراق وبعض التيارات الأخرى التي خرجت عن الملة وهي لا تزال تدعي أنها من الإسلام.
وعلى أي حال فظاهرة الاستشراق[2] تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث تسبر غورها وتبتعد عن التكرار وتتخصص في جوانب ضيقة من هذه الظاهرة. ولعل الأقسام العلمية في الجامعات الإسلامية والعربية تسهم في مثل هذه الطريقة في البحث وتكثف من اهتمامها بهذه الظاهرة، على اعتبار أنها الظاهرة الوحيدة من بين الظواهر الأخرى التي ادعت العلمية والمنهجية، وسعت بهذا اللباس إلى تحقيق أهداف استعمارية وتنصيرية واقتصادية وعقدية وفكرية، كلها تتعارض مع الخط الإسلامي على أخف الأحكام.
ولعل مراكز البحوث المهتمه بالدراسات الإسلامية تسهم في هذا المجال فتوفر المادة العلمية للباحثين وتعينهم على الدراسات وتعقد المؤتمرات والندوات التي تُقوِّم جهود المستشرقين وإسهاماتهم في خدمة التيارات الأخرى، وعقد الموازنة بين خدمتهم للإسلام والتراث وجهودهم في خدمة التيارات. وكان الله في عون الجميع.

1 – الاستشراق في خدمة التنصير:
يقيم الإسلام حواجز ضخمة أمام المسيحية في كل مكان حل فيه دعاته وعلماؤه. وقد أظهر واقع الأحداث التي عاشها المنصرون خطاً ما ذهب إليه القدماء من أن الإسلام يعتبر بالنسبة للشعوب الإبتدائية خطوة أولى ممهدة لاعتناق المسيحية. فاعتناق الإسلام يقود الإنسان إلى الإيمان بوحدانية لها من القوة على النفوس يمكنها من تحصينها ضد الدخول في المسيحيه بعد أن صار المرء مسلماً[3].
والحديث عن نشأة الاستشراق ودوافع الاستشراق وأهدافه قد أبانت عن قيام علاقة قوية بين الاستشراق والتنصير. والتنصير كان دافعاً وهدفاً من جملة الدوافع والأهداف الدينية للإستشراق. وعشرون من تسعة وعشرين من طلائع المستشرقين كانوا منصرين أو رهباناً أو عاملين في الأديرة[4].بل إن أول المستشرقين في نظر ((العقيقي)) وهو (جرير دي أورالياك 938 – 1003) كان من الرهبانية البندكتية. ومع أن الاستشراق قد بدأ عليه التحرر من سيطرة المنصرين ونفوذهم إلا أن فكرة التنصير لا تزال عالقة في أذهان المستشرقين[5]، على إعتبار أنها كانت هي المنطلق الأول لهذا الإتجاه الفكري. وانشغال المستشرقين بالرهبنه قد لا يوحي للبعض إنشغالهم بالضرورة بالتنصير. وقد يصدق هذا على غير المستشرقين من المنشغلين بالرهبنة والأديرة والكنائس، ولكنه يبعد أن يصدق على مستشرق وجه جهوده العلمية إلى مواقع للتنصير فيها مطامع قديمة متجددة.
ويفرد ((نجيب العقيقى))[6]، فصلاً كاملاً عن المستشرقين الرهبان وهم موزعون على النحو التالي:
– الرهبان البندكتيون.               – الرهبان الكرمليون.         – الرهبان اليسوعيون.
– الرهبان الفرنسيسكان.            – الرهبان الدومنيكيون.
– الرهبان الكيوشيون.               – الرهبان البيض.
وقد أوصل عدد المستشرقين الرهبان إلى مائة واثنين وثلاثين (132) مستشرقاً راهباً، 75% منهم عاشوا في القرن العشرين.
أما الفصل الخامس عشر من الجزء نفسه فقد خصصه المؤلف للمستشرقين اللبنانيين، وركز فيه على المدرسة المارونية، وأوصل عدد مستشرقيها إلى ثمانية وثلاثين مستشرقاً مارونياً جعل نفسه آخرهم. وأكثر من 25% منهم عاشوا في القرن العشرين.
وإذا كنا قد وصلنا إلى أن الاستشراق في نشأته قد انطلق من الأندلس وعلى يد تلامذة المسلمين من النصارى فإن التنصير قد انطلق أصلاً مع الحروب الصليبية[7]، بشكل أوضح من وفد نجران الذي قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام[8]. فلا يبدو أن وفد نجران كان يسعى إلى تنصير محمد عليه السلام. ويمكن أن يعد خطوة أولى في تحدي الإسلام بالنصرانية.
ويأتي الاستشراق ((ليصقل)) التنصير ويكون له مركز المعلومات الذي يمده بما يحتاج إليه قبل أن يقدم على مجرد التخطيط ((وصاموئيل زويمر 1867 – 1952م)) وهو مستشرق منصر في آن واحد يصدر دورية كاملة يستعين بها المنصرون على أداء مهماتهم في العالم الإسلامي الذي بدت عليه الاستحالة في التحول إلى النصرانية، فيعلنها ((زويمر)) نفسه أنه ليس الغرض من حملات التنصير في العالم الإسلامي أن يتحول المسلمون إلى نصارى، فقد أثبتت التجارب استحالة هذا، ولكن مهمة التنصير في هذا القسم من العالم هو التحول عن الإسلام وكفى[9]. وقد صرح بهذا في مؤتمر القدس التنصيري المنعقد عام 1935م.
كما يأتي المستشرقون ليصبحوا جنود المسيحية الشمالية ((الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالحركة والغنى والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المختفية وراء أكداس من الكتب مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممض الذي في قلب أوروبة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لاهم لهم ليلاً ولا نهاراً إلا حيازة كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل، تتوهج افئدتهم ناراً أعتى من كل ما في قلوب رهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم، وعلى وجوههم سيمياء البراءة واللين والتواضع وسلامة الطويلة والبشر. وبفضل هؤلاء المتبتلين المنقطعين عن زخرف الحياة الجديدة، وبفضلهم وحدهم بفضل ملاحظاتهم التي جمعوها من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذلوها لملوك المسيحية الشمالية نشأت طبقة الساسة الذين يعدون ما استطاعوا من عدة لرد غائلة الإسلام ثم قهره في عقر داره، ولتحقيق الأحلام والأشواق التي كانت تخامر قلب كل أوروبي أن يظفر بكنوز الدنيا المدفونة في دار الإسلام وما وراء دار الإسلام. وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال ((الاستعمار)). وبفضلهم وحدهم أيضاً، وبفضل ملاحظاتهم التي زودوا بها رهبان الكنيسة ثارت حمية الرهبان ونشأت الطائفة التي تدرت نفسها للجهاد في سبيل المسيحية، وللدخول في قالب العالم الإسلامي لكي تحول من تستطيع تحويله عن دينه إلى الملة المسيحية، وأن ينتهي الأمر إلى قهر الإسلام في عقر داره – هكذا ظنوا يومئذ – وهذه الطائفة هي التي عرفت فيما بعد باسم رجال ((التبشير)). فهذه ثلاثة متعاونة متآزره متظاهرة، وجميعهم يد واحدة لأنهم أخوة أعيان، أبوهم واحد، وأمهم واحدة، ودينهم واحد، وأهدافهم واحدة ووسائلهم واحدة[10].
ويصعب جداً أن تقوم حركة التنصير في بيئة ما دون معرفة هذه البيئة معرفة شاملة. ثقافية ودينية وتاريخية وجغرافية واجتماعية. وتتأتى هذه المعرفة عن طريق الاستشراق حتى أن أحد الكاتبين أراد أن يقسم التنصير إلى نوعين، التنصير الصريح والتنصير المختفي. والتنصير الصريح يكون علمياً نقاشياً أو سفسطائياً تشكيكياً. ويكون أيضاً بالعنف. فالتنصير العلمي هو ما جاء عن طريق المستشرقين. أما التنصير بالعنف فهو ما جاء عن طريق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش واختطاف الأطفال ثم الاستعمار.
والتنصير الخفي أو المختفي هو ما يأتي عن طريق الإرساليات الطبية والتعليمية المهنية والفنية والجمعيات الخيرية الإجتماعية وغيرها[11]. ويلاحظ أن جزءاً من العالم الإسلامي لا يزال يسمى الممرضة إلى اليوم ((سستر)) وهي الأخت في عالم الرهبنة، بينما أوروبا وأمريكا لا تسميها إلا بالممرضة. وهناك بعثات تنصيرية توغلت في مجتمعات المسلمين واكتسبت شهرة عالمية وتعاطفاً لم يسلم منه بعض من أبناء المسلمين. مثل بعثة ((الأم تيريزا)) في الهند التي لم تعلن يوماً أنها جاءت إلى شبه القارة رغبة في بسط تعاليم المسيح، ولكنها تظهر دائماً رغبتها في إحتضان المشكلات الصحية والطبية وعلاجها والقضاء على الأوبئة والأمراض المعدية، يعمل معها فريق من الممرضات الهنديات ذوات التأثير الفعال في مجتمعهن. ولا تبرز في عمل ((الأم تيريزا)) العلاقة الواضحة بينها والاستشراق ولا يمكن للمتعاطفين معها أن يربطوا بينها وبين المستشرقين. وإن لم تكن هناك علاقة قوية فلا شك أن منطلقها كان عن طريق هؤلاء المستشرقين الذين أعانوها على التعرف على البيئة التي تعمل بها. وأمثال ((الأم تيريزا)) كثير في آسيا وأفريقيا، تحاول بقدر الإمكان الإبتعاد عن الأضواء خشية الإلتفات إلى الأغراض الحقيقة لهذه الأعمال ((الإنسانية)). كما تحاول الابتعاد عن إبراز وجود علاقة بين العلم – الآتي عن طريق المستشرقين – والدين الذي تتبناه بناء على ما شاع من العداوة بين العلم والدين في العقيدة المسيحية المتأخرة. فإذا برزت هذه العلاقة ظهر التناقض وخفت حدة التأثير على المستهدفين. ومن المعلوم أن تهيئة المنصرين إنما قامت على أيدي المستشرقين سواء كان هؤلاء المستشرقون من الرهابنة القساوسة أو كانوا بعيدين عن الألقاب الدينية. يقول ((محمد عبدالفتاح عليان)): “لم يكن عمل المستشرقين منفصلاً عن عمل المبشرين، فالاستشراق في نشأته ما هو إلا أداة من أدوات التبشير – ثم استغل في مرحلة لاحقة – لتحقيق مطامع الدول الاستعمارية. وقد نزل كثير من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية إلى ميدان الاستشراق بقصد التبشير وتدريب المبشرين على العمل في بلاد الشرق”[12].
فتعلموا العربية ودرسوا الإسلام واهتموا بالترجمة وأقاموا المطابع العربية.
وقد سبقت الإشارة إلى أن الاستشراق قد ولد من أبوين غير شرعيين هما الاستعمار والتنصير. فالاستشراق لا يزال يعمل من أجل هذا الغرض الذي وجد من أجله، وإنما تتغير الأساليب والطرق والوسائل ملائمة للزمان. ويجد المرء أهداف المنصرين واردة في أعمال المستشرقين التي وجدت رواجاً بين المنصرين في معاهدهم وإرسالياتهم ومؤتمراتهم بل جامعاتهم المقامة في العالم الإسلامي على شكل مناهج ودراسات في مجال الإنسانيات[13].
ولابد من الإلتفات إلى المجتمع الغربي نفسه، فالتنصير لم يكن موجهاً إلى آسيا أو أفريقيا فحسب، ولكن أوروبا وأمريكا أيضاً حظيتا بنصيب وافر من حملات التنصير التي أرادت تأكيد قوة الكنيسة خاصة بعد أن بدأت المعلومات عن الإسلام ((تتسرب)) إلى المجتمعات الأوربية، وخاصة منها المفاهيم الصحيحة عن الإسلام فاستعان التنصير هنا بالاستشراق في الافتراء والتشنيع على الإسلام وتشويه أحكامه الإلهية العادلة))[14]، قصداً إلى الحد من انتشار الإسلام في أوروبا نفسها في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى تنصير معاقل الإسلام. ومعلوم أن الطريق إلى تحقيق غايات التنصير يبدأ قطعاً بتجريد الأمة من انتماءاتها العقدية أولاً، يقول ((وليم جيفرد بالغراف)): “متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه”[15].
وربط علاقة بين الاستشراق والتنصير على وجه العموم تصطدم بوجود مجموعة من المستشرقين ((العلمانيين)) واليهود الذين لا يتصور منهم أن يكونوا مدفوعين بخدمة التنصير أو أن تكون من أهدافهم خدمة الكنيسة، فهذه الفئة من المستشرقين تتناقض في منطلقاتها مع الكنيسة. وعليه فلابد هنا من الاحتراز من خلال الابتعاد عن التعميم الذي قد يفهم عند الحديث عن الروابط بين الاستشراق والتنصير.
ولا بأس في هذا، إلا أنه لابد من التنويه إلى أمرين أساسيين في محاولة إيجاد علاقة بين الاستشراق والتنصير على وجه العموم:
أولاً – أن العلمانيين من المستشرقين لم يستطيعوا بحال أن يتخلوا عن ميولهم الكنسية خاصة فيما يتعلق بإنتاجهم العلمي حول العالم الإسلامي، وإن كانوا يعلنون رسمياً وفي أكثر من مجال أنهم علمانيون يرفضون التقيد بدين معين. فهذا ينطبق على ممارساتهم في حياتهم الخاصة، ويصعب عليهم عملياً تطبيق علمانيتهم على إنتاجهم الفكري.
ثانياً – أن التنصير استفاد من المستشرقين اليهود فائدة جليلة وإن تكن فائدة غير مباشرة وترجع هذه الفائدة إلى الإرتباط الوثيق بين الصهيونية واليهودية – كما سيأتي بحثه – والإرتباط الوثيق بين الصهيونية وكثير من رجال الدين المسيحي. وعليه نشأت العلاقة الوثيقة بين المسيحية واليهودية، وإن لم تبد هذه العلاقة بارزة معلناً عنها. ويكفي أن نعلم أن زعيم المنصرين وهو مستشرق أيضاً – ((صموئيل زويمر)) كان في الأصل يهودياً، وأنه قد استدعى أحد الحاخامات عند احتضاره. لعله أراد أن يلقنه صلوات اليهودية عند الموت[16].
ولم يكن ((زويمر)) بدعا في قومه فقد ادعى النصرانية جمع منهم وانخرطوا في الرتب الكهنوتية مكنتهم من فرض آرائهم على الكنيسة وتوجيهها الوجهة التي يريدون. واستطاعوا بمساعدة الجمعيات السرية كالماسونية وغيرها أن يهدموا قوة الكنيسة في أوربا وأمريكا، وأن يوجهوها ويوجهوا الحكومات إلى المبادئ الصهيونية، ثم اتجهوا إلى الإسلام طمعاً في هدم القوة الروحية فيه وتوجيه أهله إلى المادة. وبذلك يضمنون عدم معارضة خططهم الهادفة إلى السيطرة على بلاد المسلمين[17]، سيطرة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا واضح جلي في مواقف القسس الأوروبيين والأمريكيين من اليهودية ومن الإسلام، وخاصة منهم أولئك الذين يحتلون أماكن مرموقة في الإعلام الأمريكي عن طريق الإذاعة والتلفزيون.
وإن لم يكن المنصرون يهوداً وكان المستشرقون يهوداً فإن المنصرين قد أفادوا كثيراً من نتاج المستشرقين اليهود في مدارسهم وأديرتهم وكنائسهم ومعاهدهم وجامعاتهم. كما استفادوا أيضاً من نتاج المستشرقين العلمانيين الذين استطاعوا أن يبرزوا إنفصالهم عن الكنيسة. ولكنهم لم يستطيعوا طرق أبواب الإنصاف والنزاهة، فكانوا أدوات في أيدي حكوماتهم المستعمرة أفادت منهم وأفاد منهم التنصير. فالاستشراق في شطريه ((عاملاً مع الكنيسة أو عاملاً مع وزارات الاستعمار لا يستطيع أن يخلص إلى الحق وإنما هو يؤدي دوره في إثارة الشبهات وتقديم الزاد الكافي لدراسات التبشير ومعاهد الإرساليات لخلق ظاهرة من إنتقاص العرب والمسلمين وفكرهم وعقائدهم))[18].
ولأن الاستشراق يعمل كـ((قاعدة معلومات)) للتنصير كان لابد أن تكون هناك فروق في المنطلقات بين الاستشراق والتنصير وإن اتفقت الغايات العليا لهاتين الوجهتين: فالمنصر ((داعية)) للدين النصراني المسيحي، أو هو داعية لخروج المسلم عن دينه فحسب، أما المستشرق فهو باحث في تراث المسلمين وقيمهم ومفاهيمهم وأخلاقياتهم يبث نتائجه في دراساته وبحوثه وكتبه ومحاضراته كل هذا عن طريق المنهج العلمي.
والمنصر منطلق رحالة يجوب البلاد قراها ومدنها وريفها يعظ ويعالج أو يعلم أو يدرب أو يفلح الأرض. أما المستشرق فقابع في مكتبته لا يكاد يبرح بلاده إلا إذا دعته ضرورة البحث إلى ((رحلة علمية)) يجوب فيها البلاد التي يدرسها أو يقف منها على مكان بعينه.
والمنصر – نسبياً – صريح في دعوته واضح فيها وإن حاول إخفاءها تحت ستار خدمة الإنسانية. ولكنه لا يتردد في أن يعلق الصليب على صدره أو في مكتبه أو عيادته أو معلمه أو مدرسته. وربما أفرد فيها مكاناً أو زاوية للنشريات التي يعمل لها وبها، أما المستشرق فباطني يتظاهر بالعملية والمنهجية والتجرد والموضوعية وإن كان من القساوسة أو الرهبان، ويحاول الوصول إلى أغراضه الباطنه ممتطياً صهوة العلم والتجرد، وكأنى به ممتطياً صهوة حصان من خشب مشعراً الآخرين أن هذا الحصان ذو صهيل تطرب له الآذان ((وتشنف)) له الأسماع، وقد وفق بعضهم – دون شك – في إشعار بعض ((الآخرين)) بهذا، فانقاد له البعض منهم وتنبه له الآخرون فأخذوا منه وردوا وكان ما ردوه عليه أكثر مما أخذوه منه.
والمنصر ينطلق من مؤسسات ومعاهد ومدارس وجامعات ومستشفيات في البلاد التي يعمل بها أو في مركز في قارة يعمل بها. كما يتخذ من بعض عواصم العالم العربي مركزاً له في الإنطلاقة إلى أدغال أفريقيا وبعض عواصم الشرق الأقصى في الإنطلاقه إلى جبال وسهول آسيا. ولا يكاد يحل في بلد له فيها شأن إلا ويقيم فيها له مركزاً دائماً على شكل كنيسة أو مدرسة أو عيادة أو نحوها، بينما تكون علاقة المستشرق بالبلاد التي يعمل أعماله فيها مقصورة على زيارة خاطفة يلقي خلالها محاضرة أو يحضر إجتماعاً لمجمع هو عضو فيه أو يلبي دعوة من رئيس جامعة أو مؤسسة علمية قاصداً إلى الاستشارة وإبداء الرأي ولا تربطه بهذه روابط قوية. وقد تنتهي حياته وهو لم يقم بزيارة سريعة لبلاد كثر حولها إنتاجه حتى بات يعرف طرقها ومسالكها وقديمها وحديثها.
ويقول ((نذير حمدان)) بعد محاولة إيجاد الفروق في الوسائل بين المستشرقين والمنصرين: “ويبدو لي من خلال تتبع تراجم كثيرة للمستشرقين والمنصرين أن الدافع الكنسي (المخطط) نظم فئة قادرة على البحث والفكر فكان (المستشرقون) وجماعة قادرة على الأسلوب الدعوي الإعلامي فكان (المنصرون)، ثم التحمت الفئتان والجماعتان وكونت (الاستشراق التنصيري)”[19].
ويبدو الاستشراق التنصيري واضحاً عندما تبرز فكرة أن الكثيرين ممن احترفوا الاستشراق وبرزوا فيه ((بدأوا حياتهم العلمية بدراسة اللاهوت قبل التفرغ لميدان الدراسات الاستشراقيه، وكأنهم أرادوا أن يتسلحوا بمعرفة كافية بالعقيدة المسيحية قبل الخوض في غمار الحرب المبطنة التي أرادوا شنها على الإسلام. وظل الكثير منهم يتولى وظائف دينية وتبشيرية، وله مكانة كنسبة مرموقة، ورغم محاولات بعضهم نفي هذه التهم والإعلان عن حيادهم وأنهم إنما يقصدون من دراساتهم وجه العلم والحقيقة فقد لازم التعصب الديني أكثرهم وبدا بين سطور ما يكتبون وإن لم يعلنوا عنه صراحة وجهاراً))[20] وقد ينصب الذهن على الإتجاه أن هؤلاء الذين بدأوا حياتهم العملية بدراسة اللاهوت هم جملة من طلائع المستشرقين الذين يتحدث عنهم ((نجيب العقيقي))[21]. ولابد من التأكيد هنا إلى أن هذه الظاهرة امتدت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/ التاسع عشر والعشرين الميلاديين. ولعل من أبرز هؤلاء المستشرقين المنصرين ((الأب هنري لامانس 2862 – 1937م)) و((دنكن بلاك ماكدونالد 1863 – 1943م)) و((الأب آسين بلاثيوس 1871 – 1944م)) و((شارل دوفوكول (؟) )) و((وليام مونتغمري وات)) معاصر و((سنوك هو رغرونيه 1857 – 1936م)) والملاحظ أن هؤلاء المستشرقين المنصرين موزعين من بلاد أوربا وأمريكا في الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا[22]. ويقدم المستشرق الفرنسي ((مكسيم رودنسون مولود عام 1915م))، تبريراً لانشغال المنصرين بالإستشراق/ أو إنشغال المستشرقين بالتنصير بقوله: “لقد أدت الوضعية الحقيرة التي وجد العالم الإسلامي نفسه فيها إلى تشجيع المبشرين المسيحيين حيث وجدوا مجالاً واسعاً للعمل وبذلوا مجهودات في إتخاذ موقف الهجوم والتبشير وتضايقوا من العراقيل التي وضعها أمامهم كل من الفقة الإسلامي والإداريين الاستعماريين أنفسهم، حيث خشي هؤلاء من ردود فعل مختلفة لأعمال مكشوفة أكثر من اللازم. وفي نطاق الإتجاهات الإنسانية العادية وبمؤازرة مع الأفكار العامة للعلوم في وقتهم كانوا يربطون نجاح الدول الأوربية بدينهم المسيحي، كما كانوا يربطون تقهقر العالم الإسلامي بالإسلام، وهكذا اعتبروا المسيحية مؤيدة بطبيعتها للتطور وبالتالي اعتبروا الإسلام مؤيداً للركود والتأخر الثقافي، فاتخذ الهجوم على الإسلام أعنف الصفات وشرع المجددون في تزيين الحجج والبراهين الشائعة خلال القرون الوسطى واتخذوا مظاهر تجديدية”[23].
ولم يستطع كثير من المستشرقين – على العموم – التجرد من هذه النظرة الفوقية للإسلام ومن الشعور بتفوق المسيحية على الإسلام. وكان لهذا أثره على نظرتهم للإسلام من خلال مرآة مسيحية حيث طبقوا عليه المبادئ المسيحية وأفكارهم المسبقة ((فالمسيح)) – عليه السلام – في نظر المسيحيين هو أساس العقيدة ولذا تنسب الديانة إليه، والنصرانية شبه مهملة لفظاً ومعنى، وحاول المستشرقون تطبيق ذلك على الإسلام ((فمحمد)) ينبغي أن يكون عند المسلمين كما ((المسيح)) عند المسيحيين، ولهذا يطلقون على الإسلام المحمدية أو المذهب المحمدي وعلى الشخص المسلم ((محمدي))، فيغفل الإسلام لفظاً ومعنى. ويبقى المذهب بشرياً صاغه ذلكم المصلح العبقري ((محمد)) في مكة والمدينة. ويخرج المسيحيون إلى بشرية الإسلام وإلهية المسيحية على اعتبار أن المسيح لديهم هو ابن الله[24] – أو ربما عند البعض هو الإله، الذي لم يتزوج ولم يحارب ولم يقُد أمه، بخلاف ((محمد)) المزواج المحارب السياسي القائد رجل الدولة المستفيد من الحضارات والثقافات التي سبقته أو عاصرها، يجمع منها جميعاً مجموعة من الطقوس والأحكام والسلوكيات وحاول أن يظهر منها بدين جديد يسميه الإسلام: فيأخذ من الجاهلية صلاة الجمعة، وصوم عاشورا، وتطييب البيت الحرام وحظ الذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، والتكبير، والأشهر الحرم، والحج والعمرة، ونتف الإبط، وحلق العانة، والوضوء والاغتسال، والختان وتقليم الأظافر.
ويأخذ من الصائبة الصلوات الخمس، والصلاة على الميت، وصيام شهر رمضان، والقبلة، وتعظيم مكة، وتحريم الميتة ولحم الخنزير، وتحريم الزواج من المحارم.
ويأخذ من الهندية والفارسية قصة المعراج، والجنة وما فيها من الولدان والحور العين، والصراط المستقيم.
ويأخذ من اليهودية قصة ((قابيل وهابيل)) وقصة ((إبراهيم – عليه السلام)) – وقصة ملكة سبأ، وقصة ((يوسف الصديق – عليه السلام)) –.
ويأخذ من النصرانية قصة ((أهل الكهف)) وقصة ((مريم العذراء))، وقصة طفولة ((عيسى)) – عليه السلام[25] –. وليس المقام هنا دحض هذه الشبهات والتصدي لها، فقد قام بهذا علماء مسلمون أجلاء، ولكنها هنا محاولة لإثبات قوة الرابطة بين التنصير والاستشراق وأن الاستشراق عمل على توصية ((زويمر)) في إخراج المسلمين من دينهم دون النظر إلى إدخالهم في النصرانية من خلال تشويه الإسلام وإضعاف قيمته وتصويره للرأي العام الأوروبي والأمريكي بصورة مزرية بعيدة عن المستوى الحضاري في عصرنا الحاضر[26]، ومن خلال معاونة المستشرقين على تثبيت وتأكيد هذه الإتهامات وتوسعهم فيها وتخصص كل فريق منهم في بعضها يروجونها في مؤلفاتهم ودراساتهم مع إدراكهم ((أنها لا تعدوا أن تكون دسائس مغرضة وإشاعات ملفقة لمحاربة الإسلام وتشويه مفاهيمه، فالاستشراق والتبشير عدو واحد له هدف واحد يسعى ليدركه وهو تشويه الإسلام ليصل من وراء ذلك إلى تمزيق المسلمين وإشاعة البلبلة في أفكارهم وبين صفوفهم لئلا يلتقوا فيراجعوا من عزتهم ما كان[27] ولعل هذا يكون مبرراً واحداً من مجموعة من المبررات التي تفسر بداية الاستشراق وإنطلاقه من الكنيسة بإنشاء أول مركز لتعليم اللغة العربية في الفاتيكان لتخريج أهل جدل يقارعون فقهاء المسلمين وعلماءهم ومفكريهم. وبرحيل الرهبان إلى المشرق والمغرب الإسلامي لتعلم اللغة العربية وعلوم الإسلام للغاية نفسها[28].
على أن بعض الباحثين في الاستشراق والمستشرقين يحاول من خلال الاستقراء أن يصنفهم حسب قوة إندفاعهم لتحقيق أغراض التنصير فالكاثوليك مثلاً أعتى من غيرهم والفرنسيون أشد تعصباً ضد الإسلام ورسوله. فمن النادر أن نقرأ لمستشرق فرنسي شيئاً طيباً عن حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما يشير إلى ذلك ((حسين مؤنس))[29] وهناك من يرى أن المستشرقين الألمان هم أكثر المستشرقين نزاهة لأن دوافع التنصير والإستعمار لم تكن بارزة فيهم، إذ لم تستعمر ألمانيا بلداً مسلماً، ولم تهتم بنشر الدين المسيحي في الشرق[30] ومع هذا لم يخل الاستشراق الألماني من آراء خاطئة تماماً أو ((لا توافق العرب والمسلمين)) أو نقص أو غلط ولكنها – في رأي ((صلاح الدين المنجد)) غير قابلة للتعميم[31]. ولم نتعود التعميم في إصدار الأحكام العلمية الموضوعية المجردة. ويسعى المنصفون من المحللين لحركتي الاستشراق والتنصير إلى عزل فئة من المستشرقين عن هذه العلاقة الحميمة في الوقت الذي يقررون فيه وقوع المستشرقين في أخطاء مقصودة أو غير مقصودة أفاد منها التنصير. يقول ((محمد حسين علي الصغير)): “إننا لا نستطيع أن ننفي هذه التهم جملة وتفصيلاً – (التهم التنصيرية) – فلهذه أصل من الصحة، ولا يمكننا أن نزيف جميع الجهود الاستشراقية ونصمها بالتبشير، ففي هذا بعض الغلو والتطرف، ولكننا نستطيع أن ننزه قسماً ونتهم قسماً آخر، فالمستشرقون بشر، والبشر فيه الموضوعي وفيه السطحي، والمستشرقون مجتهدون، وقد يخطئ المجتهد وقد يصيب”[32].
أما صفتهم بالبشرية فواردة. وأما وصفهم بالإجتهاد فأمر يحتاج إلى نظر، وليس من الإنصاف للمستشرقين أن نرقى بهم إلى هذه الدرجات، ومع هذا فعلينا ألا نغفل العلاقة القوية بين الاستشراق والتنصير والصلة الوثيقة بينهما وأن تاريخ التنصير مرتبط إرتباطاً وثيقاً بتاريخ الاستشراق، وهما لا ينفصلان عن تاريخ الاستعمار السياسي والفكري والأخلاقي[33]. وأن الآراء الاستشراقية كانت ولا تزال ((تنشر في المؤسسات التي أنشأها التبشير كالمستشفى، والمدرسة والجامعة، والمخيم، والنوادي الاجتماعية، وكذلك كانت الآراء الاستشراقية تنشر في أكبر وسيلة عبر الكلمة المكتوبة من كتب ودوريات ومجلات، ومحاضرات وندوات، ومؤتمرات))[34].
ولا بأس من أن نختم هذه الجولة في تثبيت العلاقة بين الاستشراق والتنصير بعبارة أوردها ((قاسم السامراني)) ((لصموئيل زويمر)) مع الإحجام عن التعليق يقول ((زويمر)): “إن من جملة المطالب في الجزيرة العربية بل وأولها: الحق التاريخي، لأننا نعرف أن أصقاعاً واسعة في الشرق الأدنى كانت نصرانية، والآن إسلامية، وأن المطالبة بشمال أفريقيا وسوريا وإيران وفلسطين والجزيرة العربية وآسيا الوسطى حق للنصرانية في استعادتها… يجب أن نعيد كسب الجزيرة العربية لدين المسيح من أجل كرامة الكنيسة، من أجل كرامة اسم المسيح ومن أجل شهداء نجران الذين ذكرهم القرآن.. إن الجزيرة العربية هي مهد الإسلام.. وإن المحمديين في حاجة إلى بشارة الإنجيل بنفس الحاجة التي يحتاجها الآخرون (من غير النصارى). إن الإسلام ليس هرطقة نصرانية، بل إنه كذلك ليس ديناً غير نصراني – إن الإسلام عدو للنصرانية في أصولها وأخلاقها وتاريخها وحياتها”[35].

2 – الاستشراق في خدمة اليهودية:
إذا كان المستشرقون بمجملهم قد عملوا على تحقيق أهداف عدة على رأسها الأهداف الدينية ثم الاستعمارية والسياسية والتجارية والعلمية مدفوعين بدوافع مشابهة، فإن هذه الأهداف – عدا العملية – إلى اليهود ألصق منها بغيرهم من المستشرقين، رغم ما تركته الحروب الصليبية من إصرار للمسيحيين على العودة إلى الديار المقدسة بأي شكل من أشكال العودة. واليهود أكثر إصراراً على العودة بعد أن أجلاهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من الجزيرة العربية عندما أدرك ((أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن ترسخ في شبه جزيرة العرب ما دام اليهود يثيرون أهلها على الدولة ويفقرونها بالربا الفاحش))[36] ولسنا هنا بصدد التوسع في سرد تاريخ اليهود وعلاقتهم بالمسلمين منذ البعثة المحمدية – على صاحبها الصلاة والسلام – ولكن يكفي أن نقرر هنا أن دخول اليهود مضمار الاستشراق إنما تدفعه بواعث عرقية قديمة لم تكن وليدة القرون المتأخرة، وأن اليهود يتطلعون إلى العودة إلى ((خيبر)) و((المدينة المنورة)) عن طريق ((القدس)) و((الجليل)). فعندما سقطت ((القدس)) في أيدي اليهود سنة 1387هـ/ 1967م دخلها وزير الدفاع – آنذاك – ((موشي دايان)) مع الحاخام الأكبر ((شلوموغورين))، وبعد أن أدى صلاة الشكر عند حائط البراق الشريف قال: ((اليوم فتحت الطريق إلى بابل ويثرب)) وتقول رئيسة الوزراء السابقة ((غولدا ماثير)) وفي في ((إيلات)): ((إني أشم رائحة أجدادي في خيبر)). ويقول ((هرتزوغ)) لامرأة مسلمة ضيق عليها اليهود الخناق حتى دهموا دارها بالجرافات، فآثرت الرحيل إلى المملكة العربية السعودية حيث أبناؤها: ((إذا رأيتِ الملك فيصل (رحمه الله) فقولي له إننا قادمون إليه، فإن لنا أملاكاً عنده، إن جدنا إبراهيم هو الذي بنى الكعبة إنها ملكنا وسنسترجعها بالتأكيد))[37] وهذه أقوال ((قادة)) يهود يملكون – نوعاً ما – القرار السياسي والعسكري.
ومن هذا المنطلق يسعى اليهود إلى الوصول إلى هذه الأهداف مستخدمين وسائل شتى، من ضمنها الاستشراق بالمفهوم الذي يناقش فيه هنا، ولذا لم تغفل الجامعات اليهودية الدراسات الإسلامية والعربية أقساماً مستقلة فيها، بل هي الآن وبحكم قربها من العالم العربي والإسلامي أكثر تأثيراً من مراكز ومعاهد الدراسات العربية والإسلامية في البلاد الأخرى. وتتاح لها من الظروف والإمكانات ما لا يتاح لتلكم المراكز والمعاهد.
وقد حاول المستشرقون اليهود في البدايات الأولى للاستشراق التكتم على انتمائهم اليهودي ونظروا إلى أنفسهم، وأرادوا الآخرين أن ينظروا لهم على أنهم مستشرقون فحسب، وقَلَّ منهم من صرح بيهوديته.
ويأتي اتجاه اليهود نحو الاستشراق في البدايات فقط إلى الشعور السامي لديهم وأنهم والعرب – منشأ الإسلام – يعودون إلى أصول واحدة، فدرسوا العبرانية في البداية وجرتهم دراسة اليهودية إلى دراسة الإسلام عندما أرادوا أن يبرزوا الأثر اليهودي على الإسلام كما أراد المستشرقون المسيحيون إبراز الأثر المسيحي على الإسلام.
وما الاستشراق اليهودي إلا إمتداد لموقف اليهود عموماً من العرب والمسلمين، ذلك الموقف الذي لم يكن وليد القرون المتأخرة، بل صاحب الإسلام منذ أيامه الأولى في المدينة المنورة. ولذا نجد أن جانب الإنصاف والنزاهة بين المستشرقين اليهود يقل كثيراً عنه بين المستشرقين والمسيحيين أو الملحدين من غير اليهود. وهذه ردة فعل طبعية أملتها الجذور التاريخية للعلاقة بين العرب واليهود. ولذا نجد أن هناك من يصنف المستشرقين على فئتين:
ففئة تستحق التقدير والاحترام لما لها من المآثر في نشر العلم والثقافة وتسهيل الوصول إلى مؤلفات وأعمال ودراسات بادروا إلى تحقيقها ودرسها وفهرستها ونشرها. وهذه الفئة هي التي كانت ذات أهداف علمية نزيهة.
وفئة أخرى – ومعظمهم من اليهود، أو ممن يتعاطف معهم – درسوا الإسلام وعلومه قصداً إلى محاربته وإنكار أصالته وأهميته وأثره في تفكير المؤلفين الأوربيين وفي المنجزات الفكرية الحضارية[38] وهذا تقسيم سريع لفئات المستشرقين أريد منه التأكيد على التأثير اليهودي على الفئة الأخرى للاستشراق. والحق أن المستشرقين طوائف عدة إذا نظر إليهم بعيداً عن جنسياتهم وخلفياتهم الثقافية. فمنهم فئة لم تملك ناصية اللغة فأخطأت في نشر الكتب وفي فهم النصوص. ومنهم فئة آثرت في دراساتها مآرب السياسة والتعصب للدين فوجهت الحقائق وفسرتها بما يوافق أغراضها أو ما تسعى إليه. ومنهم فئة أوتيت الكثير من سعة العلم والتمكن من العربية والإخلاص للبحث والتحرر والإنصاف[39].
ومثل هذا أن يقال عنهم إنهم فئات متعددة حسب الميول والأهواء. فالفئة ذات المآرب السياسية هي الفئة التي يمكن أن يقال عنها إنها الفئة المتعصبة للغرب وطنياً وجنسياً، وهناك فئة المستشرقين الماديين الملحدين الذين يدعون إلى هدم المجتمعات القائمة ويؤكدون على أن الأديان تقف في عقبة في طريق الإصلاح الإجتماعي، وهناك فئة المؤمنين المحترفين سماسرة التنصير يتخذون من تشويه الإسلام صناعة لهم يستدرون بها الرزق، وهناك طائفة المغرمين بالأساطير والخرافات والخيال ينقلون عن المجتمع العربي المسلم صوراً علقت في أذهانهم عندما قرأوا ((ألف ليلة وليلة)). وهناك فئة الصهاينة وهي أخطر الفئات على الإطلاق لما يتوافر لها من الإمكانات المادية والوسائل الدعائية والإعلامية ودور النشر وغيرها[40]. وهناك فئة المستعمرين التي تبحث الآن عن مجالات أخرى تخدم فيها الاستعمار بعد أن شهدت أفوله على أرض العرب والمسلمين.
والمستشرقون من حيث اهتماماتهم فئات أيضاً. فهناك فئة عنيت بالقرآن الكريم وعلومه، وهناك فئة اهتمت بسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم –. وهناك فئة عنيت بالسنة والحديث. وهناك فئة ركزت على الفرق الإسلامية. وهناك فئة عنيت بالتعاليم الإسلامية، وهناك فئة اهتمت بالفتوح الإسلامية، وهناك فئة ركزت على الولاة والأمراء وحكام الأمصار والخلفاء في الدولة الإسلامية، وهناك فئة درست الحضارة الإسلامية ومالها من تأثير وما عليها من تأثر[41] وهناك فئة تخصصت في الآداب العربية، وهناك فئة اهتمت بالفن الإسلامي. وفئة أخرى إتجهت إلى العلوم عند المسلمين. وهكذا تتعدد الفئات حسب الإهتمامات. ويدخل اليهود المستشرقون في هذه الفئات جميعها محاولين عدم التميز عن غيرهم من المستشرقين، بل ربما تعمدوا إخفاء الخلفية العرقية التي يعودون إليها واكتفوا بأنهم مستشرقون إنجليز أو فرنسيون أو ألمان أو هولنديون أو أمريكيون.. إلخ ((وهكذا لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهوداً حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالي يقل تأثيرهم… وبذلك كسبوا مرتين: كسبوا أولاً فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها، وكسبوا ثانياً تحقيق أهدافهم في النيل من الإسلام، وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية المستشرقين النصارى[42].
ولذا نجد الصعوبة في تحديد كنههم من حيث الخلفية العرقية. ويرصد ((العقيقي)) تسعة وعشرين مستشرقاً عاشوا بين القرنين العاشر والسادس عشر الميلاديين ويعتبرهم ((طلائع المستشرقين)) فلا نجد منهم يهوداً إلا إثنين تنصراهما ((يوحنا بن داود الإسباني)) ((ويوحنا الإشبيلي)) اللذان عاشا في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي[43]. وتنصرهما يؤيد الرأي القائل بأن المستشرقين اليهود تعمدوا إخفاء كنههم.
  1 – ولعل أبرز المستشرقين اليهود ((إيناس غولدتسيهر 1850 – 1921م)) وهو مستشرق مجري (هنجاري) اتجه إلى دراسة العبرانية وتخرج باللغات السامية. ثم اهتم بالعربية والإسلام ونشر أبحاثه بالألمانية والفرنسية والإنجليزية. ويعد من الذين أسهموا في تغيير الدراسات العربية الإسلامية تغييراً جذرياً، إذ وضع خطة عامة اتبعها مستشرقون بارزون بعده واعترفوا له بأنه اعطى الدراسات العربية والإسلامية في الغرب قالباً جديداً[44].
  2 – ومن أبرز المستشرقين اليهود ((غوستاف فون غرونباوم 1909 – 1972م)) وهو نمساوي الأصل. تخرج من جامعتي فينا وبرلين وانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية يتنقل بين جامعاتها ويغلب على إنتاجه اهتمامه بالأدب العربي.
  3 – ومستشرق آخر فرنسي معاصر هو ((كلود كاهين المولود سنة 1909م)) تخرج باللغات الشرقية من السربون ومدرسة اللغات الشرقية ومدرسة المعلمين العليا وحاضر في مدرسة للغات الشرقية وعين أستاذاً لتاريخ الإسلام في كلية الآداب بجامعة ((ستراسبورج)) ((ثم في جامعة ((باريس)). ويغلب على أعماله التركيز على التاريخ. وغير هؤلاء من مشاهير المستشرقين اليهود، وقد أورد ((محمد بن عبود)) مجموعة الأسماء اللامعة في عالم الاستشراق اليهودي لعله من المناسب إثباتها هنا[45]. مع الاستعانة ((بالعقيقي)) في ((المستشرقون)) للتعرف عليهم ومنهم من لم يذكره ((محمد بن عبود)) ومنه من لم يترجم له ((العقيقي)).
  4 – ((سليمان مونك 1805 – 1867م)) وهو ألماني الأصل فرنسي النشأة والوفاة يتكلم الألمانية والفرنسية والعربية والفارسية والسنسكريتية، وأكثر آثاره دراسات ضمنها شُهريات المجلات الفرنسية.
  5 – ((كارل بول كازباري 1814 – 1892م)) مستشرق ألماني تحول إلى النصرانية معتنقاً الكاثوليكية اشتهر بتفسير التوراة. له (القواعد العربية) باللاتينية، وتعليم المتعلم للزرنوجي، أشرف على طبعه وقدم له ((فلايشر)) وطبع في ((لايبزبغ 1838م وقازان 1901م).
  6 – ((جيمس دار مشتيتر 1849 – 1894م)) مستشرق فرنسي من أساتذة معهد فرنسا – تتبع المهدي منذ نشأة الإسلام إلى 1885م وركز على آثار فارسية وزراد شتية.
  7 – ((جوزف ديرنبورغ 1811 – 1895م)) من مستشرقي فرنسا. عني عناية تامة بالتلمود، وأصبح من كبار علماء العبرية والعربية وتوفي بباريس. غلبت على تصانيفه اللغة والأدب.
  8 – ((مورتر شتايناشايدر 1816 – 1907م)) مستشرق ألماني تعلم العربية في النمسا وعمل في المكتبة البودلية وفي مكتبة برلين الوطنية. يغلب على إنتاجه الضبط الببليوغرافي للمخطوطات العربية والترجمات. وبرز اهتمامه باليهودية من خلال آثاره.
  9 – ((هارتفغ ديرنبورغ 1844 – 1908م ((هرتوغ ديرنبورغ)) وعن ((العقيقي)) أنه ابن ((جوزف ديرنبورغ)) وعن ((محمد بن عبود)) أنه أخوه، وهو من مستشرقي فرنسا ولادته ووفاته بباريس. ودرَّس العربية بألمانيا وعين أستاذ اللغة العربية بمدرسة اللغات الشرقية بباريس ثم في مدرسة الدراسات العليا ثم بقسم المخطوطات بمكتبة باريس الوطنية. وكانت له صولات وجولات مع المخطوطات في الأسكوريال ومدريد وغرناطة. له آثار عدة في اللغة والأدب.
  10 – ((إدوارد غلازر 1855 – 1908م)) من المستشرقين النمساويين. وكانت وفاته بميونخ، عين مساعد أستاذ للغة العربية بجامعة فينا، طاف بلاد العرب في آسيا وأفريقيا خرج منها بألف واثنين وثلاثين من الكتابات القديمة المنقوشة على الأحجار، ومائتين وخمسين من مخطوطات الزيديين في اليمن، ونشر كتابات حميرية.
  11 – ((سيجموند كرانكيل 1855 – 1909م)).
  12 – ((ديفيد إبراها موفيش شورسون 1818 – 1911م)) مستشرق روسي تحول إلى النصرانية معتنقاً اللوثرية. كان متخصصاً باللغة العبرية. ويتقن اللغة العربية ويعتبر من مؤسسي المدرسة الروسية للدراسات الإسلامية.
  13 – ((يوليوس ليبرت 1866 – 1911م)) مستشرق ألماني ركز على الطب عند المسلمين وخاصة طب العيون وله فيه آثار منها أطباء العيون عند العرب في مجلدين عاونه فيه ((هيرشبرغ وميتفوخ)).
  14 – ((ويلهلم باكر 180 – 1913م)) من المستشرقين الألمان، ركز جل اهتماماته على فارس.
  15 – ((جوزف هاليفي 1837 – 1917م)) مستشرق تركي الأصل فرنسي النشأة يعد من أساتذة مدرسة الدراسات العليا بالسربون. تقمص شخصية متسول يهودي وجال بجنوبي بلاد العرب ووصل إلى نجران. وعاد معه ستمائة وستة وثمانين نقشاً من كتابات قديمة. وركز في بحوثه على السامية وما يتعلق بها.
  16 – ((هيرمان ريكندروف 1863 – 1924م)) من المستشرقين الألمان انصرف لدراسة اللغات السامية و((المصرية)) والسنسكريتيه والصينية – عين أستاذاً للعربية في فرايبرغ. ركز في دراساته على النحو العربي مع دراسات في الأدب.
  17 – ((يوليوس هيرشبرغ 1843 – 1925م)) مستشرق بولوني متخصص بتاريخ اليهود في الجزيرة العربية كتب عن السموءل وديوانه. وله آثار ركز فيها على اليهود في المجتمع الإسلامي.
  18 – ((ديفيد سانتيلانا 1855 – 1931م)) من مستشرقي إيطاليا ومن مواليد تونس. درَّس القانون واشتهر بالفقه الإسلامي. وضع القانون المدني والتجاري لتونس بدعوة من المقيم الفرنسي فيها. وقد أخذ كثيراً من الشريعة الإسلامية، درَّس بمصر الفلسفة الإسلامية واليونانية والسريانية. آثاره يغلب عليها الفقه والقانون والفلسفة.
  19 – ((جوزف هوروفتز 1874 – 1931م)) من المستشرقين الألمان. درَّس العربية في جامعة عليكرة بالهند، وتخصص بالإسلام في الهند. انتقل إلى ألمانيا ودرَّس بجامعة فرانكفورت، وعد من أشهر أساتذتها. له مصنفات وآثار في معارف كثيرة.
  20 – ((ماكس سوبرهايم 1872 – 1932م)).
  21 – ((ج برجشتراسر 1886 – 1933م)) من المستشرقين الألمان درَّس الفلسفة واللغات السامية والعلوم الإسلامية، ودرس اللهجات العامية. زار تركيا ومصر وعمل فيهما. سقط على أحد جبال الألب فمات. له آثار عدة عن القرآن الكريم والفقه الإسلامي.
  22 – ((هرتفرج هيرشفيلد 1854 – 1934م)) مستشرق ألماني عنى بالدراسات السامية. وكتب عن السموءل وشعره والشعر المنسوب له. كما كتب عن حسان ابن ثابت وله دراسات في اليهودية والإسلام.
  23 – ((ريتشارد غوتهايل 1862 – 1936م)) من المستشرقين الأمريكيين تخرج من جامعات ألمانيا. أتقن العربية على يد شيخ من مشايخ الأزهر. درَّس في كولومبيا. تنوعت آثاره من حيث الفنون التي طرقها.
  24 – ((أ. ى فنسنك 1882 – 1939م)) مستشرق هولندي: أتقن اللغات السامية، وتخصص في أديان الشرق، وعني بالحديث الشريف، ووضع مع مجموعة من المستشرقين المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ولم يتمه. وتولى تحرير دائرة المعارف الإسلامية. إهتم بموقف الرسول – عليه الصلاة والسلام – من اليهود وله آثار أخرى.
  25 – ((ديفيد صموئيل مورغليوث 1858 – 1940م)) مستشرق إنجليزي دخل سلك الرهبنة ويعد من أئمة المستشرقين. كتب بالعربية بسلاسة وهو صاحب نظرية الإنتحال في الشعر الجاهلي. له آثار ومباحث وتحقيقات عدة.
  26 – ((يوجين ميتفوخ 1867 – 1942م)) مستشرق ألماني تخصص في فقه اللغات السامية وركز على فقه اللغة الحبشية والسبأية وتاريخ جنوب الجزيرة العربية. وشارك في نشر كتاب أطباء العيون عند العرب مع ((ليبرت)) و((هيرشبورغ)) سالفي الذكر. وحاول ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأمهرية.
  27 – ((بول كراوس 1904 – 1944م)) مستشرق ألماني تقلد مناصب تعليمية عدة في ألمانيا وفرنسا ومصر. وشهد له أعلام المستشرقين بالعمق والشمول والتفرد وكان يتوقع له مستقبل باهر. إلا أنه أنهى حياته بنفسه. ركز على إسهامات المسلمين العلمية.
  28 – ((ماكس مايرهوف 1874 – 1945م)) من المستشرقين الألمان تخرج طبيباً وزاول الطب. وتعلم اللغات في القاهرة خاصة التي تتحدثها القاهرة وعالج فقراءها مجاناً، ودرس الطب العربي وكتب عنه كتابات مرجعية وله فيه آثار عدة.
  29 – ((أ. شاده 1883 – 1952م)) مستشرق ألماني تخرج باللغات الشرقية ودرَّس في هامبورج وفي مصر، عني بكتابته عن بعض الأدباء المعاصرين. ترجم ونشر مجموعة من الدراسات والشروح.
  30 – ((كارل بروكلمان 1868 – 1956م)) مستشرق ألماني تخرج باللغات السامية واشتهر بلغته العربية والتاريخ الإسلامي والأدب العربي ودرسها في جامعات شتى. واشتهاره بالأدب العربي لم يقتصر على المفهوم الشائع للأدب العربي، بل إن مؤلفاته تشير إلى إضطلاعه بإسهامات المسلمين في شتى مجالات المعرفة التي برزت في كتابه ((تاريخ الأدب العربي)). وكتابه ((تاريخ الشعوب الإسلامية)). وآثاره غير يسيرة وترجم لمجموعة كبيرة من أعلام المسلمين في دائرة المعارف الإسلامية.
  31 – ((ايفارست ليفي – برفنسال 1894 – 1956م)) من مستشرقي فرنسا. ولد بالجزائر ودرس بها، ثم درس بالمغرب العربي وركز على لغة جبلة، شمالي المغرب. أمضى معظم وقته في الشمال الأفريقي يدرس ويبحث. تخصص كثيراً في الأندلس، وعُدَّ مرجعاً فيه، وله فيه باع طويل من البحوث والدراسات. ووجد في التسامح الإسلامي نحو اليهود في الأندلس ما ينقض العنصرية والاضطهاد اللذين عانى منهما اليهود في حياته، ولذا برز حنينه إلى الأندلس وأهلها.
  32 – ((ليو آريه ماير 1895 – 1959م)) من المستشرقين النمساويين. اختير رئيساً لمعهد العلوم الشرقية في القدس. وأصدر حولية في الآثار والفنون الإسلامية بعدة لغات، ركز على فلسطين في آثاره.
  33 – ((لوى ماسينيون 1883 – 1962م)) مستشرق فرنسي تتلمذ على مشاهير المستشرقين وكانت له صولات وجولات علمية وعسكرية في الشرق. واهتم بالتصوف وكتب عنه بدائرة المعارف الإسلامية. له من الآثار ما يربو على ستمائة وخمسين بين مصنف ومحقق ومترجم ومقالة ومحاضرة وتقرير ونقد. له أياد ((بيضاء)) على الحركة الاستعمارية في العالم العربي.
  34 – ((وليام بوبر 1874 – 1963م)) مستشرق أمريكي ومن أعلام المستشرقين في أمريكا. تنقل بين البدو وأخذ عنهم لهجاتهم وقصصهم، وعاد إلى الولايات المتحدة ودرس بجامعة كاليفورنيا. وواصل جهود سابقيه في نشر كتاب (النجوم الزاهرة)) ((لابن تغري بردي)).
  35 – ((روبين ليفى 1891 – 1966م)) مستشرق بريطاني تعلم في جامعات نورث ولسون وبنجور وأكسفورد. عمل في العراق وأقام في أمريكا وعاد إلى بريطانيا. له آثار في فارس والعراق وغيرها.
  36 – ((جورجيو ليفي دلافيدا 1886 – 1967م)) من المستشرقين الايطاليين، أستاذ العربية واللغات السامية المقارنة بجامعة روما، ومن كبار الباحثين في تاريخ الدين الإسلامي وغلب على آثاره اهتمامه بالشعر والشعراء.
  37 – ((جوزف شاخت 1902 – 1969م)) مستشرق ألماني تقلد مناصب تعليمية عدة في ألمانيا ومصر وبريطانيا وأمريكا والجزائر وهولندا. وقد اشتهر بدراسة التشريع الإسلامي وبيان نشأته وتطوره و((تأثره)) وأثره. وله آثار عدة وهو من محرري دائرة المعارف الإسلامية.
  38 – ((مارسل كوهين 1884م)) مستشرق فرنسي وعالم لغوي من أساتذة مدرسة اللغات الشرقية ومدرسة الدراسات العليا بباريس. له بحوث وآثار سامية تركز فيها على اللغات السامية.
  39 – ((مكسيم رودنسون 1915م)) مستشرق فرنسي ماركسي درَّس في باريس في المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية والمدرسة العلمية للدراسات العليا. درَّس في صيدا وعمل في بيروت ودمشق أمين مكتبة، له آثار كثيرة غلب عليها اهتمامه بالاقتصاد الرأسمالي والمراكسي، كما غلبت كتابته في الوضع العربي الراهن، عرف عنه معارضته للصهيونية.
  40 – ((برنارد لويس 1916م)) مستشرق بريطاني درَّس في لندن وباريس، ودرَّس في الولايات المتحدة الأمريكية بجامعة برنستون وغيرها من جامعات الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تدريسه في جامعات بريطانيا. ركز في دراساته على التاريخ عموماً وعلى تاريخ الإسماعيلية بخاصة، ويتابع النشاط الإسلامي في أوروبا وأمريكا. لا يتورع عن التأكيد على صهيونيته وإعلانها.
  41 – ((ديفيد كوهين)) مستشرق فرنسي معاصر وعالم لغوي له آثار لغوية عدة في السامية.
  42 – ((إسرائيل ولفنسون)) معاصر ويكنى بأبي ذؤيب. درَّس اللغة السامية بدار العلوم ثم بالجامعة المصرية. له تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام بالعربية. وقدم له ((طه حسين)). وتاريخ اللغات السامية بالعربية، و((موسى بن ميمون)) حياته ومصنفاته بالعربية، وقدم له ((مصطفى عبدالرازق))، وكعب الأحبار بالألمانية. ونشر كتاب (المصائد والمطارد) ((لأبي الفتح كشاجم)) ويعد من المستشرقين الألمان.
ومن الصعب جداً حصر الأسماء اليهودية في عالم الاستشراق للأسباب سالفة الذكر، ومالم يكن الباحث عالماً بطريق غير مباشر عن كُنه المستشرق، إلا أنه يغلب على المستشرقين اليهود إهتمامهم المباشر بالسامية وتعلقهم بها، حتى لا يكاد مستشرق يهودي يطرق أبواب الاستشراق دون أن يمر على اللغات السامية أو يتقن العبرية. ولعلهم بهذا يقتفون أثر ((إمامهم)) إيناس جولدتسيهر)) الذي بدأ رحلته الاستشراقية بالإهتمام بالعبرانية ثم اتجه منها إلى الإسلام والعربية[46].
وتزداد الصعوبة في الوقت الراهن عندما ندرك أن اليهود عملوا على السيطرة على مراكز ومعاهد الدراسات الإسلامية والعربية والشرق أوسطية، فوجهوها الوجهة التي تعين على تثبيت أقدام اليهود في فلسطين المحتلة. وهذا يقلق كثيراً من المستشرقين من غير اليهود ممن يمكن أن يوصفوا بالنزاهة والتجرد. وقد صرح لي بهذا الأستاذ ((رالف برابنتي)) أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ((دوك)) بولاية ((نورث كارولينا)) بالولايات المتحدة الأمريكية. والمقصود هنا النزاهة النبسبية التي تتضح لبعض الباحثين دون بعض اعتماداً على نظرة الباحث إلى المستشرق الموسوم بالنزاهة.
ولا تقتصر السيطرة على إدارة هذه المراكز والمعاهد فحسب، وإنما أيضاً شملت التحكم فيما يقال عن المنطقة في المؤتمرات والندوات التي تنعقد في الجامعات والمؤسسات العلمية والتعليمية. فالتي لا تتاح لهم فيها فرصة المشاركة الفعلية تراهم يرسلون إليها مندوبين لهم يرصدون ما يقال في هذه اللقاءات ويكتبون عنه التقارير لمكتب الملحقية الثقافية اليهودية، وهذا بدوره يكتب لهذه المؤسسات طالباً عدم التعرض لليهود ولدولتهم في فلسطين بشيء من السلبية. هذا بالإضافة إلى رصد المعلومات عن هذه الأنشطة ومعرفة توجهها ومحاولة الإسهام فيها.
ولذا لا يستبعد المرء أن تستفحل حركة الاستشراق الصهيوني وأن تكون الطاغية على الاستشراق في فترة تأتي قد تطول إذا ما استمرت السيطرة الصهيونية على جميع مرافق الحياة العلمية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الغربي عموماً، وفي مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة بعد تسلمها زمام الحضارة الغربية من أوروبا، مما أتاح للمستشرقين وغيرهم من اليهود أن يصبوا جام غضبهم بسبب ما حصل لهم من إضطهاد في أوروبا على بعض الحركات السياسية والعرقية فيها، وبصورة أوسع وأشمل وأوضح على طرف ثالث أكثر من الطرف الثاني الأوروبي، وقد برزت ردود الفعل هذه ((بوضوح، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، في كتابات المستشرقين الصهاينة وعلى رأسهم ((بارنارد لويس)). إن بذور الصهيونية قد غرست خلال القرن التاسع عشر (الميلادي) ولكن الشجرة الصهيونية قد ازدادت نمواً خلال القرن العشرين (الميلادي)، فكان الهدف الأصلي لهذه الحركة من وراء إهتمامها بالإسلاميات الحصول على المعلومات الكافية عن الفلسطينيين الذين سيتركون بلادهم لتؤسس فيه الدولة الصهيونية مستقبلاً. كما أولى الصهاينة إهتماماً كبيراً للدول المجاوره لفلسطين لمنع احتمال ردود فعل ضد تأسيس دولة إسرائيل. وكان الصهاينة – شأنهم في ذلك شأن أسلافهم المستعمرين – مهتمين بالدراسات العربية والإسلامية أساساً كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية[47] وإذا كان يتردد أن تأثير الاستعمار قد انتهى فلا يزال للصهيونية تأثيرها في الدراسات العربية والإسلامية خصوصاً في الولايات المتحدة – كما سبق التنويه عليه –.
وقد ساعد التنصير على ترسيخ فكرة الاستشراق الصهيوني من خلال تشجيع دراسة اليهود للعرب والمسلمين مما ساعد على استغلال التنصير لليهود في سبيل تحقيق أهداف التنصير الدينية والسياسية. وقد اقتنع المنصرون أن جمع اليهود في فلسطين يسهل لهم مهمتهم في الوصول إلى المسلمين[48]. ولا تزال الجمعيات التنصيرية تنطلق من فلسطين المحتلة رغم سيطرة اليهودية على البلاد. ولا بأس – في نظام القوم – من أن تتضافر الجهود في سبيل الحد من ((خطر)) الإسلام على الأمم الأخرى. ولا بأس – في نظام القوم – من ممارسة ((الإرهاب الفكري)) ضد الإسلام والمسلمين سعياً وراء توطيد الأقدام في فلسطين المحتلة إلى درجة محاولة تحريف القرآن الكريم وتوزيع نسخ مزورة منه على المسلمين مثلماً حدث في أندونيسيا وغيرها من بلاد المسلمين التي كان يعتقد أنها لجهلها بالعربية لن تنتبه لهذه النسخ المزورة. ومثلما حدث من طباعة (موجزة) للقرآن الكريم صدرت عن ((دار ديفز للنشر)) وهي دار يهودية مركزها ((شيكاغو)) بولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية، وسمت هذه الطبعة الموجزة بالقرآن القصير[49]، كما فعلوا مع القواميس والمعاجم يصدرون طبعات موجزة عنها للرجوع السريع!
ولا يبدو أن مثل هذه الأساليب ستجدي في تحقيق الأهداف، فهي أعمال يغلب عليها جانب السطحية في المحاولة إذا ما قورنت بما أدخله اليهود على الفكر الإسلامي منذ البدايات الأولى للإسلام، وكانوا السبب الرئيس في إختلاف الأمة وتفرقها ودخول مبدأ البدعة منها والرجوع إلى العقلانية في النظر إلى التشريع[50] وتغليب العقل على النصوص أحياناً ولو ثبتت صحتها من قبل كبار المحققين والمخرِّجين. وحيث تنبه المسلمون إلى هذه الجوانب وردوا النظريات التي شككت في صحة الحديث والآثار المروية عن الصحابة – رضوان الله عليهم – يلجأ اليهود إلى أساليب جديدة في إدخال ((الاسرائيليات الحديثة)) على الفكر الإسلامي. وكلما استنفذت وسيلة لجأوا إلى أخرى. وليس في هذا مصدر غرابة أو عجب، فقد ((تعوَّد)) المسلمون على مثل هذه الأساليب وكانوا – ولا يزالون – موفقين في ردها والرد عليها. هذا بالإضافة إلى المعلومة المسبقة عن اليهود مما يجعل اليهود يتفانون في إخفاء كنههم ولو أدى ذلك إلى تنصرهم، بل ربما إلى إسلامهم وصلاتهم مع المسلمين وحضورهم لقاءاتهم وإجتماعاتهم وأنشطتهم الأخرى. وانظر – إن شئت – إلى قصة ((فريد عبدالرحمن)) أو ((الفرد دي يونغ)) كما يرويها ((قاسم السامرائي))[51]. ولعل هذا – أيضاً – مما يؤيد صعوبة التعرف عليهم بطرق علمية مجردة. أما الذي لم يمتط صهوة التنصر أو الإسلام فاكتفى بأن يصنف من المستشرقين العلمانيين الذين اشتد أزرهم في القرن الرابع عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي[52]. وزادت شوكتهم في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي وخصوصاً مع قيام دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة عام 1368/ 1948م وما صاحب هذا من نقلة في إهتمامات المستشرقين عموماً والعلمانيين بشكل خاص واليهود منهم على وجه أكثر تخصصياً، إذ برزت نغمة تعميق الوجود اليهودي في منطقة ((الشرق الأوسط)) وكثر التأليف والكتابة عن هذا الموضوع قصداً إلى ترسيخ فكرة حق اليهود في وطن قومي لهم في فلسطين. وإن لم تكن الفكرة وليدة القرن السابق أو القرون الثلاثة الماضية المقرونة بدعوة الحاخام ((ليفا 1520 – 1609م)) لقيام وطن قومي لليهود[53]، فمما لا شك فيه أنها استشرت مع إعلان دولة إسرائيل. واتجه إلى الإستشراق أعضاء جدد لم يكونوا يفكرون بطرق أبوابه من قبل، حتى أنه دخل في هذا المفهوم الكُتَّاب الصحفيون والمعلقون السياسيون والمهتمون بالمنطقة، مما أعطى فكرة الاستشراق شيئاً من السطحية لم تكن تنعم به من قبل. وأصبحت هذه المقالات والتعليقات كتباً تباع في المكتبات على أنها مرجع عن المنطقة. وأصبح كاتبوها ممن يرجع إليهم في تحليل أو تفسير ما يقع في المنطقة من أحداث، وترك هؤلاء لأهوائهم وميولهم العنان في الإنطلاق في التحليل والتعليق الذي يناسب الوجهة التي يعملون لها، مع قدر محدود جداً من توفر الوجهة الأخرى، وشبه إنعدام للخلفية التاريخية للصراع القائم اليوم.
ولا شك أن لهذا الاتجاه أثره على حركة الاستشراق عموماً وعلى الاستشراق الصهيوني على الأخص، خاصة أن التضخم الإقتصادي وإنتشار البطالة قد أسهم في التقليل من الصرف على مراكز ومعاهد الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية. فنقصت نسبة الطلبة نظراً لزيادة رسوم الدراسة. وألغيت بعض الأقسام أو قلص من نشاطها، مما ينبيء بتحول في النشاط الاستشراقي[54]. وفي هذه البيئة تتم لليهود السيطرة على مسار الاستشراق فيتصرفون في المؤتمرات أو الندوات والنشرات التي تصدر عن الجمعيات والمراكز الاستشراقية، مما قد يهدد بخطر أكثر عتواً من المرحلة التي كان اليهود المستشرقون فيها منخرطين بين المستشرقين مخفين حقيقتهم. وربما برزت في الأفق دعوى أحقية اليهود في الاستشراق على إعتبار أنهم قريبون من المنطقة، وأنهم جنس سامٍ يدرك ظروف المنطقة، بحكم قيام دولة لهم فيها. إضافة إلى إتقانهم لغة ((أعرابية)) تسهل عليهم كثيراً إتقان اللغة العربية. وهم في الأصل شرقيون ما يعينهم على إدراك المشكلات الشرقية، ويسكنون في الغرب فيدركون حاجات الدول الغربية من المنطقة[55]. وهكذا يبررون نزعتهم إلى السيطرة على زمام الاستشراق فلا يُدخِلون فيه إلا من يحوم في فلكهم. وربما طغى الهدف السياسي للمستشرقين عموماً واليهود بخاصة على الهدف الديني على إعتبار أن اليهود ينظرون إلى دولتهم المقامة في فلسطين المحتلة على أنها موطن الجنس اليهودي – وليس الديانة اليهودية. وعليه فإن الهدف الديني غير وارد بالقوة التي يخدمون بها الهدف السياسي في ترسيخ فكرة استمرار الدولة وشرعيتها في البقاء، في الوقت الذي تضعف فيه الحركات التي تصمم على إعادة الأرض إلى أهلها بأي شكل من أشكال الإعادة.
وهكذا يخدمون الصهيونية فكرة أولاً ثم دولة ثانياً. والظروف العامة والظواهر المترادفة في كتابات المستشرقين من هذه الفئة تعزز وجهة النظر هذه وتخلع عليها بعض خصائص الإنتاج العلمي[56].
ومع هذه الجهود المضنية في السيطرة على مسيرة الاستشراق وتوجيهها الوجهة التي تتفق وأهداف وتطلعات الاستشراق اليهودي، مع هذا هل من الممكن إعتبار مدارس للاستشراق تكون ((المدرسة اليهودية)) واحدة منها؟. هناك من صنف الاستشراق إلى أربع مدارس:
1 – المدرسة النصرانية – الكاثوليكية والبروتستانتية.
  2 – المدرسة اليهودية.
  3 – المدرسة الإلحادية العامة.
  4 – المدرسة الإلحادية الشيوعية[57].
ولا شك أن هناك ما تميز به المستشرقون اليهود من حيث تركيزهم على اللغات السامية، وإصرارهم على إعتماد الإسلام على اليهودية، وإقحامهم الإسرائيليات في التاريخ الإسلامي، وتأكيدهم على وضع اليهود في الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر على المستوى العربي عموماً[58]، بل على المستوى العالمي، وهذه كلها لا ترقى إلى أن يكون هناك مدرسة استشراقية يهودية، فلقد جر المستشرقون اليهود غيرهم من الملحدين والنصارى إلى تبني ما ذهبوا إليه، واتفق المستشرقون اليهود مع غيرهم من المستشرقين على مواقفهم من القرآن الكريم، وسيرة الرسول – عليه الصلاة والسلام – وسنته، والشريعة والتاريخ الإسلامي والسير وغيرها، فلا تكاد تميز بينهم في مواقفهم هذه. وانخرط المستشرقون ((الآخرون)) في النظرة المعاصرة للمنطقة فأصبحت تجد صعوبة في التعرف على كُنه المستشرق وهو يتحدث عن المنطقة. ولا تستطيع الحكم عليه باليهودية لمجرد حماسه لدولة إسرائيل. فلقد وجد مستشرقون غير يهود تحمسوا لقيام دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة أكثر من تحمس بعض المستشرقين اليهود لها، وذلك لإنخراطهم في خدمة الصهيونية العالمية بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذا مع التشكيك جملة وتفصيلاً في أن الاستشراق عموماً قد وصل إلى مستوى أن يقسم إلى مدارس لما لمصطلح ((مدرسة)) من عمق في التفكير وجديد الإضافة والتميز الملحوظ، الأمر الذي لم يتحقق بوضوح في مسألة الاستشراق إلى درجة أنه لا يصل إلى أن يطلق عليه ((علم)) له أصوله ومناهجه ونظريته التي ينطلق منها، بل ربما صح أنه ظاهرة مثله في هذا مثل التنصير والإستعمار[59].

وما كان التركيز في هذه الجولة إلا على التأكيد على أن الاستشراق قد خدم اليهودية والصهيونية وأن هناك علاقة بين الاستشراق واليهودية بدت واضحة من خلال توجهات المستشرقين عموماً بغض النظر عن خلفياتهم التي انطلقوا منها.

ــــــــــــــــــــــــــ
[1]  سبقت مناقشة علاقة الاستشراق بالاستعمار. أنظر: علي بن إبراهيم النملة. ((العلاقة بين الاستشراق والإستعمار)). التوبادمج. ع4 (شوال 1408هـ يونيو 1988م). ص38 – 42.
[2]  لقد ناقشت مجموعة من الأعمال العلمية التي تحدثت عن الاستشراق أهداف وأغراض هذه الظاهرة وتكاد تجمع على أن الهدف الأول هو الهدف الديني الذي يتضمن التنصير فأقيمت العلاقة بين التنصير والاستشراق من هذا المنطلق. (أنظر محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر، 1404هـ – ص27 – 31. (سلسلة كتاب الأمة/5).
[3]  محمد شامة، الإسلام في الفكر الأوربي، القاهرة: مكتبة وهبة، 1400هـ/ 1980م، ص222.
[4]  نجيب العقيقى. المستشرقون. 3 أجزاء. القاهرة: دار المعارف، (1980م). 1/110 – 125.
[5]  بركات عبدالفتاح دويدار. الحركة الفكرية ضد الإسلام. مكة المكرمة: المركز العالمي للتعليم الإسلامي، جامعة أم القرى، 1406هـ. ص101.
[6]  نجيب العقيقي: المستشرقون. 3/249 – 316.
[7]  انطلاقة التنصير مع الحروب الصليبية يقصد بها – هنا – ما يتعلق بالتنصير من حيث كونه موجهاً إلى الإسلام وإلا فالتنصير قديم في انطلاقته. واتضح في جوف آسيا والجزيرة العربية في أواخر القرن الخامس الميلادي. (أنظر إسماعيل مظهر. تاريخ تطور الفكر العربي بالترجمة والنقل عن الثقافة اليونانية المقتطف. مج66. ع2. (2/1925م) ص: 1425.
[8]  نذير حمدان. في الغزو الفكري: المفهوم، الوسائل، المحاولات. الطائف: مكتبة الصديق، (د.ت) ص101. حيث يذكر أن بدايات التنصير كانت مع وفد نجران وكتب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى النصارى.
[9]  علال الفاسي. ((التبشير أسلحة أخطر الاستعمار)) الهلال مج 81. ع1 (أكتوبر 1973م/ رمضان 1393هـ). ص60 – 70.
[10]  محمود محمد شاكر. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. القاهرة: دار الهلال، 1408هـ/ 1987م. (سلسلة كتاب الهلال/ 422) ص73 – 75.
[11]  عثمان الكعاك. ((صفحات سوداء من تاريخ المبشرين)). الهلال. مج 81. ع10. (أكتوبر 1973م/ رمضان 1393هـ) ص38 – 49.
[12]  محمد عبدالفتاح عليان. أضواء على الاستشرا. الكويت: دار البحوث العلمية 1400هـ/ 1980م. ص24.
[13]  أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب: مخططات التبشير والاستشراق. القاهرة: دار الاعتصام، (د.ت) ص266 – 267).
[14]  علي جريشة ومحمد شريف الزبيق. أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي. القاهرة: دار الاعتصام، (1978م). ص20.
[15]  أ.ل شاتليه. الغارة على العالم الإسلامي – لخصها ونقلها إلى اللغة العربية مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب. ط2. جدة: منشورات العصر الحديث، 1387هـ. ص93 – 94.
[16]  عبدالله التل. جذور البلاء ط1. بيروت: المكتب الإسلامي، 1398هـ/ 1978م. ص228.
[17]  أحمد الزغيبى. الفكر الصهيوني وأهدافه في المجتمع الإسلامي. بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في الثقافة الإسلامية. قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة بالرياض. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 3 مجلدات. 1405هـ/ 1985م. 3/1046.
[18]  أنور الجندي: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق: المكتب الإسلامي. 1398هـ/ 1978م، ص91.
[19]  نذير حمدان. في الغزو الفكري. ص186 – 188.
[20]  نبيه عاقل. ((المستشرقون وبعض قضايا التاريخ العربي الإسلامي)) في محاضرات وتعقيبات الملتقى السادس للتعرف على الفكر الإسلامي. المجلد الثاني. الجزائر في 13/6 – 1/7/1392هـ الموافق 24/7 – 10/8/1972م. نشرته في الجزائر وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية. ص198.
[21]  نجيب العقيقي. المستشرقون 1/110 – 125.
[22]  محمد بن عبود. ((الاستشراق والنخبة العربية)) المجلة التاريخية المغربية. مج9. ع27 و28. (1982م). ص199 – 215.
[23]  نقلاً محمد بن عبود. ((الاستشراق والنخبة العربية)). ص202.
[24]  محمود حمدي زقزوق. الإسلام والإستشراق. القاهرة: مكتبة وهبة، 1404هـ. ص22.
[25]  إبراهيم خليل أحمد. الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية. القاهرة: مكتبة الوعي العربي، 1393هـ/ 1973م. ص67 – 68.
[26]  مصطفى خالدي وعمر فروخ. التبشير والاستعمار في البلاد العربية: عرض لجهود المبشرين التي ترمي إلى إخضاع الشرق للاستعمار الغربي. صيدا: منشورات المكتبة العصرية، 1982م. ص46.
[27]  أحمد سمايلوفتش. فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر. القاهرة: دار المعارف، (1980م). ص127.
[28]  أحمد عبدالرحيم السايح. ((العلاقة بين الاستشراق والتنصير)) ((أخبار العالم الإسلامي)). مج23ع. 11 (وما بعده) (14 رجب، 1409هـ الموافق 20 فبراير 1989م). انظر العدد 1112، ص10 و14.
[29]  محمد أحمد مشهور الحداد. ((الاستشراق والمستشرقون)). أخبار العالم الإسلامي. مج23. ع1074، ص10.
[30]  صلاح الدين المنجد. ((الاستشراق الألماني في ماضيه ومستقبله)) الهلال مج82 ع11، ص22 – 27 (شوال 1394هـ/ نوفمبر 1974م)، ص22 – 27.
[31]  صلاح الدين المنجد، المستشرقون الألمان: تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية. ط2. ط1. بيروت: دار الكتاب الجديد، 1982م. ص7 – 13.
[32]  محمد حسين علي الصغير. المستشرقون والدراسات القرآنية. ط2. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1406هـ/ 1986م. ص16.
[33]  قاسم السامراني. الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية. الرياض: دار الرفاعي، 1403هـ. ص51.
[34]  عدنان محمد وزان. الاستشراق والمستشرقون: وجهة نظر. مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي، 1404هـ/ 1984م. ص61. (سلسلة دعوة الحق/24).
[35]  قاسم السامراني، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية. ص50 – 51. وانظر أيضاً الأمير شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي: 4 أجزاء في مجلدين – ط4. بيروت: دار الفكر، 1394هـ، 1973م – 1/278 – 282.
[36]  مصطفى خالدي وعمر فروخ. التبشير والاستعمار. ص180.
[37]  إسماعيل الكيلاني. لماذا يزيفون التاريخ ويعبثون بالحقائق؟! بيروت: المكتب الإسلامي، 1407هـ/ 1987م، ص31.
[38]  محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم: عرض موجز لمواقف وآراء وفتاوى بشأن ترجمة القرآن الكريم مع نماذج لترجمة تفسير معاني الفاتحة في ست وثلاثين لغة شرقية وغربية. ط2. بيروت: دار الآفاق الحديثة، 1403هـ. ص93 – 94.
[39]  صلاح الدين المنجد: المنتقي من دراسات المستشرقين: دراسات مختلفة في الثقافة العربية: ج1، ط2. بيروت: دار الكتاب الجديد، 1396/ 1976م. ص ج – د.
[40]  عباس محمود العقاد. ما يقال عن الإسلام. القاهرة: دار الهلال. 1386هـ/ 1966م. (سلسلة كتاب الهلال/ 189). ص9 – 18.
[41]  محمد عبدالفتاح عليان. أضواء على الاستشراق. ص53 – 57.
[42]  محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. ص44.
[43]  نجيب العقيقي. المستشرقون. ج1/112.
[44]  محمد بن عبود. ((الاستشراق والنخبة العربية)). ص207.
[45]  محمد بن عبود ((الاستشراق والنخبة العربية)) ص209 – 210.
[46]  قد يذكر اسم ((جولدتسيهر)) الأول على أنه ((إجناس)) إذ يكتب باللاتينية (Ijnas  ) وهذا المستشرق استقر به المقام في ألمانيا وغالبية أعماله بالألمانية ولذا يذكره الألمان على أنه ((إيناس)) بالياء لأنهم ينطقون حرف (j  ) ياءً…
[47]  محمد بن عبود. ((الاستشراق والنخبة العربية)). ص211.
[48]  مصطفى خالدي وعمر فروخ. التبشير والاستعمار في البلاد العربية. ص181.
[49]  أحمد بن عبدالله الزغيبي. الفكر الصهيوني وأهدافه في المجتمع الإسلامي. 3/1052.
[50]  أنور الجندي. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق: المكتب الإسلامي، 1398هـ. ص42 – 44.
[51]  قاسم السامرائي. الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، ص122.
[52]  نذير حمدان. الرسول – صلى الله عليه وسلم – في كتابات المستشرقين. ط1 جدة: دار المنارة، 1406هـ. ص38.
[53]  علي جريشة، الاتجاهات الفكرية المعاصرة. المنصورة: دار الوفاء 1407/ 1986م. ص241.
[54]  عدنان محمد وزان. الاستشراق والمستشرقون: وجهة نظر. من139 – 157.
[55]  عمر فورخ. الاستشراق في نطاق العلم وفي نطاق السياسة. في الإسلام والمستشرقون. تأليف نخبة من العلماء المسلمين. جدة: عالم المعرفة، 1405هـ. ص125 – 143.
[56]  محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص431.
[57]  عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني. أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير، الاستشراق الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه. ط4 دمشق: دار القلم، 1405هـ. ص124 (سلسلة أعداء الإسلام/3).
[58]  أنور الجندي. الإسلام في وجه التغريب. ص309 – 328.
[59]  سبقت الإشارة إلى شيء من هذا عند الحديث عن العلاقة بين الاستشراق والاستعمار. (أنظر علي بن إبراهيم النملة ((العلاقة بين الاستشراق والاستعمار)).

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/247/#ixzz641logWcl