عناصر الخطبة
1/ الدنيا دار عمل
2/ الأسئلة الخمسة يوم القيامة
3/ ثمرات محاسبة الإنسان لنفسه
4/ فضائل الأشهر الحرم
5/ فضل صيام عاشوراء
6/ أهمية الثبات على الحقّ والاستقامة على الهدى.
الخطبة الأولى:

أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.

في الترمذيّ عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تزال قدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن عمره: ما عمل فيه؟” (سنن الترمذي (2417) وصححه الألباني).

أيّها المسلم: الدّنيا دارُ عمَل، يغتَنِمها الموفَّق، ويتزوّد منها عملاً صالحًا لمعاده، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، دارُ عمَل، والآخرةُ دارُ الجزاء، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31].

أيّها المسلم، إنَّ اللهَ -جلّ وعلا- لم يخلُقنا عَبثًا، خلَقَنا لأمرٍ عظيم عبادتِه وطاعتِه، وأخبَرَنا أنّه سيجمعنا في يومٍ لا ريبَ فيه، يجمع الله فيه الأوَّلين والآخِرين: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:9].

في ذلك اليومِ يومِ الجزاءِ والحسابِ يقِف الخلائقُ على أعمالِهم كلِّها، دقيقِها وجليلِها، على الأقوال والأعمالِ، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13، 14]، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. في ذلك اليومِ يَقِف كلٌّ منّا على عمَلِه، إن خيرًا وإن شرًّا، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].

أيّها المسلم، ولا تزالُ قدمَا عبدٍ منّا في ذلك اليومِ العظيم حتى يُسألَ عن خمسٍ، يسأَلَ عن عمرِه: فيم أفناه؟ هذا العمُر الذي مضى، قلَّت سنونه أو كثُرت، ستُسأَل: فيمَ أفنيتَ هذا العمر؟ هل أفنيتَ هذا العمر في طاعة الله؟ هل أفنيتَه في القيام بما أوجَبَ الله عليك؟ هل مضى ذلك العمُر في عملٍ صالح تتقرَّب به إلى الله، أم عمر مضَى في البطالةِ والجهالاتِ، عمر مضى في السّفَه واللّعِب، عمر مضى في الغفلةِ والإعراض؟ وسيندم العبدُ على ذلك، (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:27، 28].

إنّ هذا العمرَ ستُسأَل عنه أيّها العَبد، تُسأَل عن هذا العمرِ: فيم أفنيتَه؟ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ) [فاطر:37]، تُسأَل عَن شبابك: فيمَ أبليتَه؟ هذا الشبابُ موضِع القوّةِ والنشاطِ تسأَل في ماذا أبليته؟ هل أبليتَه بالخيرِ أم مضى شبابٌ في الطّيشِ والجهل والإعراض؟ إنّه سؤال حقٌّ واقع، فعلى كلٍّ منّا أن يحاسِبَ نفسَه، ويعِدَّ لهذا السؤالِ جَوابًا.

سنُسأَل عن هذا المالِ الذي بأيدِينا سؤالان: مِن أين هذا المال أتى؟ وفيمَ أنفِقَ هذا المال؟ هذا المالُ الذي بيدِك وهو زينةٌ من زينةِ الدنيا ستُسأَل يومَ القيامة عنه: عن طرقِ اكتسابِه وعن وسائِل إنفاقِه، من أين اكتسبتَ هذا المال؟ أمِن حلٍّ أم حرام؟ هذا المالُ الذي بيدِك من أين أتاك؟ ما هي طرق اكتسابه؟ هل كان الاكتساب طريقًا مشروعًا؟ هل كان طريقًا مأذونًا به شرعًا أم كان هذا الاكتسابُ حرامًا سرِقةً أو غصبًا، غشًّا وخداعًا، ربًا ومَيسرًا وقِمارًا وأمورًا باطلة؟

ستسأَل عنها يوم القيامة، عن هذا المال، من أين أتاك؟ من أيِّ الطريق كان؟ فاستعدَّ لهذا الحساب، وحاسِب نفسَك، وطهِّر مالك من كلِّ مكسبٍ خبيث.

وتسأَل أيضًا يوم القيامة: فيم أنفقتَ هذا المال؟ هل كان الإنفاق في وجوهِ الخير أم كان الإنفاقُ في الباطل؟ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36]، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:47].

وتُسأل عن عِلمِك: ماذا عَمِلتَ في هذا العِلم؟ علِمتَ حقًّا ماذا عمِلتَ فيه؟ هل كان هذا العلمُ سببًا للعمَل وسببًا للاستقامةِ أم كان هذا العلمُ سببًا للطّغيان والأشَر والإعجاب بالنّفس وسببًا للإعراضِ والصّدود عن سبيل الله؟ فكم مِن علم ينفَع عالمَه ويقوده إلى كلِّ خير، وكم من علمٍ هو وَبالٌ على صاحبِه وحجّة على صاحبِه، في الحديث: “والقرآنُ حجّة لك أو حجة عليك” (أخرجه مسلم: 223).

أيّها المسلم، فإذا علِمنا أنّنا مسئولون عن أعمالِنا وعن الجزءِ المهمِّ منه وهو الشّباب، سنُسأَل: فيمَ أمضينَا هذا العمر؟ وفيم أبلَينا هذا الشباب؟ ونحاسِب أنفسَنا يمرّ بنا العام تلوَ العام فماذا قدمنا؟ هل كان يومُنًا خيرًا من أمسِنا أو كان أمسُنا خيرًا من يومنا؟ وهل نيّةٌ صادقة للاستقامةِ على الطاعة وتبديلِ السيِّئات بالحسنات وصحائفِ الأعمال السيّئة بصحائف أعمال خيِّرة، فيها الخيرُ والتقى والصّلاح.

أيّها المسلم، إنَّ من تدبَّر حالَه وعلِم أنّه مسئول عمّا قال وعمِل أحدث له ذلك تحوُّلاً في حالِه واستقامةً على الخير وطلبًا للعمل الصالح وسؤالَ الله الثباتَ على الحقّ، لا بدَّ أن نسأَل عن أعمالِنا وأقوالنا، يقول الله -جلّ وعلا-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12]، والله يقول: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الحاقة:19-22]، وغيره ممّن أوتي كتابَه بشماله يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) [الحاقة:25-28].

أيّها المسلم، فلا ينفَعُك يومَ القيامة مالٌ جمعتَه، ولا كثرةُ ولدٍ، ولا طول عمر، إنما ينفعك عملٌ صالح عمِلته، مالٌ طيّب أنفِق في وجوهِ خير، وعمُر مديدٌ استغِلَّ في العمل الصالح، وتربيةٌ لأبناء أو بناتٍ يكونون لك عقِبًا صالحًا تسعَد بهم في آخرتِك.

أيّها المسلم، إنَّ محاسبةَ الإنسانِ نفسَه محاسبةً دقيقة يخلُص منها بالنّتائج، فإمّا تقصير وإهمالٌ فيتدارك نقصَه وتقصيرَه بالتوبة إلى الله والإنابةِ إليه، وإمّا استقامة فيسألُ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه وأن لا يزيغَ قلبَه بعد إذ هداه.

إنّ المؤمن وهو يمرّ به العام وينقضِي ثمّ يستهلّ عامًا جديدًا ليفكِّر في نفسه: بأيِّ شيءٍ أمضينا العام الماضي؟ ماذا مضى عليه العام الماضي؟ أمضى في خيرٍ وصلاح واستقامةٍ أم مضى في سوءٍ وفساد ومظالمَ للعباد؟ فيستقبِل عامَه الجديد بتوبةٍ نصوح وتفكّر في حاله ومحاسبة لنفسِه وتوبة إلى اللهِ من تقصيرِه وإساءَته.

أيّها المسلم، فحاسِب نفسَك فيما بينك وبينَ الله، هل أنت محافِظ على فرائض الإسلام حقًّا؟ هل أنت مؤدٍّ لفرائضِ الإسلام حقًّا أم أنت مهمِل أو مقصِّر؟ هل أنت مؤدٍّ للواجبات الشرعيّةِ أم هناك تقصيرٌ فتدارَكِ النقص والتقصيرَ؟

أيّها المسلم، حاسب نفسَك، وهل ربَّيتَ الأولاد من بنينَ وبنات تربيةً صالحة؟ وهل سعيتَ في توجيههم وإعدادِهم الإعدادَ الصالح وبذلتَ السببَ الممكن في توجيهِهم وإصلاحهم وهدايَتهم للطريق المستقيم؟ تحاسب نفسَك مع زوجتك: هل أنت قائمٌ بحقِّها خيرَ قيام؟ هل أنت مقصِّر في أمرها؟ هل معاشَرتُك لها بالمعروف؟ وهل سيرتك معها سيرةٌ طيّبة؟ فالحمد لله وإلاّ فتداركِ النقص والتقصير.

أيّها المسلم، تحاسِبُ نفسَك مع الأبوين الأمّ والأب: هل أنت قائمٌ ببرِّهما؟ هل أنت محسِنٌ إليهما؟ هل أنت قائمٌ بحقِّهما أم أنت مقصِّر ومخلٌّ وعاقّ بهما؟ فاستبِحهما في الحياة، وتدارَك ما بقِي من أعمارِهما بالقيام بحقِّهما؛ عسى أن تلقَى الله وأنت بهما بارّ. وهل علاقتُك برحمِك علاقةُ الخير والصّلَة أم هناك شحناء وعداوة وبعدُ بعضٍ عن بعض؟ فتدارك هذا الأمرَ، وأصلح ما بينك وبين رحمك، يبارِكِ الله لك في عمرك وولَدِك.

أيّها المسلم، تحاسب نفسَك إن كنتَ من أهل البيعِ والشّراء: هل أنت مِن أهل الصِّدق في تصرُّفاتك المالية، أم أنت مخادِع وكاذب وغاشّ؟ وهل في ذمَّتك حقوق للآخرين غفَلوا عنها ولم يعلَموا بها؟ فهل عقدتَ العزمَ أن تنبِّههم وتردَّ إليهم حقوقَهم وتعطيهم حقوقهم بطيبِ نفس قبل أن تلقَى الله فيمكِّنهم الله من حسناتك؟

أيّها المتعامِل مع الغير، فاتَّق الله فيما ائتُمِنتَ عليه من أموال، واتّقِ الله فيما ائتُمنت عليه من وصايَا وأوقاف، واتّق الله في حقوقِ الآخرين، فحاسِب نفسَك، وسجِّل ما عجزتَ عن تسديده، وأعلم بذلك حتّى لا يفجَأَك الموت وأنت في غفلةٍ وإعراض.

أيّها المسلم، ويا مَن أنيطَت به مسئوليّة من مسائِل الأمّة، حاسب نفسَك: هل أنت أدَّيتَ الحقَّ الوظيفيّ على الوجهِ المطلوب أم أنت مقصِّر ومهمِل ومضيِّع فيما عُهِد إليك؟ فحاسِب نفسَك، فإنّ هذا أمرٌ مطلوب منك، لتؤدِّيَ الأمرَ على الوجه المطلوب، فلا تقبِض مرتَّبًا مع إخلالٍ بعمل وعدَم قيام بالواجب.

إنّنا لو حاسبنا أنفسَنا عن أموالنا: ما هي هذه الطرقُ التي نِلنا بها هذا المال؟ أفي أموالِنا غلول وأكلُ مال بالباطل؟ فلنتخلَّص منه، أفي أموالنا أكلٌ للحقوقِ العامّة؟ فنردَّها إلى أهلها، أفي أموالنا حقوقٌ مشتبِهة؟ فتخلّص من هذه المشتبهات، أفي أموالنا مالٌ ما أدَّينا زكاته؟ فلنؤدِّ زكاتَه لنتخلَّصَ من حقِّ الله قبل أن نلقاه. إنّنا لو حاسبنَا أنفسَنا هذا الحساب وعُدنا على أنفسنا فيما بَيننا وبين الله لكان ذلك خيرًا منّا، (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة:14].

أيّها المسلم، لا أحد أحرَص منك على نجاةِ نفسك وفكاكها من عذابِ الله، فحاسِبها الحسابَ الدقيق قبلَ أن تحاسَبَ أمام الله، قال عمر -رضي الله عنه-: “حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، وتهيّؤوا للعَرض الأكبر على الله” (أحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52).

إنّ الكيّسَ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، وإنَّ العاجِزَ من اتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني، أعذَرَ الله لعبدٍ بلَّغَه الستّين، ما جَعَل له بعدَ بلوغِها من عذرٍ إن هو أرادَ الانتباهَ وتصحيحَ أوضاعه، فقد مضَى ستّون سنَة، فاتَّقِ الله فيما بقِيَ من عمرِك، واسأل الله الخاتمةَ الحميدة، وتخلَّص من مظالم العباد، واستقبِل عامَك الجديد بنيّةٍ صادِقة وتوبةٍ نصوح والتجاء إلى الله وقيامٍ بما أوجب الله.

أسأل الله أن يجعلَ عامَنا عامَ خيرٍ وبركة، وأن يهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسلامةِ والإسلام، وأن يعيذَنا فيه من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلَ خيرَ أعمالنا خواتمها وخيرَ أعمارِنا أواخِرَها وخيرَ أيّامنا يومَ نلقى الله فيه، إنّه على كلِّ شيء قدير.

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.

عبادَ الله، شهرُ الله المحرّم أحد الأشهرِ الحُرُم التي قال الله فيها: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، هذه الأشهر الحرم قال الله فيها: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36]، ونبيّنا -صلى الله عليه وسلم- لما سئِل عن أفضلِ الصيام بعد رمضان قال: “شهرُ الله المحرم”، وعن أفضلِ القيام بعد الفريضة قال: “جوفُ الليل الآخر”(أخرجه مسلم: 1163).

أيّها المسلم، فشهرُ الله المحرّم هو مبدَأ التاريخِ الهجريّ من هجرة محمّد –صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ المسلمين في عهد عمَر رضي الله عنه أرادوا تارِيخًا يضبِطون به الأشياء ولا سيّما دواوين الخَراج والأوامِر التي ترِد من أميرِ المؤمنين لوُلاته، فاختَلَفوا وطرَحوا آراء، فمِنهم من أراد أن يكون مبدَأ التاريخ بعام الفيل وهو مولِد محمّدٍ –صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من أراده بمبعَثه –صلى الله عليه وسلم-، ومنهم ومنهم..

فأشار عثمانُ بن عفان -رضي الله عنه- على أميرِ المؤمنين أن يجعَلَ مَبدأ التاريخ الهجريّ بشهرِ الله المحرَّم وقال: “إنّه الشهر الذي يلِي شهرَ ذي الحجة وهو آخرُ الأشهر الثلاثة”، فارتَضَى الصحابة أنَّ شهر محرّم هو مبدأ التاريخ الهجري، أي: هِجرة محمّد –صلى الله عليه وسلم-، (قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/15) وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي).

فمِن هنا ابتدأ التاريخ الهجريّ، وهو اليومَ السادِس والعشرون بعد الأربَعة مائة وألف من مهاجر محمد –صلى الله عليه وسلم-.

من خصائص هذا الشهر ما بيّنه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من كونِه استحبَّ لنا أن نصومَ اليومَ العاشر من هذا الشهر، أي العاشر من شهر محرّم، وكان هذا اليومُ يومًا معظَّمًا في الجاهلية، كان أهلُ الجاهليّة يصومونه، وهو مما تلقَّوه من أهل الكتاب، وصامه النبيّ معهم بمكّة، فلمّا هاجر إلى المدينة أوجَبَ على الصحابةِ صِيامه وقال: “من أصبَحَ وقد أكل فليتِمَّ صومَه، ومن لم يكن أكَلَ فليمسِك بقيّةَ يومه”.(أخرجه البخاري : 2007).

ثمّ لما افترَض الله على المسلمين صِيامَ شهر رمضان جعَل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- صيامَه سُنّةً، من أحبَّ أن يصومَ فليصم، ومن لا فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ المسلمين مجمِعوه على أنّ الشهرَ الذي يجب صومُه بِابتداءِ الشّرع هو شهر رمضان خاصّة، وما سِوى ذلك فإنما هو من السّنَن والمستحبّات.

أيّها المسلمون، النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لما قدِم المدينة ووجد اليهودَ يصومون ذلك اليوم فسألهم عن سبَب الصيام، فقالوا: إنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومَه، واليوم الذي أغرق فيه فرعونَ وقومه، فصمناه شكرًا لله، فقال لهم محمّد -صلى الله عليه وسلم-: “نحن أولى وأحقُّ بموسى مِنكم”(أخرجه البخاري: 2004).

أجل، إنَّ محمدًا وأمّتَه أولى بموسى وأولى بجميعِ الأنبياء؛ لأنَّ محمّدًا -صلى الله عليه وسلم- وأمّته آمنوا برسالاتِ جميع الأنبياء الذين ابتَعثَهم الله وصدّقوهم وإن كان الاتِّباع والتّأسِي إنما هو بمحمّد -صلى الله عليه وسلم-، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة:285]، والله يقول: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:68]. فمحمّد وأمّتُه أولى النّاس بالأنبياءِ؛ لأنهم صدَّقوهم وآمنوا بصحَّة ما جاؤوا به، وأنهم رسلُ الله حقًّا، أدَّوا الواجبَ الذي عليهم، وبلَّغوا رسالاتِ الله أُمَمَهم.

فمِن هنا صام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا اليوم، وصِيامنا لهذا اليومِ إنما هو اقتداءٌ بنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- وتأسٍّ بنبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، صام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- اليومَ العاشِر مدّةَ بقائه بالمدينةِ، وقال بعد ذلك في آخر العام العاشر: “لئن عِشتُ إلى قابلٍ لأصومَنّ التاسعَ”(أخرجه مسلم: 1134). يعني: مع العاشِرِ، وقال لنا: “صوموا يومًا قبله أو يَومًا بعدَه؛ خالِفوا اليهودَ” (أخرجه أحمد (1/241)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).

فأمَرنا أن نسبِقَ اليومَ العاشر إمّا باليوم التاسع، أو نصومَ اليوم الحادي عشر، فلا بدّ من صيام اليوم العاشر، لكن يستحَبّ لنا إمّا أن نسبِقَه بيوم أو نأتيَ بيومٍ بعده، فإما أن نصومَ مع العاشر التاسعَ، وإما أن نصومَ مع العاشر الحاديَ عشر. ونبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يعظِّم صومَ ذلك اليوم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما علِمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يومًا يستحبّ فضلَه على الأيّام إلا هذا اليوم يعني: يوم عاشوراء (أخرجه البخاري: 2006).

وقال أبو قتادةَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “صيامُ يومِ عاشوراء أحتَسِب على الله أن يكفِّر به السّنةَ” [التي قبله]” (أخرجه مسلم: 1162).

أيّها المسلم، فصم هذا اليومَ احتسابًا ورجاءً للثواب. وهذا اليومُ أعني اليومَ العاشر احتِمال أن يكونَ الجُمعة الآتي يومَ العاشر، أو يكون اليوم التاسع، فمن صام الجمعةَ الآتية والسّبتَ فإنّه بتوفيقٍ من الله صام اليومَ العاشِر أكيدًا، فصام يوم الجمعة وصام اليوم الحادي عشر وهو يومُ السبت، ومن صام الخميسَ والجمعة فقد صام اليومَ العاشر وسبَقَه باليوم التاسِع، المهمّ أن نصومَ هذا اليومَ احتسابًا ورَجاءً للثواب واقتداءً بسنّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وموالاةً لأنبياءِ الله، فموسى عليه السلام صامه شكرًا لله، ونحن نصومه أيضًا شكرًا لله على إنجاء موسى وقومِه وإغراقِ فرعون وقومِه، لكننا تأسَّينا بنبيّنا -صلى الله عليه وسلم- في صيامِه حيث شرع لنا الصيامَ، فصمناه اقتداءً به وتأسّيًا به -صلى الله عليه وسلم-.

أسأل الله أن يباركَ لنا ولكم في الأعمار والأعمال، وأن يجعل أعمالَنا وأعمارنا في خيرٍ وسلامة وعافية، وأن يوفِّقَنا لعملٍ صالح، إنه على كل شيء قدير.

في الحديثِ يقول -صلى الله عليه وسلم-: “إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا استعمله”، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: “يوفِّقه لعملٍ صالح قبل الوفاة” (أخرجه أحمد (3/106، 120، 230)، والترمذي (2142)، وهو في السلسلة الصحيحة (1334).

فيعينه على الخير، ويفتح له أسبابَ الخير، فاسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، واعلم أنَّ ما مضى مِن العمر فلن يعودَ إلى أن توافِيَ الله به يومَ القيامة، كلّ يومٍ كلّ شهرٍ كلّ عامٍ مضى فلن يعودَ، صحائفُ أعمالنا سنَقِف عليها يوم لقاءِ الله، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:46].

واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهَديِ هدي محمَّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.

وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى نبيّكم محمّد -صلى الله عليه وسلم- امتثالا لأمَر ربّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]. اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محَمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الراشدين…