اختلاف الناس سُنَّةٌ كونية وتمايزهم ضرورة بشرية
(وقفة تدبرية مع تناول القرآن لغزوة الحديبية)

كانت غزوة الحديبية حدثًا شديدَ الخطورة، كبير الشأن، عظيم الأثر في تاريخ الأمة الإسلامية، بل وفي تاريخ العالم كله على الحقيقة، بدأ بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى الخروج معه إلى مكة للعمرة، ثم توالت أحداثه، فتخلَّف بعضُ الناس عن الخروج، وسار صلى الله عليه وسلم بمَنْ خرج معه من أصحابه، حتى وصل إلى الحديبية فحدث ما سنوجزه بعد قليل.

وكل مشتغلٍ بفلسفة التاريخ وفَهْمِ عِلَلِهِ ومحركاته يستطيع أن يدرك أن الحديبية تركت آثارًا هائلةً ليس على الأمة الإسلامية فقط، بل على العالم أجمع؛ فإنها كانت حجر الزاوية في البناء المتدرج للدولة الإسلامية، الذي بدأ بالهجرة النبوية إلى المدينة، واكتمل بفتح مكة في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، ولا يخفى ما لدولةِ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من أثر عظيم وتأثير كبير على تاريخ الدنيا كلها وحضارتها، ولِما لهذه الغزوة من أثر بالغ، نزل القرآن يعلق عليها في سورة كاملة هي سورة الفتح[1].

ومما لا شك فيه أن من أهم آثار المحن الكبيرة والأحداث العظيمة التي تعتري الناس – أنها تُظهِرُ معادنهم وتُمايزُ بينهم؛ فعندئذٍ يظهر المؤمن من المنافق، والخبيث من الطيب، والصالح من الطالح، وهذا ما أشار إليه القرآن كثيرًا في حديثه عن محنٍ وابتلاءاتٍ وأيام شديدةٍ وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال جل وعلا في تعليقه مثلًا على يوم أحد، وهو من أشد الأيام على النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [آل عمران: 179]؛ ليميز الخبيث؛ وهو المنافق المستسرُّ للكفر، من الطيب؛ وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان[2].

وفي هذه المقالة سنقف مع هذه القضية التي اهتم بها القرآن في تناوله وتعليقه على يوم الحديبية، مع تبيين أهم دلالتها ودروسها المستفادة، وذلك بعد التعريج على أحداث هذه الغزوة باختصار.

قصة صلح الحديبية:

♦ في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة استنفر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، ومَن حوله من الأعراب؛ ليخرجوا معه للعمرة، فأبطأ عليه كثير من الأعراب.

♦ فخرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومَن لحِقَ به من العرب، وساق معه الهديَ، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرًا لهذا البيت ومعظِّمًا له.

♦ حتى إذا كان بعُسْفانَ لقيَهُ بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العُوذُ المطافيلُ قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظنُّ قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة.

♦ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تجنب لقاء قريش وسلك بأصحابه طريقا وعرًا، حتى وصل إلى قريب من مكة، فلما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم، أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأتِ يريد حربًا، وإنما جاء زائرًا للبيت، ومعظمًا لحرمته.

♦ ثم بعثت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجالًا يسألونه فيما قدم، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنه لم يأتِ يريد حربًا.

♦ ثم إن قريشًا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين رجلًا، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدًا، فأخذوا أخذًا، فأُتيَ بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم.

♦ ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب، وإنه إنما جاء زائرًا لهذا البيت، ومعظمًا لحرمته، فلما بلَّغهم عثمان رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، احتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قُتل، وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم أحدٌ من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وبعد أن تمت البيعة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل.

♦ ثم بعثت قريش سهيلَ بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: ائتِ محمدًا فصالحه، فجرى بينهما الصلح المشهور الذي روت كتب السيرة بنوده وشروطه.

♦ وعندئذٍ نحر صلى الله عليه وسلم هديَهُ وحلق رأسه، ثم انصرف من وجهه ذلك قافلًا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 1، 2][3].

القرآن والحديبية:

كان من دأبِ القرآن أن ينزل ليعالج القضايا الكبيرة، والحوادث العظيمة التي تترك آثارًا، أو تثير تساؤلاتٍ، أو تفتح أبوابًا للقيل والقال؛ سواء بين أفراد المجتمع المسلم، أو بين المسلمين وغيرهم. وكان من بين تلك الحوادث العظيمة صلحُ الحديبية، والذي لفَرْطِ أهميته سماه القرآن فتحًا؛ لأنه كان على الحقيقة مقدمةً وتوطئةً وسببًا مباشرًا ورئيسًا في فتح مكة، كما هو معلوم من قصة الفتح المروية في كتب السير، وكانت الحديبية أيضًا كالمقدمة لغايات عظيمة، أراد تعالى أن تتحقق؛ مثل: أن يغفر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأن يتم عليه نِعَمَهُ، وأن يزيد في هدايته إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، وأن ينصره الله نصرًا عزيزًا، لا يكون معه إلا الهزيمة الساحقة الماحقة للكفار، التي يعجزون معها عن الوقوف مطلقًا أمام جيشه صلى الله عليه وسلم، وهو ما حصل فعلًا بعد سنتين عندما فتح صلى الله عليه وسلم مكة.

ولما كان للحديبية آثارٌ كبيرة، نزل القرآن ليعلق على أحداثها تعليقًا مطولًا في سورة كاملة، الأمر الذي يستوجب منا الوقوف على كيفية هذا التعليق، نتغيَّا بذلك أن تنكشف لنا هدايات القرآن المتعلقة بهذه الغزوة؛ فنسير على ضوئها ونهتدي بهداها.

بدأ القرآن حديثه عن الحديبية بسَوقِ البشرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وبغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم جاوز إلى الثناء على المؤمنين، ليصل بعد ذلك إلى فضح المنافقين والكفار ببعض صفاتهم، ومن البيِّن أن أهم ما وقف معه القرآن، وسلط عليه الضوء في تعليقه على غزوة الحديبية – هو ذكره لبعض صفات المؤمنين والمنافقين والكفار على السواء؛ وذلك ليتمايز الناس فيظهر أهل الحق من أهل الباطل، وأهل الخير من أهل الشر، ومن ثَمَّ يعرف المسلمون مَن معهم ومَن عليهم، فيستبين لهم حينئذٍ سبيل النصر، وتتضح لهم معالم الطريق، وذلك هو ما سنقف معه الآن في وقفتنا مع واحدةٍ من أهم ما أبان عنه القرآن إبَّان تناوله لغزوة الحديبية؛ لِما لهذا التمايز بين الناس من تخلية للصفوف المؤمنة من كل ما يمكن أن يكون سببًا في أن يشوب إيمانها، أو أن يفسد صلاحها، فتستقيم عندئذٍ مستقبلياتها، فلا تنشغل بنفسها، بل تفرغ لأعدائها.

تمايز الناس من أهم أسباب النصر:

إن من أهم أسباب النصر أن يتمايز أفراد المجتمع المسلم، فيُعرف المؤمنون المخلصون منه من المنافقين الذين لا يتوانَون عن بثِّ روح الضعف والخور في نفوس أبنائه، ونشر الفرقة بين أعضائه، فيصبح عندها مجتمعًا متهالكًا، لا يقوى على النهوض لا لبناء حضارته، ولا للوقوف أمام أعدائه.

ولهذا كان من أوجب الواجبات – خاصة في وقت المحن – المفاصلةُ بين الناس، وتبيين المؤمن من المنافق، والصالح من الطالح، والشجاع من الجبان، وذكر كلٍّ منهم بصفاته وأحواله، فيكون المؤمنون على بيِّنَةٍ من أمر المنافقين، ويعرف الشجعانُ الضعفاءَ الخائرين، وهو ما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه حين تولى يوم مؤتة قيادة جيش المسلمين القليل العدد، بعد استشهاد قادته، فكان أول ما قاله: “تمايزوا أيها الناس… لنعلمَ من أين نُؤتى”.

ولهذا كان من أهم ما يفعله القرآن في جملة معالجاته للأحداث الكبيرة الإبانةُ عن دواخل الناس؛ لتظهر مخابئهم وتُعلَم سرائرُهم؛ فيكون ذلك سببًا في معرفتهم جيدًا، ويكون الناس من أمرهم على بينة، فكان من جملة تعليقه على يوم أحد: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا… ﴾ [آل عمران: 166، 167]؛ أي: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأُحُدٍ؛ ليميز أهلُ الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين، فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين[4].

وفي تعليقه على غزوة الحديبية، انتقل القرآن بعد بيان العواقب المترتبة على هذا الفتح إلى تجلية صفات الطوائف الثلاثة التي كان لها حضورٌ في هذه الغزوة: (المؤمنون، المنافقون، الكفار)، فأطال وأبان، فبدأ بالثناء على المؤمنين، الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، ونصروه وبايعوه على الموت أو على الثبات وعدم الفرار، بالإشارة إلى واحدة من أهم صفاتهم وهي:

♦ الإخلاص التام لله تعالى، والذي ظهر في البيعة التي أعطَوها للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت مكافأتهم عندئذٍ أن ملأ الله قلوبهم بالسكينة، التي أدت إلى تحقق اليقين والطمأنينة، ومن الملاحظ أن الله تعالى في سورة الفتح قد أشار إلى تلك السكينة التي ملأت قلوب المؤمنين ثلاث مرات في قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الفتح: 4]، وقوله: ﴿ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وقوله: ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ [الفتح: 26]، وما ذلك إلا تأكيدًا لنزول السكينة عليهم مرة بعد مرة، وفي مواطن الغزوة موطنًا بعد موطنٍ؛ ليكون ذلك سببًا في ثبات قوتهم، ووقارها وطمأنينتها وشعورها بالأمن والرضا، في وقت من أعظم الأوقات قلقًا واضطرابًا ومحنةً وابتلاءً، وكما كان إخلاصهم لله سببًا في نزول السكينة عليهم، كان سببًا أيضًا في وعد الله لهم بغنائمَ كثيرة لم يحسبوا لها حسابًا، ولا خطرت على قلوبهم، وهو ما تحقق لهم فعلًا بعد البيعة بأقل من شهرين فقط، حينما فتحوا خيبرَ وحازوا منها مغانم كبيرة، كانت السبب في إغنائهم حتى شبِعوا بعد جوعٍ؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: “لما فُتحت خيبر، قلنا: الآن نشبع من التمر”[5]؛ ما يدل دلالة واضحة أنهم كانوا قبلها في قلةٍ من الطعام، وشَظَفٍ من العيش.

ولما وقف القرآن مع أهم صفات المؤمنين الذين حضروا غزوة الحديبية، وقف مع أهم صفات المنافقين من الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج إليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي على رأسها:

♦ الكذب؛ فهم في يوم الحديبية كذبوا مرتين؛ الأولى: عندما اعتذروا للنبي صلى الله عليه وسلم عن عدم الخروج معه للجهاد بما ليس له حقيقةٌ على أرض الواقع، مثل أنهم خافوا على أموالهم الضيعة وعلى أهليهم الهلاك، والثانية: كانت بعد عودة المسلمين إلى المدينة حينما طلبوا كذبًا ورياءً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن من عادتهم ومن قبيح صفاتهم أنهم يكذبون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم،وقد قيل: “عذر المماذق وتوبة المنافق كلاهما ليس حقائق”[6]، ولما علم الله كذبهم، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوضح لهؤلاء الأعراب أنه حتى وإن فعل واستغفر لهم صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لن يقدم أو يأخر إذا أراد الله لهم الهلاك، فلا أحدَ يستطيع أن يردَّ ما أراد الله، ولا أن يغالبه تعالى في الأمر؛ كما قال الشاعر في قريشٍ لما تجبرت:

زعمت سخينةُ أن ستغلب ربها *** وليُغلَبَنَّ مغالبُ الغلابِ

♦ سوء الظن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم الذي أدى إلى بوار قلوبهم من كل خيرٍ، فهم عديمو النفع والفائدة في الدنيا والدين؛ ﴿ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 12]، وقد قال مجاهد رحمه الله: “بورًا؛ أي: هالكين”[7]، ولقد نشأ ذلك الظن السوء بالله في قلوبهم؛ لأنها بورٌ من كل حياة؛ بورٌ من الإيمان والإحسان والاتصال بالله، وبورٌ من العقل المانع من فعل الطَّوامِ، فهي كالأرض الميتة الجرداء التي لا يمكن أن يكون بها زرع ولا ماء.

♦ حب الدنيا والانشغال بها والإقبال عليها، فهؤلاء الأعراب الذين نافقوا ما تخلفوا عن الخروج إلى الحديبية إلا لأنها لم يكن لها غنائم – في اعتقادهم – فلما وقعت خيبر بعدها بقليل، هرولوا إليها وحرصوا عليها؛ ظنًّا منهم أنه سيعود منها مغانم كثيرة، فكان ذلك هو السبب في رغبتهم للخروج إليها وللمشاركة فيها مع المسلمين، ولكن ذلك كان مستحيلًا، فإن الله قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بمنعهم من المشاركة في فتح خيبر: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الفتح: 15]، وإنما منع الله تعالى خروجهم مع المسلمين إلى خيبر بعد أقل من شهرين من الحديبية؛ لأن الله وعد أهل الحديبية مغانم كثيرة يُحصِّلونها عن قريب في خيبر نظيرَ إخلاصهم في الحديبية؛ قال مجاهد رحمه الله: “رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، فوعده الله مغانم كثيرة فعُجِّلَتْ له خيبر، فأراد المتخلفون أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا من المغانم، فيغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية”[8].

وبعد أن بيَّن القرآن أهم صفات المنافقين، انتقل إلى تجلية بعض صفات الكفار التي لا تنفك عنهم في كل زمان ومكان؛ مثل:

♦ الجبن والخَورُ المؤدي إلى الانهزام، فهم في ضعفٍ مهما بلغت قوتهم؛ وذلك لخلوِّ قلوبهم من الإيمان بالله المفضي إلى اليقين بالنصر، وذلك على العكس من المؤمنين الصادقين الذين لا يستقوون إلا بالله تعالى، ولا يطلبون النصر إلا منه، فيعدُّون عُدَّتَهم ثم يقاتلون عندئذٍ، وهم على قناعة تامة بسنة الله التي لا تتبدل ولا تتخلف في أنه ينصر أولياءه ويقهر أعدائه: ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 22، 23]، وإلى وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر أشار القرآن في غير موضع؛ مثل قوله: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وليس معنى ذلك أنهم لا ينهزمون أبدًا في كل موطن، بل قد ينهزموا في بعض المواطن؛ فالحرب سِجالٌ والأيام دولٌ، وقد تنزل بهم الهزيمة لبعض الأسباب كما حدث يوم أحد، وإنما المعنى أن الله ينصرهمإن كانت نيتهم أن ينصروا دينه ويدافعوا عن شرعه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، فالقاعدة إذًا أنهم إن نصروه نصرهم، وإن خذلوه خذلهم.

♦ الصد عن سبيل الله في كل موطن، وبكل ما أوتوا من قوة، فمن أهم صفات الكافرين أنهم يصرفون الناس عن الإيمان بالله وعبادته، ويفتنون من اعتنق الدين من المؤمنين، وفي سبيل تلك الغاية يستخدمون كل الوسائل والطرق الممكنة كالكلام؛ كما في قوله تعالى:﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وهم لا يتكلمون فقط، بل يؤكدون كلامهم بالحلف بالله كذبًا وبهتانًا: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [المجادلة: 16]، ومن وسائلهم أيضًا في الصد عن سبيل الله إنفاق الأموال؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 36]، وكذلك بذلهم الأنفس وهو ظاهر جدًّا في السيرة النبوية والتاريخ، حتى إنهم فعلوا في إطار صدهم عن سبيل الله ما هو مستهجنٌ في الجاهلية قبل الإسلام؛ مثل صدهم المسلمين عن البيت الحرام، ومنع الهدي أن يصل إلى محله يوم الحديبية.

إن الاختلاف بين الناس سنة كونية، وإن التمايز بينهم ضرورة بشرية، ولا يخلو زمان أو مكان من مؤمنين ومنافقين وكفار، والقبول بهذا التباين والاختلاف والتنوع إنما هو على الحقيقة من المُسلَّمات التي لا تقبل النقاش أو الجدال، ولكن الكشف عن الهوية والبواطن والنزعات الداخلية من أوجب الواجبات؛ لأنه مما يصون بَيْضَةَ الدين، ويحقق الأمن للمجتمع المسلم، الذي قد تصيبه مصائبُ كبيرة ودواهٍ عظمى على أيدي من يُحسب أنهم منه، وهم في الحقيقة من ألدِّ الأعداء؛ ولهذا فضح الله المنافقين بكثير من صفاتهم الرديئة في سورة التوبة، وذكر بعضًا من صفات المنافين والكفار في السورة التي نحن بصددها الآن (الفتح)؛ ليأخذ المسلمون الحيطةَ منهم، فلا ينخدعون بهم، ولا يسمعون لِما يبثونه من أراجيفَ يهدفون بها إلى زعزعة الإيمان في قلوبهم، وإلى صدهم عن دينهم، فإنهم يودُّون أن يفنى المسلمون، أو على الأقل أن يرتدوا عن دينهم: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217]، كما أن معرفة صفات المنافقين والكفار ضرورة للحذر من الوقوع في صفاتهم أو التشبه بهم؛ ولهذا كان تعليق القرآن على صلح الحديبية منصبًّا في أكثره على إظهار صفات من حضر الغزوة من المؤمنين والمنافقين والكفار؛ ليرشد الأمة إلى أهمية معرفة الأعداء بصفاتهم، فيحذرونهم ويعرفون ألاعيبهم ومكرهم، فما أحوجنا إلى تتبع هدى القرآن الكريم في كل قضية! فإن هذا هو سبيل الرشاد، وطريق الفلاح والنجاح.

هذا، ومن أهم ما يؤخذ من غزوة الحديبية من أحكام:
أنه يجوز محالفة المؤمنين للكفار ما دام في ذلك فائدة حاصلة للمؤمنين، ويدل عليه ما ذكره الطبري رحمه الله: « أن خزاعة كانت – مسلمهم ومشركهم – عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئًا كان بها »[9].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

♦ كلمات مفتاحية:

الفتح، السكينة، البيعة، الصلح، المؤمنين، المنافقين، الكفار.

——————————————————————————–

[1] عن يوم الحديبية قال البراء بن عازب: “تعدون أنتم الفتح فتحَ مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية”، وقال جابر بن عبدالله: “ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية”؛ [انظر: الحكمي، حافظ بن محمد، مرويات غزوة الحديبية جمع وتخريج ودراسة، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1406ه، ص: 41، 267].

وقال الزهري: “فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر”؛ [انظر: ابن هشام، عبدالملك، السيرة النبوية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1375هـ – 1955م، ج: 2، من ص: 322].

[2] الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ – 2000م، ج: 7 ، ص: 424.

[3] لمعرفة أحداث الغزوة بالتفصيل يراجع كتاب السيرة النبوية لابن هشام، مرجع سابق، ج: 2، من ص: 308 إلى ص: 322.

[4] الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري، دار هجر، الطبعة: الأولى، 1422هـ – 2001م، م: 6، ص: 220.

[5] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ، حديث رقم: 4242.

[6] القشيري، عبدالكريم بن هوازن، لطائف الإشارات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، الطبعة الثالثة، ج: 3، ص: 423، والمماذق هو غير المخلص.

[7] مجاهد بن جبر، أبو الحجاج، تفسير مجاهد، مصر، دار الفكر الإسلامي الحديثة، الطبعة: الأولى، 1410هـ – 1989م، ص: 608.

[8] ابن أبي طالب، مكي، الهداية إلى بلوغ النهاية، مجموعة بحوث الكتاب والسنة، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة، الطبعة: الأولى، 1429هـ – 2008م، ج: 11، ص: 6949.

[9] ابن هشام، السيرة النبوية، مرجع سابق، ج: 2، ص: 102.