إيذاء اليهود للمسيح ودعوتِه
“الدور الذي قام به بولس”

“حيث كان أفراد طائفة يَسوع من الحواريِّين يقومون بالدعوة بعد عيسى – عليه السلام – ويقومون بمعجزات الشفاء من الأمراض، ويُدلون بالنبوءات، ويَرون الرُّؤى، فاجتذبت الطائفة عددًا من المؤمنين يَبعث على الدهشة، ثم اعترف المَجلس بها آخِرَ الأمر باعتبارها حركة يهودية أصيلة، بناء على طلب أحد البارزين من الفريسيين، واسمه “غما لائيل”؛ “أعمال الرسل” (5: 34) بتصرُّف، والمؤكد أن تلاميذ يسوع لم يكونوا يعتقدون أنهم قد أسَّسوا دينًا جديدًا، بل واصلوا حياتهم باعتبارهم يهودًا يُقيمون الشعائر كاملة غير منقوصة، وكانوا يتردَّدون على المعبد معًا كل يوم للصلاة، وأطلقوا على أنفسهم اسم “الفقراء” مثلما فعلت طائفة “قمران”، فتنازلوا عن ممتلكاتهم وعاشوا حياة جماعية، يتوكَّلون فيها – في رِزق الكفاف – على الربِّ، مثل طيور الجوِّ وزنابق الحقل، وكان ورَعهم ذا جاذبية شديدة، وكان يَحظى بإعجاب الكثيرين من زملائهم اليهود، كانوا يؤمنون بأن يسوع لا بدَّ أن يرجع عما قريب بمجد السماء، وعندها سيتَّضح للجميع أن مملكة الله قد جاءت آخِرَ الأمر.

وقد أطلق على أتباع يَسوع في أنطاكية اسم “المسيحيِّين” لأول مرة بسبب تأكيدهم أن يسوع هو المسيح؛ أي الذي مُسِح عليه بالزيت المقدَّس، أو “المسيا”، والتحق بالمسيحيِّين في أنطاكية – في نحو عام 40 م يهوديٌّ مِن يهود الشتات، كان أول الأمر يُبدي التعصب في مُعارَضة الحركة المسيحية، ولكنه اعتنق الدين الجديد على أثر رؤيا قاهرة ليسوع – كما أخبَر أو زعم – رآها أثناء سفره إلى دمشق لمواصلة اضطهاده للكنيسة هناك، ألا وهو “بولس الطوسوسي” الذي سرعان ما أصبح أحد القادة المسيحيِّين لأنطاكية.

كان مفهومُه للمسيحية يختلف اختلافًا كاملاً عن مفهوم “أعمدة أورشليم”.

وعلى ندرة المعلومات المتوافرة عن بواكير حياة “بولس”، فيبدو أنه كان كأنَّما يبحث عن شيء جديد، كان قد درَس التوراة على أيدي “غما لائيل”، والتحَقَ بالطائفة الفريسية – أشهر فرق اليهود – الذين انعزلوا عن الشعب، واتخذوا معالم خاصة لسلوكهم، يؤمنون بقُدسية التوراة، ويضيفون إليها مُكوِّنات التلمود من روايات شفوية ووصايا وتفاسير، ويُسمُّون أنفسهم الأحبار أو الربانيِّين، عاصروا المسيح وعارضوه في كثير من مبادئ دعوته، وأبرزها قضية فصل الدين عن السياسة التي صرَّح بها المسيح، استهوتْهم الدنيا فأقبلوا على الشهوات واستنزاف أموال الناس، فاختلَّت منزلتهم، وتخلى عنهم كثير من أتباعهم، سَمَّاهم المسيح المرائين، ويقولون بالمحافظة على الشريعة مع التقاليد اليهودية المُتوارَثة مِن قِبَل الأُسَر، يؤمنون بالمسيح المخلِّص، والبعث، وقيامة الأموات واليوم الآخِر.

وقال الشيخ عبدالوهاب النجار: كان بين اليهود قوم يُقال لهم: “الفريسيون”، وحقيقة هذا الاسم أنهم قوم تجرَّدوا لطاعة الله – تعالى – وملك عليهم حبُّه مشاعرهم، فتفرَّغوا للعبادة وانقطعوا عن العباد، وزهدوا في حطام الدنيا الفانية، وأقبلوا بكُلِّيتهم على الآخرة، ولكنهم من قبل زمن المسيح – عليه السلام – قد انحرفوا عن سنن أسلافهم، وألهتْهم الحياة الدنيا بزبرجدِها وزخرفها، وأقبلوا على الشهوات يَستسرُّون بها، وهم في عملهم يُراؤون الناس؛ استدراجًا لهم ليوقعوهم في مخالبهم، ويَبتزُّوا أموالهم، فكان ظهورهم بمظهر الزهد شَرَكًا نصبوه لصيد الدرهم والدينار.

وكان هناك الكتَبة، ومن وظائفهم الوعظ وكتابة الشريعة لمَن يَطلُبها، وكانوا في شؤونهم يُشبهون الفريسيين في تصيُّد أموال الناس، وكان هناك الكهنة وخدَمة الهيكل، وكانوا قد صاروا إلى حال رديئة، ويُحرِّفون كلام الله، ويتهالكون على الحطام الفاني”.

وفي قاموس الكتاب المقدس: وقيل بمعنى أنه صار ذا رأي وعلم بالأمور، فهو فارس؛ أي: عالم بالأمر، وهم فوارس، فريسي، فريسيون، الكلمة من الآرامية ومعناها (المنعزل)، وهي إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث، التي كانت تُناهِض الفئتين الأخريين، فئتي الصدوقيين والآسينيين، وكانت أضيقها رأيًا وتعليمًا.

ويُرجَّح أن يكون الفريسيون خلفاء الحسيديين المُتظاهِرين بالتقوى “القديسيين” المذكورين في “المكابيين”، والذين اشتركوا في الثورة المكابية ضد أنطيوخوس إبيفانيس.

وقد ظهر الفريسيون باسمهم الخاص في عهد يوحنا هركانوس، وكان من تلامذتهم، فتركهم والتحق بالصدوقيين، وسعى ابنه “إسكندرينايوس” من بعده إلى إبادتهم، غير أن زوجته “ألكساندرة” التي خلفته على العرش سنة (78 ق.م) رعتهم؛ فقوِي نفوذُهم على حياة اليهود الدينية، وأصبحوا قادتهم في الأمور الدينية.

أما من حيث العقيدة فكانوا يقولون بالقدر، ويجمعون بينه وبين إرادة الإنسان الحرة، وكانوا يؤمنون بخلود النفس، وقيامة الجسد، ووجود الأرواح، ومكافأة الإنسان ومعاقبته في الآخرة بحسب صلاح حياته الأرضية أو فسادها، غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الناموس، فجاءت ديانتهم ظاهرية، وليست قلبية داخلية، وقالوا بوجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف عن السلف، وزعموا أنه مُعادل لشريعته المكتوبة سلطةً، أو أهمُّ منها، فجاء تصريح المسيح بأن الإنسان ليس مُلزَمًا بهذا التقليد.

وكان الفريسيون في أول عهدهم مِن أنبل الناس خلُقًا وأنقاهم دينًا، وقد لاقوا أشد الاضطهاد، غير أنه على مرِّ الزمن دخل حزبهم مَن كانت أخلاقهم دون ذلك، ففسد جهازهم، واشتهر معظمهم بالرياء والعجْب، فتعرضوا عن استحقاق للانتقاد اللاذع والتوبيخ القاسي “فيوحنا المعمدان” دعاهم والصدوقيين “أولاد الأفاعي”، كما وبَّخهم “السيد المسيح” بشدة على ريائهم وادِّعائهم البرَّ كذبًا، وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث بجوهر الناموس، وكانت لهم يدٌ بارزة في المؤامرة على حياة المسيح.

ومع هذا فكان في صفوفهم دومًا أفراد مُخلِصون، أخلاقهم سامية، منهم “بولس” في حياته الأولى، ومعلمه “غما لائيل”؛ انظر في هذا: اليهودية، د: أحمد شلبي، (ص: 226 – 233)، والفكر الديني اليهودي، د: حسن ظاظا، (ص: 210 – 213)، وقصص الأنبياء؛ للشيخ عبدالوهاب النجار، (ص: 469)، وقاموس الكتاب المقدس، (ص: 674، 675)، ولكنه كان يُحسُّ أن التوراة تمثِّل عبئًا مُدمِّرًا لحريته الشخصية، وأنها عجزت عن توفير الخلاص له أو السلام أو التوحيد مع الله.

بل أصبح بولس يعتقد – بعد الرؤيا التي رآها في طريقه إلى دمشق – أن يسوع قد حلَّ محل التوراة؛ باعتباره التجلي الأول لله في العالم؛ إذ كانت وفاة يسوع وبعثه يمثلان فاتحة مرحلة جديدة في تاريخ الخلاص؛ إذ أصبح من الممكن الآن لليهودي وغير اليهودي الدخول على حدٍّ سواء في إسرائيل الجديدة عن طريق طقوس التعميد التأهيلية، والتي تستطيع إدماج كلٍّ منهما على حدٍّ سواء على المستوى الروحي في المسيح، ولم تكن ثمة حاجة بالمسيحيِّين إلى مراعاة قوانين الطعام، أو إلى الانفصال عن الأمم الأخرى، أو إلى ممارسة الختان؛ لأن هذه جميعًا كانت من سمات العهد القديم الذي تجاوَزَه الزمن، بعد أن أصبح كلُّ مَن يعيش “في المسيح” من أبناء الرب وأطفال إبراهيم مهما تكنْ أصولهم العِرقية.

كانت إعادة تفسير بولس لسنن الدين تتضمَّن تنقيحًا مُذهلاً، وقد تقبَّلها الناس في الشتات، ليس بسبب إمكان إثبات صحَّتها عقلانيًّا، وليس لأنَّها كانت تتَّسق مع الحقائق التاريخية عن حياة يسوع وموته، ولكن جاذبية نظرة “بولس” إلى “يسوع” كانت ترجع إلى تناغمها تناغمًا عميقًا مع التطورات الدينية الأخرى في العالم اليوناني الروماني في تلك الفترة.

ورأينا أيضًا أن هذا الاتجاه كان قد بدأ ظهوره في اليهودية الفلسطينية، فكان الفريسيون وطائفة قمران يَعتبرون أن رابطتهم الدينيَّة بمثابة معبَد جديد، وكان المسيحيُّون آنذاك قد بدؤوا الانتقال من مرحلة المعبد إلى الرجل المقدَّس، وحلَّت محل طقوس الحج والتطهير القديمة طقوس مسيحية جديدة، تتمثَّل في اعتناق الدين ومراسم الدخول فيه، والتوحُّد مع يسوع الإنسان، الذي اكتسب منزلة مُقدَّسة عندما رفعه الله مِن الموتى.

وهكذا يتجه “بولس” إلى تعليم المسيحيِّين أن يسوع هو مركز الخلاص، وأنه سوف يُخلِّصهم لا مِن العماء الأولي، بل مِن قوى الخطيئة والموت وهي القوى الشيطانية؛ “القدس مدينة واحدة، عقائد ثلاث”؛ تأليف كارين أرمستزونج، (ص: 246 – 250) بتصرف.

فمَن بولس؟ إنه صاحب 14 رسالة مِن رسائل الرسل التي هي (22رسالة).

ولد بولس في طرسوس، وتربَّى في أورشليم، واسمه الأصلي “شاؤل”، واختلف في أمر جنسيته، هل هو من الفريسيين الذين يقولون: “إن هناك قيامة يشاركون فيها ملك المسيح في الدنيا”، أم لا؟ وهل هو من الرومان؟ أم من اليهود؟ وإن كنا نرجِّح أنه من الفريسيين اليهود؛ لقوله عن نفسه: “أنا يهودي فريسي ابن فريسي، على رجاء قيامة الأموات”؛ أعمال الرسل، (إصحاح 6: 23)، وأن ادعاءه الرومانية كان حيلة لينجو بجلده، وقد تمَّ له ما أراد، كما ذكر ذلك في سفر أعمال الرسل، في آخِر الإصحاح الثاني والعشرين.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/69253/#ixzz61iX49p5o