إنَّ الله وملائكته يُصَلُّون على النبي

د. محمود بن أحمد الدوسري
د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وبعد:

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦].

وجه الدلالة: دلت الآية الكريمة على كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعة درجته، وعلو منزلته عند الله تعالى، وخلقِه، ورفع ذِكره؛ لأنَّ الله تعالى أثنى عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى؛ لمحبَّته وعظيم منزلته عنده، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه.

وسياق الآية الكريمة يدل على أنَّ هذه الصلاة مستمرة ومتجددة؛ حيث أتى بصيغة الفعل المضارع في قوله تعالى: ﴿ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾، والتي تفيد التجدد والاستمرار. والإجماعُ مُنعقدٌ على أنَّ في هذه الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه به ما ليس في غيرها[1].

معنى صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم:

اختلف العلماء في معنى (صلاة الله وملائكته على النبي) إلى عدة أقوال، والراجح منها قولان:

القول الأول: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء[2]، ورجحه ابن القيم، والسخاوي، وابن حجر، وغيرهم[3].

قال أبو الْعَالِيَةِ: (صلاَةُ اللَّهِ: ثَنَاؤُهُ عليه عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ، وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ: الدُّعَاءُ)[4].

قال ابن حجر – رحمه الله: (وأَولى الأقوال: ما تقدَّم عن أبي العالية أنَّ معنى صلاة الله على نبيه: ثناؤه عليه، وتعظيمه. وصلاة الملائكة وغيرهم عليه: طلب ذلك له من الله تعالى، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة)[5].

القول الثاني: الصلاة بمعنى: البركة، واختاره الطبري.

قال ابن عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما -: (يُصَلُّونَ: يُبَرِّكُونَ)[6].

وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ﴾ يقول: يباركون على النبي)[7].

قال ابن حجر – رحمه الله -: (أي يدعون له بالبركة. فيوافق قولَ أبي العالية، لكنه أخصُّ منه)[8].

وقال ابن القيم – رحمه الله -: (وهذا لا ينافي تفسيرها بالثناءِ، وإرادةِ التكريمِ والتعظيم؛ فإنَّ التَّبريك من الله يتضمَّن ذلك، ولهذا قُرِنَ بين الصلاة عليه والتبريك عليه)[9]. أي: في الصلاة الإبراهيمية.

صَلَّى الإلهُ بعظْمِه وجلالِه ثم الملائكةُ الكرامُ على النَّبِي فهو الحبيبُ لربِّنا ربِّ العُلا وهو الدليلُ لجنَّةِ لا تختبِي[10]

صلاة المؤمنين:

والصلاة من الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم فيها تشريفٌ وزيادةُ تكريمٍ، والصلاة من الله تعالى على مَنْ دون النبيِّ فيها رحمةٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ﴾ [الأحزاب: ٤٣]، وبذلك يظهر الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين، ولا شكَّ أنَّ القدر الذي يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أرفع مما يليق بغيره[11].

صلاة المؤمنين وسلامهم على النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى آمراً المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ المراد بقوله: ﴿ صَلُّوا عَلَيْهِ ﴾: أي: (ادعوا ربَّكم بالصلاة عليه)[12].

و(معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: تعظيمه، فمعنى قولنا: (اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمدٍ) عَظِّمْ محمداً. والمراد: تعظيمه في الدنيا؛ بإعلاء ذِكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته. وفي الآخرة؛ بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أُمَّته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود) [13].

وقوله: ﴿ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾: أي: (حيوه بتحية الإسلام)[14].

من ثمرات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

و(في الصلاة على سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم عشر كرامات: إحداهن: صلاة المَلِك الجبار، والثانية: شفاعة النبي المختار، والثالثة: الاقتداء بالملائكة الأبرار، والرابعة: مخالفة المنافقين والكفار، والخامسة: محو الخطايا والأوزار، والسادسة: قضاء الحوائج والأوطار، والسابعة: تنوير الظواهر والأسرار، والثامنة: النجاة من عذاب دار البوار، والتاسعة: دخول دار الراحة والقرار، والعاشرة: سلام المَلِك الغفار)[15].

صيغة صلاة المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم:

صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة، وأفضلها ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام – رضي الله عنهم -، ومن ذلك:

1- ما جاء عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ – رضي الله عنه – قال: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فإنَّ اللَّهَ قد عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ، قال: (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيمَ، وَعَلَى آلِ إبراهيم، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ على إبراهيمَ، وَعَلَى آلِ إبراهيم، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[16].

2- وما جاء عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – قال: قُلْنَا يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا السَّلاَمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عليك؟ قال: (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيمَ، وَآلِ إبراهيم)[17].

(مسألة وجوابها):

قد يقول قائل: نبينا الكريم محمدٌ صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء على الإطلاق، فكيف يُطلب منه أن يبلغ رتبة إبراهيم عليه السلام؟

الجواب: قال النووي – رحمه الله -: (واختلف العلماءُ في الحكمة في قوله: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ) مع أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلُ من إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي عياض – رحمه الله – أظهر الأقوال: أنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم سأل ذلك لنفسِه ولأهلِ بيتِه؛ لِيُتِمَّ النَّعمةَ عليهم كما أتَّمها على إبراهيمَ وعلى آلِه. وقيل: بل سأل ذلك لأُمَّتِه. وقيل: بل ليبقى ذلك له دائماً إلى يوم القيامة، ويجعل له به لِسانَ صدقٍ في الآخِرين كإبراهيم صلى الله عليه وسلم. وقيل: كان ذلك قبل أنْ يعلم أنه أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وقيل: سأل صلاةً يتَّخذه بها خليلاً كما اتخذ إبراهيم، هذا كلام القاضي.

والمختار في ذلك أحد ثلاثة أقوال:

أحدها: حكاه بعضُ أصحابنا عن الشافعي – رحمه الله، أنَّ معناه: “صَلِّ عَلَى مُحمدٍ”، وتَمَّ الكلامُ هنا، ثم استُأنِفَ، “وعَلَى آلِ محمدٍ”، أي: وصَلِّ على آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيم، فالمسئولُ له مِثلُ إبراهيمَ وآلِه هم آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا نَفْسُه.

القول الثاني: معناه: اجعلْ لمحمدٍ وآلِه صلاةً منك، كما جعلتَها لإبراهيمَ وآلِه، فالمسؤول المشاركةُ في أصلِ الصلاة، لا قدرِها.

القول الثالث: أنه على ظاهره، والمراد: اجعلْ لمحمدٍ وآلِه صلاةً بمقدار الصلاةِ التي لإبراهيمَ وآلِه، والمسؤول مقابلة الجملة، فإنَّ المختارَ في الآل: أنهم جميع الأتباع، ويدخل في آلِ إبراهيم خلائقُ لا يُحصَون من الأنبياء، ولا يدخل في آلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، فطَلَبَ إلحاقَ هذه الجملةِ التي فيها نبيٌّ واحد، بتلك الجملة التي فيها خلائقُ من الأنبياء، والله أعلم)[18].

فائدة صلاة المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم:

ولعلَّ سائلاً يسأل: إذا صلَّى اللهُ تعالى وملائكتُه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأيُّ حاجةٍ إلى صلاة المؤمنين عليه؟

الجواب: صلاة المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم ليس لحاجته إليهم، وإلاَّ فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاةِ اللهِ عليه، وإنما المقصود هو إظهار تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ الله تعالى أوجب على المؤمنين ذِكرَه سبحانه ولا حاجة له إلى هذا الذِّكر، والفائدة من صلاة المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم هي إظهار تعظيمه، شفقةً عليهم ليثيبهم على ذلك، ولذلك رتبَّ الله تعالى الأجور العظيمة على مَنْ صلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عليه عَشْرًا)[19]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ كَتَبَ اللهُ عز وجل لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ)[20].

والله تعالى أمر المؤمنين بالصلاة والسلام على رسوله الكريم؛ اقتداءً بالله تعالى وملائكته الكرام، وجزاءً له صلى الله عليه وسلم على بعض حقوقه عليهم، وتكميلاً لإيمانهم، وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ومحبةً وإكراماً، وزيادةً في حسناتهم، وتكفيراً عن سيئاتهم[21].

والخلاصة: (أنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر عبادَه بمنزلةِ عبدِه ونبيِّه عنده في الملأ الأعلى؛ بأنه يُثني عليه عند الملائكة المقربين، وأنَّ الملائكة تُصلِّي عليه، ثم أَمَرَ تعالى أهلَ العالَم السُّفلي بالصلاةِ والتَّسليم عليه؛ لِيَجْمَعَ الثناءَ عليه من أهلِ العالَمَين العُلوي والسُّفلي جميعاً)[22].

اللهُ فضَّل خيرَ الخَلْقِ بالكَرَم وأفْضَل الناسِ من عَرَبٍ ومن عَجَمِ هو النبيُّ الذي فاقَتْ فضائِلُه وخَصَّه اللهُ بالتَّنزيلِ والحِكَمِ اخْتَصَّه بكتابٍ بيِّنٍ عَلَمٍ هدى العِباد به مِنْ غُمَّةِ الظُّلَمِ اللهُ فضَّلَه، اللهُ أكْرَمَه اللهُ أرسله مِنْ جُملة الأُمَمِ[23]

——————————————————————————–

[1] انظر: فتح الباري، (11/ 156).

[2] انظر: تفسير مجاهد، (2/ 520)؛ تفسير الماوردي، (4/ 43).

[3] انظر: جلاء الأفهام، (ص168)؛ القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، للسخاوي (ص13).

[4] أورده البخاري، معلقاً، (4/ 1802)، وأسنده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (ت:282هـ) في كتابه (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)، (ص82)، (رقم95) من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية. وصححه الألباني في تحقيقه على كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)، (ص79)، (رقم95).

[5] فتح الباري، (11/ 156).

[6] أورده البخاري، معلقاً، (4/ 1802)، ووصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. انظر: تغليق التعليق على صحيح البخاري، لابن حجر (4/ 286).

[7] رواه الطبري في (تفسيره)، (22/ 43).

[8] فتح الباري، (8/ 533).

[9] جلاء الأفهام، (ص168).

[10] بستان الواعظين ورياض السامعين، (ص289).

[11] انظر: فتح الباري، (11/ 156)؛ منهج القرآن الكريم في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتكريمه، (ص335-337).

[12] فتح الباري، (11/ 156).

[13] فتح الباري، (11/ 156).

[14] تفسير البغوي، (3/ 542).

[15] بستان الواعظين ورياض السامعين، عبد الرحمن بن أبي الحسن البغدادي (ت:597هـ) (ص297).

[16] رواه البخاري، (3/ 1233)، (ح3190).

[17] رواه البخاري، (5/ 2339)، (ح4845).

[18] شرح النووي على صحيح مسلم، (4/ 125، 126).

[19] رواه مسلم، (1/ 306)، (ح408).

[20] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 262)، (ح7551)؛ والنسائي في (الكبرى)، (6/ 21)، (ح9889)؛ وابن حبان في (صحيحه)، (3/ 195)، (ح913). وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة)، (7/ 1080)، (3359).

[21] انظر: تفسير السعدي، (1/ 671).

[22] تفسير ابن كثير، (3/ 508).

[23] بستان الواعظين ورياض السامعين، (ص293).