لم يكن الشاعر حافظ إبراهيم مُبالغًا عندما قَصَرَ نهضة الأمم وازدهارها وقوَّتَها على الأخلاق ومنظومة القِيَم، التي ترتكز عليها الأمَّة في بنائها الإنسانَ الوطني، الذي هو عمادُ كلِّ نهضة وتقدُّمٍ وعافية للأمة، يقول شاعر النيل:

وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

• إنَّ الاهتمام بالأخلاق وفق المنظومة القيميَّة والعقَدِيَّة التي تؤمن بها الأمة والتوافق المُجْتمعي عليها هو نقطة الارتكاز لعافية الأمَّة في كلِّ المجالات الحيويَّة؛ سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وافتقاد الأخلاق وانحطاطها مؤشِّر انهيار الأمة الذي لا شكَّ فيه؛ لأنَّ محصِّلة افتقاد الأخلاق الكريمة؛ مِن صدقٍ في المعاملة، وإتقانٍ في العمل، واحترامٍ للنظام، وأمانةٍ في الأداء، والاستثمار الأمثل للوقت، واحترام الإنسان، والتأكيد على حقوقه في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، وتعهُّده بالتربية منذ طفولته الأولى، وتثقيفه وتربيته على مكارم الأخلاق، وطلب المعالي، والهمة العالية، وتعهُّدِه بالتوجيه السديد، والإعلام الرشيد…

أقول: إن مُحصلة افتقاد تلك القيم يؤدِّي حتمًا إلى شيوع الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، الأمر الذي يترتَّب عليه انتشار الظُّلم والفساد، والانحطاط الأخلاقي، وافتقاد قِيَم الرحمة والتسامح، وشيوع الغشِّ في المعاملات، والقسوة في التعامل مع الضعيف، وقَصْر تطبيق القانون على المستضعَفين، واستثناء ذَوِي الجاه والنُّفوذ والسلطان، فيتحقق بذلك الهلاك المؤكَّد؛ بافتقاد تلك المنظومة من الأخلاق الكريمة.

وقد نبَّه إلى ذلك نبِيُّ الرحمة والإنسانية الكاملة، سيدنا محمَّدُ بن عبد الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – عندما قال: ((إنَّما أَهلك مَن كان قبلكم أنَّه كان إذا سرق فيهم الشَّريف ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، فوالذي نفسي بيده لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقَت، لقطع محمدٌ يدَها))، وأكَّد الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – على ضرورة ارتكاز بناء الإنسان ونهضة الأمم على مَكارم الأخلاق والحُرِّية الإنسانيَّة، بل لفتنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى أنَّ مكارم الأخلاق وبناء الإنسان هي رسالة الأنبياء والرُّسل – عليهم صلوات الله وسلامه – عندما قال: ((إنَّما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)) وعندما مدحه ربُّه وأثنى عليه، قال في حقِّه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

• إنَّ الاهتمام بالبناء الأخلاقيِّ للإنسان وحُسْن تربيته، والاعتناء بتوجيهه وتثقيفه وتوعيته على مدى سني عُمره – يَكْفل للمجتمع والأمة تماسُكَ نسيجها، وتكافل أبنائها، وشيوع قيم الرَّحمة والمحبَّة والتسامح والتوادِّ بين أفراد المجتمع، ومِن ثَمَّ تنهض الأمة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وتتبوَّأ مكانها تحت الشمس، ومكانتها بين الأمم القائدة المنتصرة والفاعلة في المجتمع الإنساني.

• إن التمسُّك بمكارم الأخلاق هو الركيزة التي نهضت بها أمةٌ من صحراء مكَّة وربوع المدينة عندما تعهَّدَها الله بخاتم رسالاته للإنسان، وأكمل شرائعه للحياة السَّعيدة، وأشرف وحي السَّماء إلى الأرض بقيادة نبويَّة ربَّانية عبقرية فذَّة، بهرَت العالَم والإنسانية في عبقريَّة تربية الأجيال، واكتشاف طاقاتهم الإيجابيَّة، وتوجيه نبوغهم وتفرُّدهم في المجالات التي برعوا وأبدعوا فيها.

فانطلق أتباع النبي الخاتَم، وسيِّد ولد آدم، وأشرف المرسلين إلى أرجاء الأرض، فتهاوَتْ أركان الحكومات الإمبراطوريَّة الطاغية المستبِدَّة الفاسدة، والتي نشرت الظُّلم والمفاسد الأخلاقيَّة، واستعبدت البشر، وورث الفاتحون الصالحون من أبناء الصحراء ميراث كسرى وقيصر في العراق وفارس ومصر والشام وآسيا وإفريقيَّة، وعبَروا إلى أوربا في أعظم انتشارٍ لأمَّة سعَت لتحرير الإنسان من براثن الفساد والطُّغيان واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، مبشِّرين بعقيدة حرَّرت العقول من الشِّرك بالله، ومن ضيق الدُّنيا إلى سعة النعيم الأبدي للمؤمنين الصالحين في الآخرة، ومن جَوْر الأديان والأحبار والرهبان إلى عدل الإسلام ورحابة شريعته وعصمة كتابه.

• قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ… ﴾ [التوبة: 34]، وكانت قِيَم التوحيد الخالص والعدالة والحرية الإنسانية هي ركيزة الأمَّة الجديدة التي قدَّمت نماذج فذَّة في السياسة والقيادة العسكريَّة، والإصلاح الاجتماعيِّ وبناء الحضارة.

كما قدَّمت للبشرية أفذاذًا في العلوم والآداب لم تَشْهد البشرية لهم مثالاً، فخشع الكون لإبداعهم، وانحنت الإنسانيَّة إجلالاً واحترامًا لعبقريَّتِهم، ومن تلكم النماذج الصدِّيق أبو بكر، والفاروق عمر بن الخطاب في السياسة والقيادة والحكم بشهادة علماءَ أفذاذٍ من غير المسلمين من مؤرِّخي أوربا وأمريكا.

ورأينا معجزة الإسلام في الحكم الرَّشيد وقيادة الدولة التي شَمِلَت العالم القديم في قاراته الثلاث خامس الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن عبدالعزيز.

ورأينا قادةً عسكريِّين أفذاذًا أمثال خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع، وقُتَيبة بن مسلم، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، الأمر الذي جعل القائد الانكليزي “مونتجمري” الذي حقق النصر للحلفاء في الحرب العالميَّة الثانية يصرِّح – إجابةً على سؤال الصحفيين – عن سرِّ نجاحه وعبقريَّتِه الحربية أنه تعلَّم فنون الحرب من خالد بن الوليد.

ورأينا قادة ورُوَّادًا في العلوم والفقه والشريعة؛ كالإمام علي بن أبي طالب، وأبي الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد، وسيبويه، والأئمة الأربعة، وتلامذتهم في الفقه: أبي حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعيِّ، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وابن حجر العسقلاني، والفخرِ الرازي، والقرطبي، والجاحظ، وابن قتيبة، وحماد بن إسماعيل الجوهري، وابن الهيثم، وجابر بن حيَّان، وابن رُشْد، وغيرهم عشرات، بل مئات أفرزَتْهم حضارة التوحيد، التي ارتكزت انطلاقتها وتمدُّدها على قوة الحق، وقوته الماضية:

إِنَّما الْحَقُّ قُوَّةٌ مِنْ قُوَى الدَّيْ يَانِ، أَمْضَى مِنْ كُلِّ أَبْيَضَ هِنْدِي

كما عبَّر شاعر النيل في داليَّته الشهيرة “مصر تتحدث عن نفسها”.

• إنَّها الأخلاق ومنظومة القيم التي تمثَّلَت في أخلاق النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتجلَّت في أتباعه صدقًا وأمانة وعدالة وتواضُعًا وزهدًا في الدُّنيا، وتعفُّفًا عن المَحارم والمال العامِّ والخاص، وتسامُحًا مع المخالفين من الشُّعوب الأخرى والجماعات الإنسانيَّة المختلفة، والانتصار للشعوب المقهورة والمستعبَدة، ومساعدتها على التخلُّص من مستعبديها من الحُكَّام الطُّغاة والمستبدين، وإقامة العدل بين شعوبها، وتمكينها من الحياة الحُرَّة الكريمة، مع تأكيد حرية الاعتقاد؛ ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29].

وهذا ما بهر أحمد شوقي أمير الشِّعر والشُّعراء في العصر الحديث، ودفعه لإفراد القصائد الطِّوال التي صارت روائع خالدة في مديح الرَّسول الكريم، والثناء عليه؛ مثل قصيدته البائية التي مطلعها:

سَلُوا قَلْبِي غَدَاةَ سَلاَ وَتَابَا لَعَلَّ عَلَى الْجَمَالِ لَهُ عِتَابَا

ومثل قصيدته الميميَّة “نهج البردة” التي مطلعها:

رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ وَالعَلَمِ أَحَلَّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ

ومثل قصيدته الهمزية التي مطلعها:

وُلِدَ الْهُدَى فَالكَائِنَاتُ ضِيَاءُ وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ

والتي يخاطب فيها الرسول، ويعدِّد مكارم أخلاقه، فيقول:

بِكَ بَشَّرَ اللهُ السَّمَاءَ فَزُيِّنَتْ وَتَضَوَّعَتْ مِسْكًا بِكَ الغَبْرَاءُ أَثْنَى الْمَسِيحُ عَلَيْهِ خَلْفَ سَمَائِهِ وَتَهَلَّلَتْ وَاهْتَزَّتِ العَذْرَاءُ بِسِوَى الأَمَانَةِ فِي الصِّبَا وَالصِّدْقِ لَمْ يَعْرِفْهُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالأُمَنَاءُ يَا مَنْ لَهُ الأَخْلاَقُ مَا تَهْوَى العُلاَ مِنْهَا وَمَا يَتَعَشَّقُ الكُبَرَاءُ زَانَتْكَ فِي الْخُلُقِ العَظِيمِ شَمَائِلٌ يُغْرَى بِهِنَّ وَيُولَعُ الكُرَمَاءُ فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالْجُودِ الْمَدَى وَفَعَلْتَ مَا لاَ تَفْعَلُ الأَنْوَاءُ وَإِذَا عَفَوْتَ فَقَادِرًا وَمقدرا لاَ يَسْتَهِينُ بِعَفْوِك َالْجُهَلاءُ وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّمَا هِيَ غَضْبَةٌ فِي الْحَقِّ لاَ ضِغْنٌ وَلاَ بَغْضَاءُ وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ وَرِضَا الكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِيَاءُ وَإِذَا قَضَيْتَ فَلاَ ارْتِيَابَ، كَأَنَّمَا جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ وَإِذَا أَخَذْتَ العَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

• وتبقى المنظومة الأخلاقيَّة المستمَدَّة من شرائع الرسالات السماويَّة، وهَدْي الرسل والأنبياء، هي التي تكفل الحياة السعيدة للجنس البشريِّ في دنياه وأخراه، وأيَّة منظومة أخلاقية تستند إلى الفكر البشري والتفكير الفلسفي تبقى ناقصة لا تفي بحاجات الحياة الإنسانيَّة الكاملة، ولا تحقِّق للإنسان التوازن الفطريَّ بين حاجات الجسم وأشواق الرُّوح، وبين الاستخدام الأمثل للعقل البشريِّ واليقين الكامل بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسلِه واليوم الآخر.

• وكم من فلسفاتٍ وأفكار بشريَّة جَنَتْ على الفطرة الإنسانيَّة، وأشْقَت البشرية، وأنزلت أفدح الخسائر في الجنس البشري؛ لأنَّها انطلقَتْ من المادَّة، وكَرَّستْ قيم التفكير المادِّي التي تسعى لإشباع غرائز الإنسان المادِّية، كما رأينا في الفلسفات الماديَّة – كالماركسية والوجوديَّة – المُلْحِدة، والشَّطط في العقائد السياسيَّة؛ مثل التوجُّهات الفاشية في إيطاليا، والنازيَّة في ألمانيا، والصِّهيونية في فلسطين السليبة، والفصل العنصري في جنوب إفريقيا سابقًا.

• بَلَغَ[1] شاعِرَنا الفيلسوف الدكتور “محمد إقبال” أنَّ أحد أصدقائه القرشيِّين مَفْتونٌ بالفلسفة، وقد أثرَتْ فيه تأثيرًا كبيرًا حتى زلزلَتْ عقائده زلزالاً شديدًا، فكتب إليه يقول في إحدى قصائده فيما معناه بالعربية: “أنا رجل – كما تعرف – أرجع في أصلي إلى (سومنات) المعبد الوثني المعروف في الهند، وكان آبائي من عُبَّاد اللاَّت ومَنَاةَ، وأن أسرتي عريقة في البرهميَّة (نسبة إلى طبقة البراهمة عند الهنود)، وأنتَ تجري في عروقك دماء الهاشميِّين، وتنتمي إلى سيِّد الأولين والآخرين، وقد امتزجت الفلسفة بلحمي ودمي، وجرَتْ مني مجرى الرُّوح، ورغم ذلك كله فإني أقول: إن الحكمة الفلسفيَّة ليست إلا حجابًا للحقيقة، وإنها لا تزيد صاحبها إلا بُعْدًا عن صميم الحياة، وإن بحوثها وتدقيقاتها تقضي على روح العمل، هذا “هيجل” الذي تبالغ في تقديره إن صدَفته خالية من اللؤلؤ، وإن نظامه ليس إلا وَهْمًا من الأوهام، لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيِّد، وفقدت شخصيتك، فأصبحت أسيرًا لـ”برجسون”.

إنَّ البشرية تريد أن تعلم كيف تُتْقِنُ حياتها؟ وكيف تُخلِّد شخصيتها؟ إنَّ بني آدم يطلبون الثبات، ويطلبون دستورًا للحياة، ولكن الفلسفة لا تُساعدهم على ذلك، إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه، أشرق العالَم، واستيقظ الكون، إنَّ الدين هو الذي يُنظِّم الحياة، وإنه لا يُكتسب إلا من إبراهيم ومحمد – عليهما الصلاة السلام – ومن الغريب أنَّ من اقتنص أشعة الشمس لم يعرف كيف ينير لَيْلَهُ؟ وأن مَنْ بحث عن مسالك النُّجوم لم يستطع أن يسافر في بيداء أفكاره!

——————————————————————————–

[1] انظر “مع إقبال – شاعر الوحدة الإسلامية” ص /32 – 33، للكاتب (مكتبة: النور بروكسي مصر الجديدة بمصر) الطبعة الأولى (1405 هـ – 1986 م).